مقدمة
اقتنيت في زيارتي لمعرض بيروت الدولي الذي اقيم في اواخر العام 2014 المنصرم، كتاباً يتسم بالندرة واللطافة، ومرجعاً قيّماً عن علاقة استاذ صحفي كبير كرياض نجيب الريَّس بثلاثة من المع مبدعي الحقبتين الخمسينية والستينية في العراق والعالم العربي، وهم جبرا ابراهيم جبرا، ويوسف الخال، وتوفيق صايغ. كتابٌ يسلط ضوءاً مبهراً على عمق المحبة الثقافية والتوهج الانساني والانصاف الادبي، لكل منهم لبعضهم البعض، فضلاً عن التوثيق القيّم للمظاهر الكتابية والابداعية لحقب مختلفة مرّت على الاسماء الاربعة.
وجدتني اعيد قراءة الرسائل التي ضمها الكتاب في صفحاته الثلاثمائة، اكثر مرة، باحثاً عن نقطة سوداء تُنمي الكراهية او تدل على انتقاصٍ من هذا لذاك، واجمل ما كان هو اهداء الريَّس: “الى ذكرى الشعراء الثلاثة: جبرا، يوسف، صايغ. تحية صحافي لصداقة لن يُعاد مثلها”.
الكتاب صدر في طبعته الاولى في تموز 1996، وكان الثلاثة قد رحلوا جميعاً، ولم يتبق سوى انصاف الريَّس لهم، ونزاهته في تقديم المراسلات التي حملت الكثير من التفاصيل الدقيقة عن حياة هولاء ونظرتهم للحياة الثقافية، ونقدهم للظواهر الادبية، لكنها لم تحمل كراهيةً او “وهم تصنيف”، او ادعاءً بـ”الاستذة”.
هذه المقدمة، هي رسالة أولى للصديق الشاعر واثق غازي، الذي تصدى لمهمة ثقيلة ونبيلة بأدوات حداد في سوق مهملٍ، حين وضع نفسه بموضع “السيّد المُصنّف” بورقته التي قدمها فيما سُمي بـ”المؤتمر الثاني للقصيدة النثرية العربية” الذي أُقيمَ في مدينة “عبادان” الايرانية العام الماضي، واجترح تاريخاً “مزوّراً” لقصيدة النثر في البصرة، وتجنى على التاريخ والشخوص، دون ان يُقدم ادلته على صحة ما ادعاه.
حين نشر الريَّس كتابه “رسائل ثلاثة شعراء وصحافي”، كان الشعراء قد رحلوا خفافاً الا من تاريخهم الشعري المضيء، فأنصفهم الرجل في مماتهم كأنهم احياء وقد يقرأون ما كتبه. لكن واثقاً وجّه مدافعه بثقلها علينا احياءً واموات، وكأنه يروم قتلنا ثقافياً. واجدني استذكر كل محاولات “القتل” السابقة التي لاحقتنا طيلة 10 اعوام في الصحف والمجلات و”سخافات” مواقع التواصل الاجتماعي. واقول للصداقة معنى، وللشعر معنى، وكلاهما يتعشقان معاً في معنى الوجود الانساني.
(1)
بدءاً، استنكر على الصديق الشاعر واثق غازي، ورقته المقدمة في “المؤتمر المغمور” والذي اعرف جيداً حيثيات الانعقاد التي جهلها المدعوون، وازيد على استنكاري، (معلومات وثيقة عندي من كاتب بارز في عبادان بان المهرجان تم تحت رعاية حكومية-شركات تجارية تابعه لسياسيين ولجنته العليا اغلبها شعراء شعبيون وقد قاطع المؤتمر شعراء بارزون في جنوب ايران) ان من دُعي الى ذاك “المحفل” طيلة عام لم يتحدث او يعترض على ما جاء في ورقة غازي، والتي لولا نشرها من قبل موقعٍ احوازي قبل ايام، ما استدللنا على ما قاله الصديق الشاعر، لانه لم ينشر ورقته تلك في الصحافة العراقية او على مواقع التواصل الاجتماعي.. ربما ان “التخبيص” في ورقة كُتبت لتقرأ على “محفل” جاهل بتاريخ قصيدة النثر وتطورها في البصرة لا يُمكن نشره في الداخل للمغالطات الواردة في الورقة، فاراد غازي، ان يكون غازياً بـ”استذةٍ” على من يجهلون، فضلاً ان ورقته حملت تلميعاً فظاً لاحد المشاركين من البصرة، ضمن سياق “التصنيف” المزاجي لـ”الجيل النقي”، ولست بوارد الانتقاص من شعرية الاسماء المذكورة ضمن “الجيل الثالث”، لكونهم قدموا تجارب رائعة وجميلة، لكن واثقاً حشرهم في الزاوية الخاطئة تصنيفاً، واساء اليهم والى نفسه بذلك.
