للوهلة الأولى فيما أخطط لكتابة هذه المقالة، وردت إلى ذهني جملة غاليليو، الذي تعرفون قصته، فقد اثبت ما يناقض التصور الديني الكنسي السائد في القرون الوسطى حول مركزية الأرض وثباتها، وقد عرّضه هذا لغضب الكنيسة. المهم ان غاليليو وبحسب مسرحية بريخت – بالعنوان ذاته – قد خرج من المحاكمة التي أقامها له رجال الكنيسة غير مُكترِث بإثباتاتهم، وحججهم، قائلاً – مع هزة كتف كما أتصور: ومع ذلك فهي تدور.
والحقيقة قد يكون هذا اختلافاً جوهرياً عاماً في الموقف العلمي عنه في الموقف الأدبي. وسأوضح ذلك بمثال عن المتنبي. فهو يواجه في طريق عودته إلى موطنه خائباً من جولاته مع سيف الدولة الحمداني وكافور الاخشيدي، قاطع طريق اسمه (فاتك) الأسدي. ويُقال إن المتنبي تعرض له بشيء من الهجاء قديماً، فأضمر له الأسدي العداء، وترصده في طريق عودته. وحين تواجها شعر المتنبي بأنه غير قادر على قهر خصمه، فأدار فرسه مقرراً الفرار. فما كان من (فاتك) – الذي أظن أنه فاتك بذكائه وبقراءته لشعر المتنبي ولنفسية الكاتب في علاقته بالنص – ما كان منه إلا أن ذكّره ببيته الشهير: \”الخيل والليل والبيداء تعرفني\”. وبالفعل فقد عاد المتنبي إلى موته!
قلت – وهذه نقطة لا أريد أن أغادرها – إن فاتكاً كان يعرف أن علاقة الكاتب بنصه هي علاقة بنوة ونسبة، وان الكاتب يأنف من التنكر للمعنى الذي يصنعه هو، ناسياً أنه ضرب من الخيال ليقبله على أنه حقيقة تستحق أن يموت من أجلها. وهذه سمة من سمات الثقافة الأدبية التي تنتج قيمها عبر التخيّل والتخييل فقط دون أن تنظر إلى حركة الواقع والتاريخ. فهي بالضرورة تقطع الحبل الواضح الرابط بين المعنى وبين منطقة الخيال. لتحوّل المعنى الكاذب أو المبالغ فيه إلى حقيقة مُطالِبةً بتجسدها في الواقع، وفي الأشخاص كما هي بحرفيتها، مطالَبَةً قد تصل إلى حد الإقصاء والقتل. ناسية أن الأمر لا يخرج عن انه كذب منمق.
على أية حال ماذا لو كان المتنبي قد أدار ظهره لفاتك، وقال – بلا مبالاة وبهزة كتف: ولكنها – أي الخيل والليل والبيداء – تعرفني!
في حالة التفكير العلمي، الذي أشرت إليه مع غاليليو، سيكون العالِم غير مبالٍ بآراء الناس ومعتقداتهم، لأنه يدرك تماماً أنه يتحدث عن واقع موضوعي سيثبت منطقه على العقول، ولو بعد حين، وأنه سيرد الخيالات التي تم تصعيدها دينياً لخدمة طبقة من الناس أو سلطة، إلى أصلها، ويكذّبها. أما في حالة الأدب – العربي القديم تحديداً – فالأمر مختلف، فبطريقة ما يحرص الكاتب على الدفاع عن القيمة المُتوهَمة، ويكون هو أول المُضحين من أجلها.
من الناحية الأخلاقية، وهو ربما شيء يذكرنا بأفلاطون، فالشاعر عامةً لا أخلاقي في موقفه، فهو متعاضد مع الآلة الثقافية التي تحوّل الأوهام إلى أصنام، وتجعل الناس يتمايزون بسببها، ويقتتلون. وهو بحسن نية يصير جزءاً منها، ويقدم نفسه قرباناً لها لتأكيدها، وتعزيزها في النفوس.
في المقابل، وبالتحول عن الشعر، جرى التحول في الأدب إلى سوء النية. فكل ما يجري على الأرض غير بريء، وسيؤدي إلى تتابعية حوادثية، ليست أبداً في مصلحة الإنسان. وإنما في مصلحة سلطة، أو قيمة، أو معنى سالب لإنسانية الإنسان، ورغبته في التحرر والتفكير والتطور. ومن يحمل سوء النية هو المؤلف، وقناعه، أي الراوي، أما النوع فهو الرواية. والرواية بطبيعتها تعمل على فضح الصلة التي كان القدامى يحرصون على اخفائها بين المعنى ومصدره الخيالي والمتوهَم والكاذب، للتأكيد على أن ما يدور من حقائق على الأرض هو في الأصل أكاذيب تخدم مصلحة معينة.
والروائي في هذه الحالة هو حتماً غاليليو، من حيث انه يتحدث عن علاقة موضوعية – تقترب من العلمية – بين الوهم وبين الخطاب وبين السلطة. فهو كما أتصور يقول بلا مبالاة: ولكن هذه هي الحقيقة. وبلا مبالاة لأنه بسوء نيته تحول من كونه جزءاً من لعبة صناعة الوهم وتصديقه إلى مراقِب يميّز خيوط اللعبة لكي لا يقع في مأزق المتنبي السابق فيجد نفسه وقد استسلم لقاتله. أي أنه يعمل باستمرار على دفع موته.
وعموماً في ثقافة، كما يقول عبد الله ابراهيم، تقليدية في الجوهر وحداثية في المظهر. أي من حيث أنها تستعمل الوسائل الحديثة كالأنترنت وصفحات التواصل الاجتماعي لبث الأفكار والآراء بمحمولاتها التمييزية والطائفية والانتقادية على السواء، فإننا أمام انقسام حاد، سبقت إليه الرواية بحكم انتقالها قبل غيرها إلى الضفة العلمية في الأدوات وطريقة النظر.. انقسام، اسهمت وسائل الاتصال الحديثة بشيوعه، بين غاليليو والمتنبي بين الاطلاع على الحقيقة الموضوعية ورؤيتها والتبشير بها، وبين الخوف من أن يكون مصيرنا مصير المتنبي. فنحن جميعاً شهود عارفون وحريصون على تأجيل موتنا (الشخصي) من خلال المعرفة، ومن خلال التنبيه المتواصل على أصل المأساة التي يشهدها الواقع. اننا جميعا في النهاية بعد أن نغلق صفحاتنا التواصلية، أو ننهي مقالاتنا، نقول بمبالاة وبهزة كتف: ولكنه – أي ذلك الخراب الذي نحن شهوده – يحدث!