عنصر (المؤامرة) في الربيع العربي حقيقة أم يوتوبيا؟

عند قيام الانتفاضات العربية منذ ثلاث سنوات، كانت قد برزت عدة آراء بصدد الأحداث بين من كان متحمسا لهذا الحراك ومرحبا بهذا التغير الذي تأخر كثيرا، خلافا لبعضهم الذين كانوا وما زالوا يبدون تحفظات على الأحداث لدرجة التشكيك بها، فمناصرو هذا الرأي يعتبرون أن ما يجري في العالم العربي من تحولات لا تشكل إلا نوعا جديدا من الاستعمار الإنكلوساكسوني للمنطقة.

لعل ما يدفع إلى تبني منطق المؤامرات على ضوء ما يجري في الساحة العربية من تغيرات جيوسياسية وفوضى عارمة، هو ما تركه تنامي التدخلات الأجنبية في المنطقة من إحساس بالظلم والضعف في نفوس الشعوب، بسبب نهج سياسة الكيل بالمكيالين من طرف بعض القوى الدولية الكبرى خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها التقليديين ليصبح الوطن العربي معها مختبرا لتجريب سياستها التوسعية.

فبعد خلافات عميقة استمرت لعدة سنوات بين الولايات المتحدة الأمريكية وليبيا، بسبب المطالب الإقليمية الليبية بشأن خليج سرت؛ توغلت البحرية الأمريكية في مارس 1986 لمسافة 12 ميل بحري داخل المياه الإقليمية الليبية. فكان الرد الليبي على المناورات عدوانيا ما أدى إلى أحداث خليج سرت. بعد أقل من أسبوعين، وبالضبط في الخامس من أبريل انفجرت قنبلة في ديسكو\” لابيلفي\” ببرلين الغربية ما أسفر عن مقتل جنديين أمريكيين وامرأة تركية وجرح 22 آخرين، لتشن 66 طائرة أمريكية انطلق بعضها من قواعد بريطانية غارة وقصف على العاصمة الليبية طرابلس، ومنطقة بنغازي، مع تبرير الرئيس الأمريكي \”رونالد ريغان\” الهجوم عن طريق اتهام ليبيا بالمسؤولية المباشرة عن الإرهاب الموجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية والشعب الأمريكي.

وفي نفس السياق، شهدت ليبيا تهمة جديدة سنة 1988 في ما يعرف بقضية \”لوكيربي\”، إضافة إلى التدخل في الصومال تحت شعار \”إعادة الأمل\”، والعدوان الثلاثي على مصر والحرب على العراق سنة 2003 المرتبطة أساسا بحجة امتلاك النظام العراقي لأسلحة الدمار الشمال، ليتضح في ما بعد أنها ليست سوى تصفية سياسية مع نظام صدام حسين. هذه التدخلات خلفت استياء وسخطا واسعين لدى الشعوب العربية وإن اختلف وتباين هذا الشعور بين بعض الأنظمة العربية.. كما أن استمرار احتلال الأراضي الفلسطينية من قبل إسرائيل أسهم في فقدان الثقة لدى العرب على قدرة المجتمع الدولي على إنهاء معاناة الإنسان الفلسطيني.

