صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

عن المثقف الملتزم والانتهازي وسيولة المواقف

يكاد يختفي الحديث عن دور المثقف في الحياة العامة وأهمية النقد داخلها، والعلاقة التي تجمعه بالسلطة في العراق، لذا فإن الحديث عن هذا المفهوم، يعتبر إحياءً لدور المثقف الغائب في مجتمعنا (باستثناء القلة القليلة)، واستحضاراً له لبث الروح في المجتمع.

يطلق المفكر الفلسطيني الأمريكي، إدوارد سعيد، في كتابه “المثقف والسلطة” مقولة أن “الحق يخاطب السيف”، ويحدد من خلالها دور المثقف، ويقوم بتشبيه المثقَّف الحقيقي بالرَّحالة، كونه لا يطمئنُّ إلى موقع وزمن ولحظة السُلطة، معتبراً أن ميزة المثقَّف الأولى هي: الحرِّية، خلافًا لأصحاب السُّلطة وعشَّاق الكراسي الانتهازيين، الذين لا يرغبون في التَّغيير، حيث ينحصر أملهم الوحيد في أن يظل الزَّمن راكدًا، ويخضعون خضوعاً تاماً للروتين.

يُعرف إدوارد سعيد كمفكرٍ عام، تنوعت مجالات اهتمامه، لتشمل شؤوناً ثقافية وسياسية وفنية وأدبية توزعت على المحاضرات والصحف والمجلات والكتب، وانطلاقاً من دراساته النظرية وتجربته الشخصية كمقدسي عاصر نشوء إسرائيل، فإنه يدافع عن إنشاء دولة فلسطين وحق العودة لمواطنيه، ويطالب العالم وخصوصاً الولايات المتحدة بزيادة الضغط على إسرائيل، وانتقد أنظمة عربية وإسلامية، وأمضى جلّ حياته في الغربة، وعاتب أهله أشد العتب لأنهم لم يسمحوا له بالانخراط في مجتمعه الذي نشأ فيه، وبالتالي لم يتسنّ له معرفته معرفةً وثيقة، وقد سمّى غربته بالنفي “أيّاً كانت إنجازات المنفي فإنها خاضعةٌ على الدوام لإحساس الفقد”.

يقول الشاعر والأديب والسياسي المكسيكي، أكتافيو باث، في كتابه “حرية الكلمة”، إن “الثورة هي التمرد الذي تحول إلى نظرية وإلى نسق”.

باث الذي التحق بالسلك الدبلوماسي عام 1945، وعمل فيه لمدة 23 عاماً، وعُيِّن سفيراً لبلاده في كل من فرنسا وسويسرا والهند واليابان، كانت له صلات وثيقة بأقطاب الحياة الثقافية في كل البلدان التي عمل بها، إلا أنه استقال من السلك الدبلوماسي سنة 1968، احتجاجاً على سياسة حكومته تجاه الطلبة عندما قامت السلطات في المكسيك باستخدام العنف في قمع مظاهرات الطلبة، مما أدى إلى مصرع حوالي ثلاثمائة طالب.

وربما يكون من العبث مقارنة مواقف إدوارد سعيد، وأكتافيو باث، بالنخب الثقافية في العراق وباقي البلدان العربية، لأن تصنيف المثقفين، يقتصر على ثلاثة، أولهم الملتزم والحقيقي وصاحب الموقف بوجه السلطة، والآخر المهادن والانتهازي لأي فرصة بالانخراط في السلطة أو الصمت عن ممارساتها، والثالث هو المثقف اللا أبالي وغير المعني بقضايا شعبه وأمته، لذا فإن النوع الأول نادر جدا، كما أن الأخير يعيش على الهامش دائما، لكن النوع الثاني وهو الكائن المطاطي، هو الذي يكثر في مجتمعنا، إذ يمكن تشخيصه داخل الدول الدكتاتورية والقمعية، حيث يمكن رصد مواقفهم المتذبذبة وغير الثابتة، فتراه يمتدح الاحتجاجات وينتقد الفساد، لكنه يعمل بمؤسسة اعلامية تابعة لأحد أحزاب السلطة.