ويُنكر الصديق الشاعر واثق غازي في صفحته على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) تحت عنوان (ايضاح:1، ايضاح:2) والذي بحذفهما فيما بعد، انه لم يقم بـ”التجييل” بعبارته “انا لم أجيّل احداً”، فيما الوثيقة التي نشرها بخط يده، اكدت “تقسيماته الجيلية”.
(2)
يُصنّف الصديق الشاعر واثق غازي على هواه القرائي ربما، تاريخ قصيدة النثر في البصرة، باربعة اجيال، هم: (الجيل الاول: ما بعد السياب) وفق معادلة “جيل التأسيس والحرکة نحو التحديث في عالم قصيدة النثر”، وهم: [سعدي يوسف، محمود البريكان، عبد الكريم كاصد، حيدر الكعبي، مهدي طه، مهدي محمد علي]، ولم يلتفت الى التعيير الزمني لظهور هذه الاسماء وانتشارها، لجهة ان تصنيف “ما بعد السياب” يظل تصنيفاً فضفاضاً مجهول المقومات والملامح والتنظير، ولم يوضح المبتنيات التي التي جمعت هؤلاء الشعراء والاسس النقدية التي شرع عبرها باختيار هذه هذه الاسماء الرصينة دون غيرها.
وحسب ما اعرف لم يسبق لاحد ان صنّف حركة تحديث الشعر العراقي، بهكذا تحقيب شخصاني مرتبك لا يجمع بين الاسماء الواردة جامع في الرؤية والاشتغال وفترة الظهور والانتشار. فالشاعر الراحل الاستاذ محمود البريكان ولد في العام (1931)، فيما بدراً سبقه بخمسه اعوام (1926)، فجايلا بعضهما البعض، وكتبا بذات الحقبة اشعاراً من “العمود” وقدما نفسيهما كشاعرين كمتمردين لغة واسلوباً ضمن “القصيدة العمودية” في المرحلة الاولى من شعرهما، لينتقلا معاً بفارق اعوام قليلة الى “القصيدة الحرّة” ولم يكتب السيّاب نثراً، بل ظل شاعراً منتمياً لروح الشعر الايقاعية (التفعيلة)، بينما البريكان خرج بمعوله الرقيق على تلك الروح الى كتابة “النثر” بلطافة العارف وخبرة الشاعر وادوات الاستاذ، وظل “مغموراً” منزوياً عن سوق النشر، لفلسفة آمن بها البريكان بأن النشر هو تسويق للبضاعة الكاسدة، اما الشعر الجيد يستدل اليه الناس ببصيرتهم وشغفهم. وبالتالي فأن البريكان وبدر ظهرا بذات الحقبة وسلكا نمطاً كتابياً مغايراً لبعضهما في مرحلة الاحتراف، فكيف يُصبح السيّاب ضمن جيل ما بعد السيّاب؟ ربما لانه عاش بعده لثلاثة عقود.
