تبدو المراهنة على ضحايا مرض الثلاسيميا، وما تستدعيه من تعاطفات، وتستدره من مشاعر، في مقدمة الأسباب التي حملت الروائي نوزت شمدين على دخول هذا العالم، وكتابة هذا النص، واختيار ديسفيرال عنوانا له، وهو اسم دواء يحقن في جسد المريض لتخليص كبده من ترسبات الحديد. وفيه أيضا تتجلى هواجسه الصحافية والإنسانية وذكاؤه المهني وحاسته الفائقة في ملامسة أسباب عذاب البشر، وصناعة مصائرهم، وتحولات حياتهم، وأقدارهم. وهو أيضا محاولة لتذكير العالم بوجودهم، والحاجة إلى الالتفات إليهم. هكذا ذهبت القراءات الأولية للرواية بهذا الاتجاه، بوصفها نوعا من ريبورتاج صحافي كبير، او قصة خبرية تقدم وقائع مرضى الثلاسيميا من زوايا فنية وإبداعية. وسيطرت صورة المرض على النص..
“قراءة متأنية..”
بيد أن القراءة المتأنية للنص، القراءة المتحررة من تأثيرات العتبة، يمكن أن تفضي إلى نتيجة أكثر خطورة. ليس مرض الثلاسيميا نفسه سوى عرض من أعراضها. إنه نوع من عقاب إلهي، بسبب أخطاء وخطايا اقترفها الآباء. أعني عقدة الشعور بالذنب. في رواية ديسفيرال تسيطر هذه العقدة تماما على مشاعر الأب، معتقدا أن كل ما يصادفه من مشاكل وعذابات ومعاناة هي في النهاية، ضرب من عقاب إلهي. هذه الثيمة تشكل الملمح الأبرز في ديسسفيرال، وفيها يلقي نوزت الضوء على الحياة الداخلية لأشخاص روايته. وهي ثيمة قلما انتبه إليها الساردون العراقيون في أعمالهم، على الرغم من شيوعها إلى حد كبير في كبريات نصوص الأدب الإنساني. هذه العقدة هي التي حولت حياة راسكولينوف الطالب الفقير الذي قتل العجوز المرابية في رواية الجريمة والعقاب لدستويفسكي إلى جحيم حقيقي بسبب تفكيره الدائم في العقاب الإلهي، واستحالتها لديه إلى عقدة لا يجد لها حلا سوى الاستغراق بالألم. وكذلك السيدة ماكبث وماكبث نفسه في مسرحية شكسبير التي دفعت زوجها لقتل ملك اسكتلندا والسيطرة على العرش، وعاشت بقية عمرها تعاني بسبب عقدة الشعور بالذنب من نوع من الانتحار البطيء. هذه العقدة تشغل حيزا مهما من تفكير الناس عندنا. وهي الصوت الداخلي الذي لا يمكننا مراوغته، والزوغان بعيدا عنه. إنه صوت الضمير الفردي الذي ليس بالوسع قمعه أو خداعه. وهو جزء مهم من ثقافتنا، وواقعنا، وطرائق تفكيرنا. وهي تتجاوز عندنا المشاعر والمصائر الفردية، إلى حد تفسير وتبرير مآسينا التاريخية والسياسية والاجتماعية. فعند كل كارثة ثمة من ينبري ليرفع الصوت في وجهنا، مشيرا إلى أنها عقاب من الله، وعلينا العودة إلى الطريق القويم.
“محرضات الكتابة..”
غير أن قراءتي للنص حملتني على التفكير بها بطريقة مختلفة، وفهمها على نحو مغاير. فمحرضات الكتابة لدى المؤلف لم تتوقف عند التعاطف مع ضحايا الثلاسيميا. بل وظفت المرض نفسه كأداة لكشف وتفكيك تشوهات مجتمع يعاني من أمراض كثيرة يمكن للثلاسيميا أن تقدم نوعا من تلخيص واختزال لها. الثلاسيميا ليس مرضا عاديا، إنه واحد من أمراض المجتمعات المتخلفة، وهو ينتج عن هيمنة الجهل بأسبابه، ونقص في إجراءات الوقاية منه، وهو يتمثل بعجز الجسم عن إنتاج الدم، ما يضطره لكي يستمر في البقاء لأخذ جرعات من الدم بشكل دوري ومستمر. هذا التعريف البسيط للمرض يحيل مباشرة إلى صورة مجتمع، لا يستطيع إنتاج اسباب بقائه، ويعيش في تطفل مستمر، على ما ينتجه الآخرون. المحرض لدى المؤلف في اختيار موضوع الرواية إذا يتجاوز مسألة التعاطف مع مرضى الثلاسيميا، إلى قراءة تماثلية لحالة مجتمع يعاني من الشلل شبه التام، ويعيش على ما ينتجه الآخرون. إنه مجتمع مصاب بثلاسيميا مزمنة، مجتمع ينتظر موته، الذي لا يأتي في أوانه، ولا يتحقق له الشفاء، وتعجز حتى أرقى المراكز الطبية في أوربا، عن العثور على نسيج شبيه بنسيج نخاعه الشوكي، لزرعه في جسده، وإعادة دورة إنتاج الدم فيه إلى العمل. مجتمع يتطلع إلى آخرته ساهيا عن لحظته. (إن استمراري في الحياة خطأ ينتظر التصحيح).