ما يميز المثقف الحقيقي أو الملتزم عن الانتهازي، هو الحرية، فكلما كان المثقف حراً كلما كان بعيداً عن الانتهازية، ومواجهاً للسلطة، ولكن الحرية لا تأتي إلا مع التحلي بالشجاعة في الطرح والصلابة في مواجهة إغراءات المال والنفوذ، بما يجعله مقبولاً بين الناس، فيتحول إلى “الحارس الأمين” لطموحاتهم وآمالهم.

كما يصنف المثقف الحقيقي أيضاً، بـ”العامل” الذي يدعو إلى التغيير ويعمل في سبيله دائماً، ويؤمن بضرورة التغيير ولا يبقى راكداً، يأخذ المواطنين إلى الطوبائية الحالمة، والخروج عن الإيديولوجيا التي تولد المشكلات الاجتماعية، على العكس تماماً مما يفعله المثقف الانتهازي الذي يُتقن التبعية والتذلل أمام من يمتلك السلطة سواءً كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية، لذلك تجده ينزع لتبرير أفعال أسياده والدفاع عنهم، أو الظهور بمظهر المفكر المتسامح والصوفي، إذا ما أراد السكوت إن كان يرنو للعيش في كنف السلاطين ليتحول لمفكر متسامح أو مثقف صوفي يدعو أصحابه للعزلة أو الصمت.

احتجاجات تشرين

في فترة ما بعد احتجاجات أكتوبر/ تشرين الأول 2019 لم تختلف هذه المواقف كثيرا، بل كانت كاشفة لهذه الأنواع الثلاثة من المثقفين (صاحب الموقف، والمهادن، واللا أبالي)، فقد ظهر نموذج نخبوي حقيقي متميز، من أدباء وأكاديميين وفنانين وصحافيين، كان لهم الدور الكبير في الاحتجاج، برزوا وذاع صيتهم، عبر لقاءاتهم التلفزيونية، أو كتابتهم الصحفية أو منشوراتهم على السوشيال ميديا.

وصف هشام شرابي، تلك الفئة بـ”المثقفين الملتزمين” الذين لا يمكنهم الفصل بين حياتهم الخاصة والعامة، ويعبرون عن المجموعة، من خلال صناعة رأي عام لمواطنيهم، وهؤلاء يستندون إلى مفهوم القيادة والقوة في كتاباتهم، لكن ذلك لم يحدث في العراق، ولم تنجح النخب المثقفة بالتحول إلى محور لتنظيم وضبط الأساليب الاحتجاجية التي يقوم بها الشباب المحتج، رغم بشاعة ممارسات الطرف الآخر من المواجهة، فقد كانت بيانات ساحات الاعتصام، تُكتب من قبل شباب معدومي التجربة. 

في المقابل كانت الجموع المنعزلة من النخب الثقافية المشككة بالاحتجاج تتمايل وتتناغم مع الاعتصام، على أمل أن تكون حاضرة في خيارات السُلطة عندما يُعاد توزيع المناصب، وهذا ما حدث فعلاً خلال حكومة الكاظمي، عندما تحوَّلت مواقف بعض النخب من التشكيك والطعن بحركة الاحتجاج، إلى تبنّيها والدفاع عنها في العلن ونهشها في السر، لا سيما دخول الكثير من المثقفين الانتهازيين على خط تمزيق الاحتجاج من الداخل، عندما دخلوا إلى ساحات الاعتصام، بأمر من الكاظمي، الذي خطط لزرعهم هناك وتفتيت حركة الاحتجاج، حينها طُرحت أسماء بعضهم للمناصب الوزارية، والصعود في ركب السلطة.

إن الدولة صناعة حقيقية وصادقة وعميقة الجذور، لا يُمكن بناؤها بهذه الطريقة، أو على شاكلة المقولة الخطأ: “السياسة بلا اخلاق”، بل تحتاج إلى الالتزام وحسن الأخلاق في التعامُلات السياسية، اكثر من اي مكان اخر، لأن المفهوم العام، ينعكس على الخاص دائماً وابداً.

إقرأ أيضا