صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

(عقاقير للصمت والحلم والنسيان – شعر وفوتوغراف)

يقدم الشاعر العراقي ناصر مؤنس، تجربة شعرية جديدة، يحاول فيها التجريب في منطقة عازلة في العقل والحياة، استثمار ما هو كريه ومزعج بصيغته الانسانية، او تحويل ما يوصف على الدوام بأنه المادة اللعينة التي تصيب الجسد فتعتل الروح، مؤنس المبدع، الهادئ البعيد والمنزوي في العتمة السارة، يكتب كما \”العائد من تجربة الموت\”، بلغة رسولية وبمناخ صوفي ينفتح على اللاهوتية المدينية يؤطر التجربة الجديدة.. \”سئمت صناعة الإيمان وكل هذا اللمعان الزائف لكلمات التوبة\”. 

\”العالم الجديد\” تخص قراءها الكرام، بمخطوطة شعرية صورية جديدة لناصر مؤنس، محتفية بحضوره.

(عقاقير للصمت والحلم والنسيان – شعر وفوتوغراف)

1

ماذا يريد الصيدلاني الساهر على رئة القصيدة؟

2

(عقاقير للصمت والحلم والنسيان – شعر وفوتوغراف)

عائداً من تجربة الموت، منكسراً كهدنة منافقة، متظاهراً بالخواء، تهبط من حافلة الحياة، تتردد قليلا، وتقول: خدعة الكون بحاجة إلى صيدلاني ليصدقها. إلى ساحر في أرض النسيان وصيدلية تملأها الأساطير. الأساطير المؤجلة، المختلَقَة، المخفية، وتلك المحفوظة عن ظهر قلب. 

أمن اللائق أن يتحول العالم إلى صيدلية؟

إلى سعال يؤرق نعاس حياتنا؟                                                                                                                      

تهبط من حافلة الحياة، وهي توصد خلفك بابها كستارة صامتة سوداء، في يدك حقيبة عتيقة، مكتظة بملاحظات الأطباء عن تاريخ موتك وبصور لشهداء ومقابر (المقابر رطبة من الذكريات). الذكريات فيها رطوبة الأشباح، الاشباح التي تقايضك على النسيان                                                                                                                                                  

(عقاقير للصمت والحلم والنسيان – شعر وفوتوغراف)

تعثر

 – غير طائع –

بالظل الواقف في داخلك وهو يداعب جثامين أيامه، بالنسيان الذي يحتاج إلى المزيد من العقاقير، بضحكات المصور وهو يلتقط صورة فوتوغرافية لسوادك، سوادك العائد من تجربة الموت.                                                                        

في قاعة انتظار المحطة، الساعة القديمة تطلق إشارتها إيذانا بوصولك، حيث ينتظرك صيادلة الكلمات حاملين الشراشف البيضاء والجرعات المطلوبة من الألم. حصتك من السفر إلى العالم الآخر وزجاجة مملوءة برماد جسدك، بجوارهم يقف ملائكة يحملون كاميرات تنتج كائنات غير قادرة على الحياة، وليس بعيداً، في الظل، هناك موتى ينتظرون انتهاء الطقوس ليدفنوا الأرواح في المرتفعات، المرتفعات التي سنلجأ إليها حين تحل نهاية العالم.                                                      

      

(عقاقير للصمت والحلم والنسيان – شعر وفوتوغراف)

3

عائداً من موت كان مختبئاً في داخلك على الدوام، تدخل صيدلية تشبه ردهة طائرة، وتقول، هذه الحياة لا تساوي أكثر من لعنة. وبعد أن تتيقّن أنّنا لم نبلغ الروحانية التي تعيننا على استدعاء ضمير العالم، تجلس فوق عقاقير غادرها مرضى صمتهم قليل، لم يحبوا النعم والبركات. تسأل، ماذا تفعل الآخرة بكل هؤلاء الموتى؟، ماذا تفعل فكرة الألوهية بسعادتنا البشرية؟  ستحتفظ بما للرب من نصيب، وتقول، القيامة محكمة تفتيش مقدسة نحن ضحايا الإيمان بها.                                    

تسأل المستقبل أملاً لا يملكه                                                                                                                     الساهر على روحك الميتة، يا من نسيت النعاس والزمن أنتَ                                                                                             

تقول، سعيد هو الملاك

الذي يحضر حفلة القيامة

بملابس

لم يقترحها الله

4

(عقاقير للصمت والحلم والنسيان – شعر وفوتوغراف)

تدخل إلى صيدلية الحياة وتقول، ليس هناك ما هو موحش أكثر من صيدلية موحشة!