اما الاستاذ الشاعر سعدي يوسف، فهو ايضاً من مجايلي السيّاب والبريكان، نسبة الى تولده في البصرة (1934) واصدر اولى مجموعاته الشعرية في العام 1952 بعنوان “القرصان”، وهي قصيدة مدوّرة طويلة وظف فيها عددا من البحور الشعرية وتفعيلاتها، ومستفيداً من الانفتاح الرحب الذي اخرجه السياب في قصيدة التفعيلة، وبالتالي فأن تحقيب “سعدي” وفقاً لتصنيف “غازي” ليس بالدقيق وغير منطوٍ على دلالة توثيقية علمية او ادبية، فسعدي لم يكتب “النثر” احترافاً الا متأخراً. ويعود اول اعتراف بالتماس مع “النثر” الى العام 1982 في كتابه “يوميات الجنوب، يوميات الجنون”، أي بعد 18 عاماً من موت بدر المفجع، فكيف “يُجيّل” ضمن هذه المرحلة، وهذا ينسحب الى بقية الاسماء، ومن بينها الاستاذ الشاعر الصديق عبد الكريم كاصد، صاحب “الحقائب” – المجموعة الاولى له – والتي نشرها للمرة الاولى العام 1975 في دار العودة ببيروت، وبطبعتين (1976 دار الاديب ببغداد) و(2011 بدار تموز في دمشق)، والشاعر الصديق حيدر الكعبي الذي باتت قصيدته “المتنبي شهيداً” والتي بدأ بكتابتها وفقاً لما ثبته – الكعبي – في العام 1973 ونشرت في العام 1975 ولم يكن حينها قد انهى دراسته الاعدادية، واحدة من عيون الشعر البصري المعاصر، وتستذكر كرائعة من روائع الشعر المتمرد، والمخلصة للشعر وللنثر كقيمة فنية وانتماءٍ تاريخي لحقبة الصراع الفكري في السبعينيات.
وبالنسبة للشاعر المغدور مهدي طه، الذي اغتيل ورُمي به النهر الذي تعاشق معه منذ صباه، وادعت سلطة البعث، انه مات غريقاً، فأجدني بحظوة كبيرة خصني بها الشاعر الصديق حيدر الكعبي، حين اطلعني على النسخة النهائية لمجموعة “طه” اليتيمة “أغنية حب” والتي جهزتها للطباعة تصميماً، واشرف على تنسيق المتن الشاعر الصديق قاسم محمد علي، فيما قمت بتصميم الغلاف، بعد ان كانت النية تتجه الى طباعتها عبر مشروع كنت اعتزم اطلاقه في النصف الثاني من العام 2013 ضمن “منشورات نثر” بالتعاون مع اتحاد الادباء والكتاب في البصرة بتمويل من شركة “اسياسيل”، لكنه لم يرّ النور بسبب مصالح معينة ذهبت بالطباعة الى جهة اخرى، فاحتفظت لنفسي بما عملت عليه شهوراً من اغلفة وتصاميم، وفضلت كعادتي الصمت، ريثما تحين لحظة انصافٍ من الزمن، وللامانة التاريخية انشر هنا الغلاف الذي صممته لمجموعة “مهدي طه” (الصورة للفوتوغراف احمد محمود).
وفنياً فأن “اغنية حب” استفادت نصوصها من تجارب الشعر والحر والتفعيلة، ونحت احيانا الى النثر، وظل ايقاع الشعر الموزون يتمظهر في هذا النص وذاك، لكن – المجموعة – اشّرت الى عبقرية شعرية فذة لشاب مات مغدوراً في ربيعه الثاني والعشرين، ويلفت الاستاذ جاسم العايف الى لمحة ذكية في مقاله “اغنية حب وقصائد اخرى.. لشاعر قتيل” (ملحق اوراق – جريدة المدى – 4 آب 2012)، بقوله : [أحتوت مجموعة الشاعر القتيل مهدي طه، على قصيدته المطولة المعنونة “أغنية حب” (ص17 -95) إضافة إلى (21) قصيدة أخرى، وبذا فأن رحلة طه الشعرية موازية تماماً لحياته الفعلية، والتي هي (22) عاماً فقط. المدهش في الأمر أن عمر الشاعر يعادل عدد قصائده!!].
وولد مهدي طه في البصرة العام 1953، واغتيل فيها مغدوراً في 30 أيار 1975، لذا فأن طه يمثل واحدة من العلامات الفارقة بتاريخ الشعر في البصرة، فيما علاقته بقصيدة النثر واجواءها واشتغالاتها وقيمها الفنية، كانت في بواكيرها، ولو قيّض للشاعر المغدور الحياة، لكشف عن تجربة نثرية عظيمة نظراً لتمكنه الواضح من لغة الشعر، ومعرفته باصول قصيدة التفعيلة ومبتنياتها.