إضافة إلى التدخلات العسكرية السابقة، فقد شكلت محاربة ظاهرة \”الإرهاب\” خاصة بعد أحداث 11 أيلول 2001 عنصرا آخر يجعل المؤامرات قائمة، خاصة ما ترتب على الظاهرة من الخلط بين العنف المحرم والكفاح ضد الاستعمار بما يقتضيه حق الشعوب في تقرير مصيرها، علاوة على مقاربتها التي أصبحت ذريعة للتدخل والخلط – المقصود أحيانا – بين الإسلام كدين متسامح والعنف كظاهرة مجتمعية، وربط هذا الأخير بحضارة معينة كالحضارة العربية الإسلامية. ولعل ما سيزيد هذا الفهم الخاطئ للدين الإسلامي بروز نظريات غربية في هذا المجال كنظرية \”صدام الحضارات\” لصامويل هنتنغتون التي لم تسلم من عدة انتقادات.. كما يرى المدافعون عن هذا الرأي، بأن الثورات العربية لم تكن ذات دوافع وأسباب داخلية صرفة، فقد أطلق وزير الخارجية الأمريكي السابق كولن باول مبادرته الشهيرة عن \”الديمقراطية والتنمية\” في نهاية عام 2003، ليدرك الحكام العرب أن إدارة واشنطن جادة في فرض أجندتها على بلدانهم خلال المستقبل القريب. وبعد مبادرة \”باول\” تساقط سيل من المبادرات على المنطقة العربية منها مشروع  \”الشرق الأوسط الكبير\” و\”الشرق الأوسط الموسع\” و\”الإصلاح ونشر الديمقراطية\”. كل المبادرات السابقة كانت محل نقاشات ومحادثات بين القادة الأمريكيين والعرب، لتتحول في ما بعد إلى محاولة تفعيلها على أرض الواقع، بدأ بقمة الدول الثمانية في جورجيا وما تلاها من قمة إسطنبول لعام 2004. إلا أن التطور البالغ الأهمية الذي شهدته المنطقة العربية، تجلى في ما أطلقت عليه وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة \”كونداليزا رايس\” سنة 2005 \”الفوضى الخلاقة\”، وهو مخطط يستهدف إحداث القلاقل في المنطقة، وصولا إلى إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية طبقا للمصالح الأمريكية – الإسرائيلية في الشرق الأوسط بما يتماشى مع مشروع \”الشرق الأوسط الكبير\”.

أما الرأي الثاني، فيرى بأن العوامل الداخلية من قبيل \”تفشي الفساد السياسي والمالي\”، و\”غياب الديمقراطية\” و\”عدم احترام الحقوق الإنسانية\” داخل بلدان الربيع العربي هي ما كان لها سبب في تفجير تلك الاحتجاجات الشعبية، فالشعوب العربية تجمعها عناصر مشتركة ثقافية (كاللغة والدين..) واقتصادية (ارتفاع المديونية، الفساد المالي، غياب تكافؤ الفرص…) وسياسية (خضوعها للاستعمار، الاستبداد..)، ومن أهم العناصر تلك المتعلقة بطبيعة الأنظمة السياسية الحاكمة، ما جعل الاستبداد أهم المظاهر التي عانت منها المجتمعات العربية على مر عقود من الزمان ومنه استبعاد العوامل الخارجية.

من جهة أخرى، استفادت الشعوب العربية من ثمار التطور الحاصل في مجال التواصل والمعلوماتية بشكل كبير، حيث شكل العالم الافتراضي فضاء ديمقراطيا يتم التعبير من خلاله عن الآراء السياسية بكل حرية بعيدا عن رقابة سلطات الدولة. كما أسهمت هذه الوسيلة في مواكبة تطورات المشهد السياسي وقدرتها في التأثير على الرأي العام العربي والدولي ليكون معها شعار الثورة مسموعا في الداخل والخارج أيضا.. فما تعيشه البلدان العربية التي مر بها الحراك المجتمعي، يدخل في سياق ما سمي في أدبيات علم السياسة بـ\”العدالة الانتقالية\”، حيث تعد هذه الأخيرة إحدى الوسائل التي تتخذها الشعوب الهادفة إلى الانتقال من نظام يسوده الاضطراب وغياب الأمن والاستبداد، إلى نظام أكثر استقرارا وأمنا وانفتاحا على مبادئ الحرية والديمقراطية.

