بحذر شديد، يدخل الكهل إسماعيل جبر (70 عاما)، بوابة سجن السراي في قضاء الرميثة بمحافظة المثنى، خوفا من انهيار جزء من الجدران أو السقف، ليشق طريقه في البهو الرئيس للسجن، بخطوات مثقلة، وعيون تراقب كل حجر في المبنى التاريخي.
جبر، وهو أحد سكان الرميثة، ينتقل بين غرف المبنى، مستذكرا في كل منها حادثة معينة، فقد كان شاهدا على كافة تحولات هذا المبنى التاريخي وما شهده منذ تأسيسه في مطلع القرن الماضي، إذ يقول خلال حديث لمراسل “العالم الجديد” الذي رافقه بزيارة المبنى: “لقد استحصلت على بطاقة الأحوال المدنية ودفتر الخدمة العسكرية من هذا المجمع الحكومي، عندما كان مقرا للحكومة المحلية والشرطة لقضاء الرميثة”.
وبعد أن انتقل لغرفة أخرى، كانت مخصصة كسجن لتوقيف المتهمين، وما تزال كلمة “سجن” تعتلي بوابتها ومدخلها، يؤكد: “هذه الغرفة كانت لمبيت المعتقلين أو المعارضين للسلطة انذاك”.
وفي هذا المبنى الآيل للسقوط، يتحسر جبر، وهو يمرر يده على جدارنه، مشيرا إلى أن “السجن أصابه الإهمال الحكومي والتخريب من قبل المواطنين، لا سيما بعد 2003، فهذا المكان يجب أن يكون مرآة لتراث المحافظة لكونه شاهدا على جزء كبير من تاريخها”.
أكثر من قرن مضى على تشييد القلاع والحصون الدفاعية في محافظة المثنى، وقد اختلفت الجهات المشيدة وتعدد استخداماتها، بداية من فرض النظام القطاعي على المزارعين إبان النظام العثماني، ومن ثم تحولت لاحقا لثكنات عسكرية، كما استخدمت للسيطرة على تمرد العشائر في مطلع ذلك الماضي.
وأسس مخفر السراي على يد القوات البريطانية في مطلع القرن الماضي، هو مكون من 38 غرفة وبطابقين، مع تطابق الجانبين على شكل مربع يتوسطه فناء مفتوح، إضافة إلى وجود إسطبل للخيول فيه ومعالف، وهذه خارج المبنى الرئيس.
وحول هذه المواقع في المحافظة، يقول حيدر مهدي، وهو منقب آثار في مفتشية آثار المثنى، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إن “عدد المخافر بالمحافظة سبعة، وهي واضحة للعيان وموزعة في المناطق العشائرية التي كانت فاعلة آنذاك، مثل عشائر بنو حجيم وبنو زريج وبنو عارض، بعض هذه المواقع بقي شاخصا حتى اليوم وبعض الآخر تهدم واندثر”.
سجلت المخافر بأنها آيلة للسقوط وأنها تشكل خطرا على زائريها من السياح والباحثين، حتى أن احد المخافر سقط جزءا منه أثناء زيارة مجموعة من طلبة احدى المدارس الإعدادية.
ويضيف مهدي، “لقد خاطبنا الحكومتين المحلية والاتحادية بكتب رسمية منذ عام 2010 من أجل تأهيل المباني وتحويلها لمتاحف، وكل سنة يعدونا بإدراج المشروع ضمن مشاريع الموازنة، لكن عندما تصل لمرحلة التنفيذ تظهر مشاكل مثل العجز بالموازنة أو أزمات مالية أخرى”.
وقد شيدت هذه المواقع عند المناطق الصحراوية والمدن والقرى وعلى الحدود، ومن أبرز تلك المواقع التي ما تزال شاخصة لليوم، رغم أنها مهددة بالانهيار هي “الغليظة، الصافي، دبيس، الحجامة والزريجيّة، العارضيّات والخافورة”، وهذه جميعها شيدت بين الأعوام 1935-1937.
شعلان أبو الجون
ما يميز مخفر السراي عن المخافر الأخرى، أنه كان بداية لانطلاق ثورة العشرين، حين سجن فيه شيخ عشائر الظوالم، شعلان أبو الجون، الذي كان سجنه من قبل القوات البريطانية سببا بدفع أبناء قبيلته إلى اقتحام المبنى وإخراجه منه، لتعمد القوات البريطانية بعد هذه الحادثة إلى هدمه وبناء آخر أكثر تحصينا منه في المكان نفسه عام 1926، وهو القائم لغاية اليوم.
وشعلان أبو الجون ويكنى أيضا شعلان الشهد، هو شيخ عشيرة الظوالم إحدى عشائر مدينة الرميثة، وبسببه انطلقت أول رصاصات ثورة العشرين بعد أن حاول معاون الحاكم السياسي الإنكليزي لبلدة الرميثة (هيات) الزج به في السجن عقاباً لهُ على تحريضهِ الناس على الاستقلال وإعلان الثورة ضد الإنكليز، وتقلد أبو الجون بعض المناصب السياسية بعد ثورة العشرين، حيث انتخب نائبا عن لواء الديوانية عام 1930، ولغاية عام 1932، وجدد انتخابهُ في 1973.