واتساءل: كيف نضع تجربة غضة رقيقة كتجربة مهدي طه، قبالة تجربة راسخة كالبريكان، وتجربة عميقة كتجربة كاصد، ومنهما الى تجربة رائدة كتجربة سعدي، وهذا ليس بأنتقاصٍ من طه، انما سياق بنية التصنيف يحتّم الدقة. اما الشاعر الفقيد مهدي محمد علي، الذي التقيته في البصرة بعد العام 2003، اثر عودته زائراً الى مدينته التي غادرها لعقود نتيجة ملاحقات النظام البعثي، واستقراره في حلب، فان معرفتي بخصائص شعره وتجربته محدودة، ولست بوارد الاجتهاد فيها، لان مهدي محمد علي واحداً من الاسماء الشعرية الراسخة في التجربة البصرية، واجدني مدعواً بقوة اهمية التجربة لقراءتها والتمعن فيها، قبل اطلاق اي احكام قد لا تليق بالتجربة وبصاحبها الراحل.
(3)
اجترح الصديق الشاعر واثق غازي، عنواناً لتصنيفه ما سمّاه بـ”الجيل الثاني (جيل الثمانينات)” من مشتغلي قصيدة النثر في البصرة، ووضع اسماءً هي [طالب عبد العزيز، عادل مردان، عادل علي عبيد، كاظم اللايذ، فوزي السعد، محمد صالح عبد الرضا، عبد الرزاق صالح، عبدالله حسين جلاّب]، بأن هولاء غلبت على اشعارهم “النزوح الى الترجمة” و”الاقبال على المركز”، وهو معيار كسابقه يفتقد الى الكثير من الموضوعية والمهنية والاطلاع على جميع تجارب الاسماء الشعرية اعلاه، فان قصد غازي تأثيرات الترجمة، فقد التمس له العذر في تجربة الشاعر فوزي السعد، وبعضاً من قصائد الاستاذ كاظم اللايذ المهموم بتوظيف التاريخ في نصوصه المعبرة عن انتماء الى الانسان المهزوم عبر الزمن، وبعضاً من اشتغالات الشاعر الصديق عبد الرزاق صالح الذي يراهن على الرفض الشعري بالصوت العالي، وقسماً من تجربة الشاعر الصديق عادل علي عبيد باستقدام الرموز في النص للاحتجاج على الواقع، لكن ما يخص (عبد العزيز، مردان، جلّاب) فتصنيف غازي شطّ بعيداً عن الواقع، لجهة ان شيوع تجربة الثلاثي (عبد العزيز، مردان، جلّاب) هو الاعتداد بالتجربة الشخصية والحفريات العميقة في المحلية وحكاوي التاريخ المخملي بالنسبة لطالب عبد العزيز، والانشغال المعرفي في تشكيل قصيدة النثر لدى عادل مردان، والاشتغال السريالي والانهمام باللغة واصولها وتركيبها لدى عبدالله حسين جلّاب. ولا اجد غيرهم شعراء في اللائحة التي وضعها غازي لهذا التصنيف.
ولعل طالب عبد العزيز (تولد 1953)، صوت بصري بارز، له خصوصيته الشعرية لجهة توظيفاته المحببة في الكتابة، وانسجامه مع ذاته في نصه، وصدقه في تصوير الانتماء الفطري لمدينته ونشأته، ولطف مفرداته وغناها في التوصيل الشعري، وتأتي اهميته في نجاحه بتوظيف المحلي ونقله الى ضفاف تعريف الآخر به.
ويقول الاستاذ الشاعر الصديق كاظم الحجّاج عنه: “منذ قصيدته (العشاء الأخير) حجز طالب عبد العزيز لنفسه كرسياً في حديقة الشعرية العراقية الرائدة دوماً بمنجزها. وكان كرسيه في الواجهة مباشرة. فكيف فعل ذلك؟ مع أن القصيدة تلك، لم تكن معي الآن ولا في أثناء تخطيط هذا التقديم، غير إني الآن أستطيع تلمس فرادتها في قصائده اللاحقة التي أملك الآن وحتى مجموعته الرائدة كذلك (تاريخ الأسى) بغداد 1994”. واجدني معنياً اكثر بتجربتي الشاعرين الصديقين عادل مردان وعبدالله حسين جلّاب، لجهة معرفتي بها، وكتابتي عنها في كتابي النقدي الاول “اقنعة القصب” (دار ميزوبوتاميا ببغداد 2011)، والتي تحدثت عن الخصائص الشعرية لكل منهما.