ومع وصول قوى الإسلام السياسي في الدول العربية (المغرب – تونس – مصر.) وفي ما بعد فشلها في الحكم في نفس الوقت، علاوة على غياب الاستقرار والأمن داخل بلدان الربيع العربي، يدفع بعضهم إلى القول بأن الأمر غير طبيعي وليس صدفة بل هناك مؤامرة. فالأمر حسب تصور هؤلاء يحمل في طياته رسائل من الغرب لتلك التنظيمات خاصة وللشعوب العربية الإسلامية عامة، مفادها أن الإسلام لا يصلح كنظام للحكم، وغير قادر على تحقيق تغيير مجتمعي يستجيب لمتطلبات العصر الحديث. فكيف يمكن تفسير هذا؟؟
عندما رفعت شعارات التغير في المنطقة العربية، كانت كلها تتجه نحو إعادة بناء الدولة على أسس جديدة على رأسها الديمقراطية والقطع مع سنوات الاستبداد. لم تكن هذه المطالب تتحكم فيها دوافع دينية كإقامة إمارة الخلافة بل شكلت بناء الدولة المدنية أهم الأهداف المرجوة من الانتفاضات الشعبية.

إن وصول الحركات ذات المرجعية الإسلامية لسدة الحكم داخل بلدان الحراك الديمقراطي (مصر – تونس – المغرب – ليبيا…) جاء نتيجة كونها ظلت لعقود من الزمن في صف المعارضة، ولم تعط لها الفرصة لكي تشارك في صناعة القرار السياسي، وهنا فقد كانت هي كذلك تعاني من التهميش والإقصاء شأنها شأن كل أفراد المجتمع، لذلك فقد راهن هذا الأخير على قوى الإسلام السياسي لأنها تقاسمت معه نفس التجربة، واعتقادا منها أي الشعوب الثائرة أن هذه القوى عند وصولها للحكم ستسهم في تحقيق الديمقراطية والقضاء على كل أشكال الاستبداد والفساد.

فالقول بأن الثورات أنتجها الغرب أو أجندات خارجية قصد تشويه صورة الإسلام، هو تحليل يغلب عليه الجانب العاطفي أكثر منه تحليل موضوعي، لأن أولا، وقبل كل شيء، الحركات الإسلامية هي أحزاب سياسية كغيرها من الأحزاب تسعى إلى امتلاك السلطة، وبواسطة هذه الأخيرة تروم تنفيذ برامجها ومشروعها المجتمعي على أرض الواقع بما يتماشى مع تطلعات المواطن الذي على أساسهما منح الشرعية لها. ثانيا، الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية في تدبيرها لشؤون الدولة محكومة بالقانون الوضعي وليس بأحكام الشريعة الإسلامية، ومن هذا المنطلق يجب التمييز بين الدين الإسلامي كعقيدة سماوية قواعدها معصومة من الخطأ لأن مصدرها الله عز وجل، وممارسات تلك القوى ذات الإيديولوجية الإسلامية التي قد يكتب لتجربتها النجاح والفشل باعتبارها أعمالا بشرية تظل قاصرة.

وختاما يمكن القول بان الثورات العربية كانت صناعة شعوب وعفوية، فحالة الفوضى اليوم في المنطقة هي بسبب غياب إيديولوجية واضحة المعالم وقيادة ثورية باعتبارهما عنصرين أساسيين لهما فعالية في نجاح الثورة، كما أن الأخيرة لم تؤسس على تراكم فكري – كالثورات الأوروبية – يضمن لها الاستمرارية والديمومة والثبات، علاوة على تدخل القوى الخارجية في ما يعرف بإدارة الأزمات كما هو الشأن للملف الكيماوي السوري الأمر الذي جعل الثورات العربية تخضع لمعدلات الربح والخسارة بالنسبة للدول الكبرى، فالسياسات الخارجية للدول محكومة بلعبة المصالح والصراع على النفوذ. ومن هذا المنطلق فيمكن القول بأن الثورة أنتجتها الشعوب واستغلتها الدول القوية. فالمؤامرة في العقل العربي نتاج للتصارع الدولي على المنطقة وكانت أداة صمام أمان للأنظمة الاستبدادية السابقة وتحميها من كل انقلاب شعبي. فالأنظمة العربية كانت شرعيتها قائمة على حاجة الشعوب للأمن ولمن يحميها من أخطار الخارج في مقابل التنازل الكلي عن الحقوق والحريات.

* باحث في العلاقات الدولية
Mustapha.eddimani@gmail.com

إقرأ أيضا