وتختلف الروايات التاريخية بين الباحثين حول هذا السجن، فبعضهم يقول إن مكان السجن الأساسي الذي سجن فيه أبو الجون، كان في الجانب الآخر من نهر الرميثة، ويقع بالقرب منه، وأن هذه البناية بنيت بعد استقلال العراق من الانتداب البريطاني.
وبهذا الشأن، يوضح الباحث التاريخي مصطفى الغزي، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “المبنى الذي كان سببا بانطلاق ثورة العشرين وفق ما موجود بالمصادر، فقد بني ما بين الأعوام 1916– 1919”.
ويستطرد “لكن المرجح أنه تم تشييده عام 1919، وبعد الثورة هدم بالكامل ليأتي عام 1926 وتبني الحكومة العراقية السراي الحالي بنفس مكانه القديم”.
ويضيف “كذلك مخفر الخناق الذي استخدمته وزارة العدل كسجن مركزي في المحافظة لغاية وقتنا الحاضر، الذي يقع وسط مدينة السماوة في الجهة الصغيرة، فضلا عن وجود مجموعة من المخافر في قضاء السلمان (جنوب غربي مدينة السماوة) شيدت بداية القرن الماضي، لصد الهجمات وتأمين بادية المحافظة، وهي سجن أبوغار وبصية والسلمان والشبكة”.
وسبقت تأسيس هذا المخفر، مخافر عدة مثل مخفر الهلال، الذي يتوسط قضاء الهلال شمالي المثنى، والذي استغل كمركز شرطة من ثلاثينات القرن الماضي لغاية عام 2013، إضافة إلى اشتراك مديرية ناحية الهلال من عام 1970 إلى عام 2005 مع شعبة الزراعة والجنسية بإشغاله، واليوم تشغله مفوضية الانتخابات في القضاء، بحسب الغزي.
إلى ذلك، يؤكد الباحث الآثاري عبد الأمير العبودي، خلال حديث لـ”العالم الجديد” إن “بناء المخافر والحصون في محافظة المثنى تم على ثلاث مراحل، أولها خلال العهد العثماني وثانيها في زمن الانتداب البريطاني وثالثها في فترة الحكم الملكي”.
ويتابع: “غلب على طريقة بنائها العمارة القديمة والإسلامية، إذ تتكون من بوابات فخمة وأسوار عالية وأبراج حماية احتوت على مزاغل عمودية وأفقية بهدف المراقبة والرماية؛ لا سيما وأنها تقع وسط بيئة ساخنة معروفة بثوراتها العشائرية ضد الاحتلال الأجنبي”.
متحف تراثي
ومع تقادم الزمن على هذه المخافر ووجود عوامل التعرية كالرطوبة والرياح والأمطار، وإهمال الحكومات المتعاقبة، يطالب مواطنون ومنهم أبناء “أبو الجون” بضرورة صيانة “السراي” وتحويله إلى متحف أثري على غرار خان ضاري (غرب بغداد) الذي شهد ثورات مماثلة كالتي حدثت في الجنوب.
جاسم راجوج، حفيد شعلان ابو الجون، يبين خلال حديث لـ”العالم الجديد”: “طالبنا أغلب رؤساء الوزراء بإعادة صيانته إلا انه ضاع بسبب المحاصصة وتسلط الأحزاب الفاسدة، حتى زارنا رئيس الوزراء الحالي قبل أشهر ووعد خيرا لحين توفّر التخصيصات من موازنة العام الحالي، وإذا لم يف بوعده سنعيد تأهيله على حسابنا الخاص وبمشاركة بقية العشائر”.
ويضيف راجوج، أن “مقتنيات المشاركين بالثورة من الأسلحة البيضاء وغيرها موجودة في متحف شؤون العشائر بالمحافظة”، محذرا من “وجود بعض المستثمرين الذين يحاولون إزالة السراي وتحويله إلى مبنى آخر يخدم مصالحهم الخاصة”.
وأبدت الحكومة المحلية لقضاء الرميثة إنها عزمها على تأهيل مشروع “سراي المدينة” بعد مخاطبتها لمفتشية الآثار بالمحافظة، ومن ثم تحويله إلى متحف يوثق الحقب التاريخية الماضية والشخصيات البارزة، بالإضافة إلى تخصيص جناح منه لشهداء الرميثة على مختلف الفترات الزمنية الماضية، بحسب ما أكد قائممقام قضاء الرميثة حاتم الحساني في تصريح سابق.
ومن خلال عمقه الزمني دخل هذا “المخفر” لائحة الأبنية التراثية بعد أن نشر بالجريدة الرسمية، فهو يقع الآن تحت طائلة قانون الآثار العراقي، وينظر إليه كرمز للثورات والمقاومة، لكن يد التخريب والعبث بمكوناته امتدت إليه وسرقت بعض أجزائه من شبابيك وأخشاب وغيرها خصوصا خلال فترة التسعينات والأحداث التي رافقت ذلك العام.