“دم على الأرض..”
هذا الانطباع السريع الذي تولد لدي عند قراءتي الأولية السريعة للنص، حملني على إعادة قراءته متتبعا، خيوطه، ومحطاته، في شعاب النص. في المشهد الأول، المشهد الاحتفالي بولادة جابر الطفل الأول لآل سعيد، بعد إنتظار ست عشرة سنة، يصيب نثار من دم أحد الكبشين المذبوحين بالمناسبة، الثوب الأبيض للإمام شجاع، فيرتد إلى الخلف ليتعثر بالكبش الثاني، ويسقط على ظهره في بركة الدماء. ينهض لاعناً آل سعيد، طابعا آثار خطواته الحمر الملطخة بالدم على الأرض. هذا المشهد مصنوع بطريقة سينمائية ذكية. توفر قراءة لحظية لأحداث الرواية، المصطبغة حتى نهايتها بالدم. تشبه الثلاسيميا في بعض مشاهد الرواية حالة مصاصي الدماء، نوع من مرض وحشي بدائي منقرض، لكن ظهوره يرتبط بحالة التخلف المريع في بعض المجتمعات. والثلاسيميا بهذا المعنى مرض ثقافي ومعرفي أيضا. . لست بصدد تقديم ملخص للرواية ولكني أتتبع مؤشرات رؤيتي للنص. لقد استطاع المؤلف أن يقدم مقطعا رأسيا لحالة التخلف، ودور الخرافة في صناعة وتوجيه الحياة، ومعالجة مشاكلها وأمراضها. ثمة تركيز خاص، وممنهج، وغير عادي من قبل المؤلف على رسم منحنيات الفكر الخرافي لدى شريحة مهمة من المجتمع الموصلي، مستخدما المرض كمؤشر للكشف عن مقدار وعمق تغلغله في ثقافتهم. السحر، والجن، والتلبس، والقضاء، والقدر، والصبر، والامتحان الالهي . وبدل التفكير بحل لمشكلة جابر، وتخليصه من المرض، فإنهم يجادلون في مكانه بعد الموت، في الجنة، أم أنه ينتظر في البرزخ إلى قيامة الساعة. بل إن الامام شجاع رشحه في وقت ما للقيام بعمل جهادي، تفجير نفسه على الكفار المحتلين، ويكسب بذلك الفوز بالشهادة. وكثير غيرها من تجليات ذلك الفكر الذي يحتاجه الناس لتبرير حالات عجزهم. والتسليم باقدارهم، وتحمل نتائجها، ومثلهم الأعلى في ذلك قصة نبي الله ايوب عليه السلام، (الذي كان يعيد الدود إلى جراحه النازفة رافعا مستوى الامتحان). ورموز هذه الثقافة في الرواية تتمثل بالملا خليل، والحاجة غنية، وأيوب البقال وبشير الحلاق، والإمام شجاع. الذي يظهر فيما بعد، بوصفه أحد أبطال المقاومة ضد الأميركان. قائدا لمجموعات من الملثمين المسلحين. وفي إشارة بليغة إلى طبيعة أعمالهم. تقوم هذه المجموعات بنحر (وليد) صديق جابر. الطفل الشجاع والقوي القادر على التغلب على عجزه الخلقي. تشوهه وشلل إحدى رجليه. ومقاومة عدوانية الآخرين. وهو رمز إيجابي في الرواية يوحي بقوة الحياة وحضور المستقبل. ولا ينجو من ابتزازها وعدوانها لا المتدين سليم مجيد آل سعيد والد جابر. ولا حتى أيوب البقال شيخ المتصوفة، الذي وجد في غرفته واسياخ الحديد مخترقة جسده، ورصاصات في رأسه..
“تقنيات السرد الروائي..”