5

(عقاقير للصمت والحلم والنسيان – شعر وفوتوغراف)

تقول، الكائنات هي أسمال الله البالية، وتفتح مختبر الذكريات، تطارد أطباء بأردية بيضاء يبيعون عقاقير الصمت لهذه الكلمات الممددة على الأرائك كالمرضى. بأنفاس لاهثة، تدخل ممرضة، يدخل راهب يصرخ ويدخل ملاك، لا يريد القول: إن الله لم يبدأ (حتى الآن) بإعمار هذا الكوكب                                                                                                      

لا يريد أن يقلل من شأنه

لا يريد أن يتحدث عن سذاجته بإدارة هذا العالم

أو رسمه لحياتنا بهذا الشكل المضحك

أو بعقابنا بالبقاء أطول فترة إلى صدر الأم (بخلاف الحيوانات الأخرى)

أو رمينا إلى هذا العالم المليء بالمخاطر

بلا حماية

بلا حضانة

لا، لا يريد الدخول في هذه الأساطير العتيقة

كل ما يريده، هو أن ينزع مرض المرضى

يحمله إلى تلك المجرات التي يستحيل بلوغها

بعيداً عنا، نحن القاطنون في مهب العاصفة

في هذه الحياة الباطلة  

في شاطئ الأمل.

(عقاقير للصمت والحلم والنسيان – شعر وفوتوغراف)

6

عائداً من تجربة الموت، موشحاً بالسواد كظل يمتزج بظلال أسطورية، تقول، الله الذي يستخدمه الناس كصدرية لحماية ألاعيبهم، يقرر – من دون سابق إنذار – الانسحاب من كتب العقائد والأديان والتوجه إلى أول كلمة جاءت في البدء.  لكن أول كلمة ضجرت من هذا الكون المرقع كبدلة مهرج، سئمت هذه الروايات، سئمت الدخول كل يوم إلى معابد الورق، سئمت خديعة القواميس وانتزاع روحها، أحلامها وأجراسها. سئمت صناعة الإيمان وكل هذا اللمعان الزائف لكلمات التوبة.          

تريد العودة إلى صمتها السرمدي

حيث لا يبلغها الزمن ولا البشر

إلى الأجرام الغامضة البعيدة

وكنوز أحجارها المكتوبة بإملاء من الضوء.

أيها الضوء، يا تجلي الأرباب

دع هذا الحجر يضيء

دعه يلمع

ودعنا نتأمل سعادته الغابرة

عندما كان الحجر يعلو في الأقاصي

كأول إله يعبده الإنسان.

(عقاقير للصمت والحلم والنسيان – شعر وفوتوغراف)

7

 في هذا المساء الملطخ بالدم والعواصف والذكريات، تعود كحراك متهدل، تحمل كتاب الحكمة الخفية، وتسأل الذكريات التي تتربص بكَ على هيئة مرضى مأجورين، أن تمنحك كنزاً لا تملكه. تجلس في خلوة وتحاول التوفيق بين الموت والحياة، تقول، الزمن يصنع الوثائق

تقول، نعم، العقائد، أساطير مزورة

خدعنا بها الأنبياء السَّيئون

البارعون

رواد الصناعات البدائية

حراس الموت المقدس

سحروا حياتنا بالثياب الملوثة بالدم

وفتنوا رؤوسنا بالإصغاء إلى إغواء العدم.

تقول، الله مثل معاهدة سلام بين الشك والإيمان، الطرف القوي يفرض شروطه.

تقول، الحرب بطاقة حمراء أخرجتنا إلى المنفى.

تقول، الكلمات تمرض أيضاً، القصيدة فريسة الداء والكتابة خيانة تضاعف النسيان

خيانة تحاول أن تبقى على قيد الحياة.

تقول، كيف لم تصل أعاجيب الجراحين إلى إدخال السيليكون إلى القصيدة؟ (ربما، سيتقدم أحد النقاد بهذا الاكتشاف).

تقول، نعم، الجمال، الجمال النادر

لقد مات أثر إصابته

بجراثيم العالم.

(عقاقير للصمت والحلم والنسيان – شعر وفوتوغراف)

8

كانت هذه الذاكرة ذاكرتي

وهذا الإرث الأسود

هو روحي العائدة

من الموت.

(عقاقير للصمت والحلم والنسيان – شعر وفوتوغراف)

9

 عائداً من تجربة الموت إلى الحلم السيئ للحياة، تقول، الله يختار ملائكته. لقد انطلت عليك الحيلة، أرأيت يوما ميت يحلم؟ أرأيت الأشباح تقايضك على ثمن النسيان؟ أرأيت ذكرى تذهب ولا يمكن استعادتها؟ أرأيت الملاك يرفض مباركة رجل يموت؟

تقول، بماذا يحلم النائم في العدم.

(هذا المجاز، لا جواب له)

تنظر إلى الثقوب السوداء التي تزين الكوكب، إلى المستقبل كوهم عنيد، إلى غياب الثمرة المحرمة، لتأكلها، وتعرف معنى الخير والشر. إلى هذه الندوب في القول. تقول، ألم يتعب الله من عزلتهِ الطاهرة؟                                                        

تقول، أيها الأب

يا صيدلاني العالم

يا من تزعم أنكَ أنتَ

ماذا تفعل أقدارنا المدثرة بشراشف سوداء؟

ماذا يفعل هذا المشرط الملوث بالدم؟

ماذا تفعل هذه الجثث المتعفنة وكل تلك الميتات الصامتة؟

ماذا تفعل كل هذه الشموع في غرفة العمليات؟

ماذا تفعل معجزاتك المختبئة في دورات المياه؟

ماذا تفعل هذه الكائنات المدفوعة إلى الألم كحصاة في مثانة الكون؟

ليتك ترى – أيها الأب – عدد العقاقير في خزانتي.