وبالعودة الى تصنيف غازي، فانه لم يكن موفقاً بالمرة في اجتذاب هذه الاسماء الى منطقة التصنيف التي اراد لها ان تكون عنواناً عريضاً، وبتفصيل جزئي “الاقبال على المركز”، فمعرفتي الشخصية الدقيقة بهذه الاسماء، تدل على انهم لم يكونوا يوماً من مريدي المركز، ولا من الطامعين بالارتكان تحته معطفه، واسجل استغرابي على الصديق الشاعر غازي، لجهة ان “الاقبال على المركز” هو ليس بتصنيف شعري ثقافي او ادبي تبين عبره ملامح التجربة الشعرية، وان ذكرت فأنها على علاقة بالسلوك الشخصي لا بالاشتغال الشعري.
(4)
وضع الصديق الشاعر واثق غازي نفسه ضمن حقبة “الجيل التسعيني”، او ما يُسميه “الجيل النقي”، والنقاوة هنا لجهة “عدم التأثر بالترجمة” و”الخروج على قيم الثمانينيات” كما يصف، او ربما شيء آخر، وهم [کريم جخيور، فرات صالح، واثق غازي، مؤيد حنون، ثامرسعيد].
وكرر غازي ذات الخطأ في وضع معيار التصنيف الخاطئ، لان التأثر بالترجمة كان وارداً في تجربة هذه الاسماء، وبالامكان العودة الى الاصدارات التي اخرجها الشعراء الاصدقاء اعلاه، ما يحتاج الى قراءة متفحصة ودقيقة لئلا يُغبن حقهم في التوظيفات المحلية وغيرها التي اشتغلوا عليها، لكن تبيّن بعض الملامح في تقنيات الكتابة، ونزوحهم الى نص نثري ملتزم بالشكل الصارم، وهو ما جعل تجربتهم ملازمة لما تذكره سوزان برنار من محددات نص النثر ومعياره، وهذا ينم عن معرفة لا انتقاص.
وبالاشارة الى خروجهم على قيم الثمانينيات، فأن ملامح هذا الخروج، وفقاً لمعرفتنا بتجربة الشعراء الاصدقاء، ليست ثورية بل كانت الكثير من النصوص تنتمي روحاً وتقنية وتكنيكاً لروح الثمانينات، نظراً لان عدداً منهم قد بدأ الكتابة فعلاً منذ اواسط الثمانينيات كما الصديق الشاعر كريم جخيور، نسبة للنص المنشور في العدد 883 بتاريخ 28 اب 1985 من مجلة “الف باء” وعنوانه “بسمة”، تحت اسم “كريم جخيور حاكم”.
واشير الى ان الشاعر الصديق كريم جخيور، اطلق بنفسه اعترافاً في جلسة احتفاء اتحاد ادباء البصرة بالشاعر الصديق طالب عبد العزيز، عقب صدور كتابه “قبل خراب البصرة” في حزيران 2012، نصه: “اذا كان دويستوفسكي قد قال كلنا خرجنا من معطف كوكول، فانا اقول كلنا خرجنا من معطف طالب عبد العزيز”، اضع هذا الاعتراف النبيل من كريم امام الشاعر الصديق واثق غازي، قباله تصنيفه ان “جيل التسعينات هو الجيل النقي”، وانوّه بالتقاطة بورخيس “كل ما كتبت، بل انا نفسي كشخص محض خليط مما قرأت”.