لجأ المؤلف لاستخدام بعض لعبات السرد المعروفة. من قبيل توظيف الأحلام، في التمهديد أو التأشير لما سيأتي. حلم زاهدة أم جابر قبل ولادة جابر. حلم جابر في المشفى. التعايش الحلمي بين وليد وجابر. وهو ابدع في استخدام توظيف عملية نقل الدام إلى جابر، في تحقيق لعبة سردية، تتمثل في نقل مشاعر واهتمامات وثقافة المتبرعين بالدم إليه طوال مدة جريان دمهم في عروقه. أي مدة ثلاثة اسابيع. وحين تبرع له سليم بالدم، تكشفت أمامه بعض اسرار حياة والده، التي اثقلت عليه، ربما اطلع على أسباب عقدة الشعور بالذنب التي يعاني بشدة منها الأب. كان قد تعلم من تجاربه السابقة ألا يبوح بما يتيسر له معرفته، وأن يكتم في جوفه سر الدم الذي يجري في عروقه. “اكتشفت درسي الحياتي الأول بأن الكلمات أكثر شيء يخشاه الناس”، هنا أتذكر سليم سيناء الشخصية الرئيسية في رواية أطفال منتصف الليل لسلمان رشدي. حين تغلغل إلى مراهقات أحلام أبيه، وانشغالات أمه، وتشتتها الخياني. ولكن الذي ايقظ في جابر حس الحياة ورومانسيتها، وسر السعادة فيها، كان دم ليان، الجميلة صاحبة متجر بيع الورود. ليان التي أحبها، وأنسته لأسابيع ثلاثة فقط قدره المرضي، وبشاعة وآلام حياته، وحركت في مخيلته أجمل وأعذب الأحلام. جعلته يلتفت إلى نفسه، يهتم بمظهره، في محاولة منه للتقرب إليها، مستخدما ذاكرتها التي انتقلت إليه مع دمها، في لفت نظرها، وإثارة إهتمامها. لكن ليان في اللحظة التي خطط فيها لمكاشفتها بحبه، ورتب لها بدقة، يحضر نسيم حبيبها، ويخطفها من أمامه. أما بقية الذاكرات التي كانت تنتقل إليه مع الدم، فلم تكن تعدو، المحفوظات الدينية، والمعلومات التاريخية، والثقافة المدرسية، مختلطة بالكثير من الأوهام والخرافات والتعصب والكراهيات. بوساطة هذه التقنية الروائية يقدم المؤلف رؤيته لثقافة واهتمامات المجتمع الموصلي، في السنوات الأولى ما بعد التغيير والاحتلال.
“العقاب الرباني..”
وبعد اكتشاف مختبرات إيطاليا المتطورة عدم التطابق 100% بين نسيج النخاع الشوكي لدى شقيقه ونسيج نخاعه. يعود جابر إلى حالة إنتظار موته. مجرد جثة تعيش على دماء الآخرين. نوع من دراكولا. في تلك اللحظة يتفجر السر الدفين الذي ظل يعذب الأب سليم، سر العقاب الإلهي الذي حاول التخلص منه، شعوره بارتكابه اثم شنيع. كان فتش طوال حياته عن عقوبة مناسبة يوقعها بنفسه، ويخلص جابر من تبعات ذلك الإثم. إعترف امام زوجته زاهدة بأنه كان قاتل ابيها الشيخ عزام، لا الرصاصة الطائشة، للتخلص من ممانعته من الزواج منها. “من اللحظة التي ضغط فيها أصبعي على الزناد، والندم يقض علي مضجعي، فلا هناء لي بنوم، ولا طعام ولا هواء أتنفسه ولا شيء أقوم به فيشفع لي خطيئتي وجرمي. وبدلا من أن أتلقى الجزاء على فعلتي في بدني أنزل الله العلة في رحم زوجتي، رحم ابنة الرجل الذي قتلته لأضع فيه بذرتي”. خطاب الندم المرير هذا يذكر على الفور بنص شكسبيري من مسرحية ماكبث. وفي الطرف المقابل، يحدث لدى جابر نوع من التمرد ” سيتفهم الله تماما عندما أتوقف عن الإيمان به، لأنه وعلى مدى سنوات مرضي الطويلة، لم يستمع لدعاء واحد بشفائي” إذا كانت الثلاسيميا هي مرض الثقافة الموصلية والمجتمع الموصلي، رامزا إليها بجابر، فإن رؤية المؤلف تبدو شديدة القتامة وقاسية. إنها صورة لمجتمع يعيش حالة احتضار مستمرة، لا فرصة لشفائه وتعافيه، لكنه لا يموت. بل من الممكن في لحظة ما تحت تأثير اليأس أن يتمرد.
بسبب تشابكه وتعدد مساراته من الصعب تقديم خلاصة للنص، ولا أعتقد أن بوسع اي محاولة اختزالية الإحاطة بتعقيداته. وفي قراءتي تعمدت الإكتفاء بالإشارة إلى مخرجات القراءة، وما تحيل إليه من أفكار فقط، لأنني أعتقد أن لا شيء يمكن أن يغني عن تجربة قراءتها، والرحيل مع شخصياتها في أسفارهم الشقية والمعذبة. والرواية بعد ذلك رشحت من قبل دار سطور ودار سنا ودار سومر للنشر لجائزة البوكر العربي، وأعتقد من خلال قراءتي لها أنها تتوفر على كل الاسباب التي ترشحها للفوز. اللغة، والتجربة، والشخصيات، والرؤى، والأصوات، والقدرة غير العادية على صناعة الرموز.
خاص بـ”العالم الجديد”