10

خارجاً من ظلمة الرحم ترقب ملائكة يتجادلون في غرفة الولادة، تنظر إلى أفواههم وهي تنفتح وتنطبق بلا صوت. كنتَ المراقب الوحيد لملاك يلتقط الصور الفوتوغرافية، وكان الملاك يصور الخيالات المفقودة، المصغرة على نحو غريب كنقطة تجريدية، كانت الخيالات تلتف أو تتشنج وترسم عوالم غير متخيلة من قبل، كانت تريد أن تقلب الحس بمنظر الأشياء، تغرر به وتدخله ردهة المرضى، تريد أن تصور الخيال كخيال، تجعل منه أسماً راشداً، وكانت تظن أنها قادرة على تصوير الافتراضات التي تشرق في خيال العدم.                                                                                                           

تلك الولادة الغريبة التي سبقت صحوتك، صحوتك الملطّخة بعطر السحر

السحر الذي يختلط فيه الكبريت بالبخور

كانت تريد احتضان حبة الغبار، غبارك أيها الصمت.

تقول، في غرفة الولادة هذه

التي أعدها القدر لعروض مصائرنا

تتعطل الإضاءة – أحيانا-

ونحن نعدو في الفضاءات اللانهائية

في طريقنا إلى الرب – زعيم الحرب القبلي الذي أصبح رمزاً كونياً.

11

تقول، الزمان لا تفكر فيه إلا كائنات تحيا على كوكب دوار،

كيف اهتدى الإله إلى فكرة الزمان؟

تقول، هناك شيء غامض في هذه الحكاية التي تعتريها الشكوك

وتفكر بمرآة بلا آمال أو مخاوف.

تقول، آمل أن يحصل الرب على ساعة جيب

ليخبرنا

بوقت القيامة

وآمل أيضا

أن تكون ساعته دقيقة جداً

في حدود خطأ

لا يتعدى

ملايين السنين.

12

ماذا يريد الصيدلاني الساهر على رئة القصيدة؟

ماذا يريد الحالم الذي يظهر في الحلم؟

يريد القليل

القليل المتاح لنا

لنخرج من مكيدة الحياة عديمة الجدوى، يريد البذرة الذهبية مزودة بفضيلة الأمل الذي يصوننا، يريد أن يقوم بهذه المهمة الشاقة لاكتشاف الذات، يريد السعادة الأبدية التي لا يمكن أخذها على محمل الجد، يريد العلاج بموعظة الجلال القادم من المعرفة، ولا يريد أن يكون بائعاً متجولاً لعلاجات شعبية.                                                                                     

يريد بركة المخلص الذي يعرف نداء الداخل

يريد العيش الأكثر قسوة للزاهد المتجول

وهو يدرك أن محبة الآخر ليست رياضة سهلة.

يريد أن يسترجع ما هو منسي فينا

يريد أن يتبع اللهب الذي يقودنا إلى الأبدية

لا يريد هذا العالم الذي يجري بسرعة نحو الحريق.

يريد أن يصغي إلى الصوت السري البعيد

إلى صفير القطارات النائية، ويتبع المغامرة

في الحقول المحفوفة بالخطر 

في الينابيع التي سنولد من مياهها النقية.

لا يريد صيدلية الحياة المشيدة من قبل الإله والمعبرة عن وجهة نظره.

يريد القول، ما تفعله الأمراض صحيح تماماً

فلن تكون أمعاؤنا قادرة على هضم كل هذا (العلف) من العقائد.

لا يريد هذا الإله الغائب

يريد أن يعود صوت الإله ليتحدث بطريقة فورية إلى البشر.

يريد الأرواح التي تحرس الغابة، يريد القصيدة أمام الشمعة

تفكر بالشعراء الذين يحتاجون إلى العقاقير.

يريد أن يجمد هذا الموت بداخله، يدفنه كمن يداعب مهابة صوفية مرهونة بفيض من الكرامات.

لا بأس، أن يزوره أحياناً

كسائح يزور أثاراً قديمة

ويلتقط صورة فوتوغرافية لسَّياجه المهدم.

يريد أن يتذكر الأغاني الرائعة للغربة

ولا يعود إلى أرض الوطن

يريد أن يكتب عنه

(مات في المنفى)

13

عائداً من هذا القدر الماكر، الشقي، المراوغ، المحتال، تقول، يا لروعة السماء، ليس سماء الرب، بل تلك المضيئة في صالات القمار، وتطلق دعابة عن النهايات التي لا يمكن التنبؤ بها.

تقول، أيها الأجل، كم أنتَ ضئيل في النهاية.

هذه حياتي الراقدة فوق وسادة الكلمات

يسردها صيدلاني قليل الخبرة

يمسك بمشرط الجراح

ويداعب احتضارها بألم جليل.

سأطفئ الأنوار

وأجلس لمشاهدتها كفيلم طويل

أبيض وأسود

صامت

وقديم.

هولندا 2013

إقرأ أيضا