(5)
ويواصل غازي، سيرة التجنّي على تاريخ قصيدة النثر في البصرة، باجتراحه “جيلاً رابعاً” هو “جيل ما بعد 2003″، بمعيار قاسٍ وخطير، بأن من وضع اسماءهم جزافاً، وصفّهم صفاً، جنباً الى جنب دون ادنى مسؤولية تاريخية، بأنهم “اکثر کرهاً للأجيال السابقة من منطلق التواصل المعرفي”، وهم “يعتمدون على الفيسبوك والميديا وادواته الخاصة”، وصولاً الى ان “القبلة لديهم ناشفة والنخلة بلاستيكية”، وهم (علي محمود خضير، كاظم مزهر، سالم محسن، حبيب السامر، صفاء خلف)، ولا ادري أي جامعٍ اشتغالي وشعري جمع بين هولاء المتنافرين تجربة وصوتاً وتقنية وكتابة وعمراً. فلا معيار ينطبق عليهم من المعايير التي وضعها الصديق الشاعر واثق غازي، سوى معيار التجنى. بدءاً نجدد رفضنا لما يُعرف بـ”جيل ما بعد 2003″، وسبق وكانت لي شخصياً محاورات مطوّلة مع الصديق الشاعر واثق غازي بهذا الصدد، وتبريرات رفضي المنطقية لهذا التحقيب والتعليب الشعري المرفوض، لكون من استماتوا بجعلنا انا ومجموعة من الشعراء الاخرين، وهم (علي محمود خضير، حسام السرّاي، ميثم الحربي، زاهر موسى، عمر الجفّال)، فشلوا في هذا الرهان الخائب، لكوننا رفضنا كل محاولات التعليب الجيلية، وبيّنا في اكثر من مناسبة هذا الرفض، لاسيما عبر المقال المطوّل الذي كتبته في جريدة الصباح شبه الرسمية (15 حزيران 2011 – ملحق ادب وثقافة – جيل التغيير) تحت عنوان (طبقة الشعراء الجدد.. اشتغالات برسم التجربة الشخصية)، والطاولة الحوارية التي اتت بهذا الاتجاه والتي نشرت مداولاتها في الملحق نفسه تحت عنوان (جيل التغيير في الشعر العراقي) شارك فيها (احمد عبد الحسين، د.صالح زامل، زاهر موسى، علي محمود خضير، ميثم الحربي، علي وجيه). وعادت الكرّة مجدداً، ليُفتح النار عنوة علينا، عبر مقال هزيل بائن الغايات، لوارد بدر السالم في جريدة السفير اللبنانية تحت عنوان (شباب الشعر العراقي.. شعراء ما بعد 2003) في (12 نيسان 2013) والذي ايضاَ نصّب فيه نفسه “سيداً مُصنّفاً” وفتح الباب امام “جحافل” من الاسماء لتكون ضمن التوصيف الكريه “شعراء ما بعد 2003″، وهناك من صنفنا كـ”شعراء ما بعد الحرب”، وآخر صنفنا كـ”شعراء متمردون” في احدى الملاحق التي تصدرها جريدة المدى البغدادية، ونحن أي مجموعة الشعراء التي ذكرتها اعلاه، لا ندعي وصلاً باي من هذه التوصيفات بل نرفضها على نحو قاطعٍ، ولا نرتضي ان نكون في خانة الغث والرخيص من الاسماء والتجارب. وعن صلتنا انا والشاعر الصديق علي محمود خضير، بمواقع التواصل الاجتماعي والميديا ومشتقاتهما، فاجد اننا اكثر الشعراء ابتعاداً عن الظهور فيهما تسويقاً لنتاجنا الادبي على وجه الخصوص والتحديد، لقناعتنا بأن هذين المظهرين ينطويان على اساءة للتجربة وتسخيفاً لها، ودليلنا بأن قاعات المهرجانات والدعوات ودور النشر والاتحادات مُلئت بـ”الفيسبوكيين” ممن لا نتاج حقيقي لهم، سوى الثرثرة التافهة والنشر المجاني وسبك العلائق عبر “التايملاين” والتواجد المقرف لساعات طويلة، وكتابة الهذر على انه شعر ونثر، فضلاً عن تحوله الى منصة دعاية فارغة لمن يريد ان يُطهر تاريخه، فتحولت شبكات التواصل الاجتماعي الى “مطهر” و”مظهر”. يقول امبرتو ايكو في مقابلة مع صحيفة لاستمبا الايطالية، عن شبكات التواصل الاجتماعي، ان “ادوات مثل تويتر وفيسبوك، منحت حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممكن كانوا يتكلمون في البارات فقط، بعد تناول كأس من النبيذ، دون ان يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم اسكاتهم فوراً، اما الان فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل، انه غزو البلهاء”.
أما بالنسبة لكراهيتنا لمن قبلنا من “الاجيال السابقة”، فهذا اتهام خطير، مردود عليه، بالصلات القوية التي تربطنا بشعراء كثيرين داخل وخارج العراق، ومتابعتهم لنا، واشادتهم بتجربتنا، وانهمامنا بتوثيق تجاربهم والحرص عليها من الاندثار، ولاسيما في اقتناءنا للكثير من المسودات النادرة والمخطوطات والطبعات الاولى، حتى اننا احتفظ لكثيرٍ من الشعراء الستينيين والسبعينيين والثمانينيين، بطبعات عليها اهداءات لمجايلين لهم، او صورة عن النصوص الاولى التي قاموا بنشرها، نحن اكثر الشعراء حرصاً على تاريخ من سبقونا، والاكثر تحدياً للمحاولات الدنيئة التي كانت وما تزال تحاول ان تضعنا في خانة الرفض والتمرد، لسنا بمتمردين ولا بالانقلابيين، لكننا نستهجن محاولات جرّنا الى معارك جانبية، فالكثير منا يلتزم الصمت فيما يخص القضايا والعراكات الثقافية منذ سنوات، لجهة ان التزلف والتملق والانتهازية بات عنواناً لهذه المرحلة المظلمة من تاريخ الثقافة العراقية، نظراً للعلائق المشبوهة التي باتت تتحكم بتقديم المنتج الثقافي.
وللتوضيح اكثر، ما ورد في لائحة غازي، لمن اسماهم بـ”شعراء ما بعد 2003″، فهي لائحة تعبر عن نقص معرفي لدى الصديق الشاعر، لان غالبية من ذكر هم بدءوا الكتابة والنشر قبل العام 2003، وبعضهم حاز عضوية الاتحاد في التسعينيات، او كان معروفاً في اوساطه كالصديقين الشاعرين حبيب السامر، وسالم محسن، وشخصياً حصلت على عضوية الاتحاد العام في العام 2004 بعد ان قدمت نتاجي المنشورة في الصحافة العربية بدءاً من العام 1999 الى الصديق القاص والروائي حميد المختار الذي كان مسؤولاً عن ملف قبول الانتماءات للاتحاد ولم تكن تربطني به حينها علاقة تذكر. اما بالنسبة للصديق الشاعر صبيح عمر فهو اسبق منا عمراً وتجربة.
(6)
فات الصديق الشاعر واثق غازي الكثير من الاسماء الرفيعة شعرياً وابداعياً، وشط كثيراً في توصيفاته، فهو لم يأتي على ذكر شعراء كبار كمصطفى عبدالله وعبد الخالق محمود وحسين عبداللطيف وكاظم الحجّاج، وغيرهم من القامات، والتي اسست لوجه شعري بصري جديد. وفاته ايضاً ان التاريخ الادبي لا يُكتب عبر التجني، وكنت آمل منه الا يضيع حق الاخرين، لكونه وفق معرفتي له نزيهاً مخلصاً مُحباً اميناً، ولا يرتكب هكذا اخطاء، وكنت آمل ان يقدم نموذجاً في كتابة تاريخ لهذه الحقبة عبر الانصاف، لا عبر الاطلاق الاحكام المجانية دونما مراجعة.
ملحق (أ): صور ووثائق
ملحق (ب): روابط
1- للاطلاع على ورقة الصديق واثق غازي بخصوص “الاجيال” – موقع (اليك أكتب) الاحوازي http://elayk-aktob.n2ta.com/?p=5712 2- للاطلاع على مقالنا المنشور في جريدة الصباح – ملحق ادب وثقافة، والذي اعدت نشره في المدونة الشخصية لضياع ارشيف جريدة الصباح http://safaa82.blogspot.com/2011/07/blog-post_01.html 3- للاطلاع على مقال وارد بدر السالم بخصوص “شعراء ما بعد 2003” http://assafir.com/Article/306909/Archive 4- للاطلاع على ببلوغرافيا محمد صالح عبد الرضا المنشورة في دار الكتب والوثائق العراقية http://goo.gl/f35Cpx 5- للاطلاع على حوارنا في جريدة القدس العربي http://www.alquds.co.uk/?p=131977