عرف العراق على مر العصور، بكثرة شعرائه وأدبائه، حيث كانت لقصائدهم ونتاجاتهم الأدبية كبير الأثر في الشأن العام، فكانت تلهب حماس الناس وتؤثر في ميولهم وأمزجتهم، سواء في العصور القديمة والوسطى أو حتى في العصور الحديثة التي تلت تأسيس الدولة الحديثة، لكن هذه المكانة تراجعت تدريجيا، حتى خفت صوت الأديب وتساوى بل تراجع أمام أصوات أخرى ظهرت بفعل التغير الحاصل في مفاصل الحياة.
وبهذا الصدد، يقول رئيس الاتحاد العام للكتاب والأدباء في العراق علي الفواز، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إن “الأدب ليس بعيدا عن الحياة، ولا عن متغيرات الواقع، فهو جزء منه أو ربما انعكاس له وأحيانا تجاوز عليه، لذلك فالنظر إلى علاقة الأدب بالحياة والواقع، والقدرة على النقد وإحداث التغيير، يعتمد على عدد من المتغيرات”.
ولكنه يقر بأن “الأدب لم يتغير، مع تغير الحياة والواقع والأمزجة، بالإضافة إلى أنماط القراءة والتلقي، جميعها تغيرت، وهذا ما جعل الأدب غير قادر على أن يواكب سرعة هذه التحولات والمتغيرات”.
ويشدد على أن “الأدب في العراق ليس بعيدا عن السياسة ولا عن الإيديولوجيا، وكل ما يحدث في عالم السياسة والمجتمع والصراعات الإيديولوجية ينعكس بشكل أو بآخر على الأدب”.
وشهد العراق على مر الحقب الزمنية السالفة، ظهور كثير من الشعراء والأدباء المؤثرين في المجتمع، من قبيل شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري (1899- 1997)، الذي كان يلهب حماس الشعب بقصائد عصماء يخرج كثير من المتظاهرين على إثرها.
وبشأن التأثير في الرأي العام، يتابع رئيس الاتحاد العام للكتاب والأدباء في العراق، أن “صناعة الرأي العام لم يعد صناعة شعرية وأدبية بقدر ما هي صناعة مركبة يمكن أن يلعب فيها الخطاب الإعلامي أو السياسي أو الاجتماعي دورا مؤثرا”.
ويردف أن “القمع الذي تمارسه السلطة أو فرضها لخطاب ما أو لإيديولوجيا معينة، من شأنه أن يحجم دور الأدب ويجعله محدودا داخل هذا الفضاء، ليشتغل على منطقة مجاورة تتمثل في صناعة الرمزيات والمجازات والاشتغالات الأخرى، وهي صفة ظلت لصيقة وعالقة في تاريخ الأدب العراقي، ما أكسبه منذ ستينيات القرن الماضي وإلى يومنا طاقة هائلة من الرمزيات والثوريات”.
يشار إلى أن “التسييس” و”التضييق” يعد أحد أسباب غياب الثقافة في خلق الرأي العام، ففي العديد من الدول، يواجه المثقفون حالة من التضييق والقمع لمنعهم من التعبير الحر عن آرائهم، وهذا يحد من قدرتهم على الوصول إلى الجمهور ويضعف قدرتهم على انتشال المجتمعات من حالة الركود الذهني والجمود السياسي.
بدوره، يرى الكاتب ياس خضير، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إن “الأدب في العراق تراجع عموما، حيث فقد أداة الوصول للناس، وتخلى عن مكانه تدريجيا للتلفزيون ثم للبث الفضائي ثم لوسائل التواصل الاجتماعي التي طغت بشكل واسع على مفاصل الحياة”.
ويضيف خضير “عند مراجعة نسب القراءة في العالم، نعرف بأن أداة الأديب الأساسية وهي الكتاب قد أصبحت ربما في آخر صفوف المؤثرين، وهذا له عدة أسباب أهمها أن خارطة النجومية المؤثرة قد أدارت بوصلتها إلى جهات أخرى بسبب ثورة التواصل الاجتماعي”.
ويردف “فالمؤثر اليوم هو من يمتلك المتابعين الأكثر عددا، بغض النظر عن بؤس أو سمو محتواه الذي يطرحه، ولكل متابع صفحة أو صفحات على وسائل التواصل، وبالتالي يروج لفكرة مثله الأعلى الذي قد يكون فارغا تماما”.
ويشير الكاتب العراقي، إلى أن “وسائل التواصل الاجتماعي جعلت صاحب المحتوى الفارغ يتساوى مع أي أديب من ناحية امتلاك وسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي هم أمام التكنولوجيا ليسوا سوى صوتين متعادلين، وهذا جزء من الكارثة”.
ويكمل بالقول “الجزء الآخر من المشكلة، يتحمله جزء من الأدباء أنفسهم، إذ بدأوا ومنذ عقود بكتابة أدب لا يلامس قضايا الناس، لا من قريب ولا من بعيد، لا بل حتى أن بعض النخبة لا تفهم ما يكتبه هؤلاء تحت مسميات كالتجديد والكونية ولا أعرف ماذا أيضا، نعم على الأدب أن يحافظ على هويته الجمالية وأن ينطلق نحو الآخر المختلف عرقا ولغة، لكن عليه أن لا ينسى هموم بيئته الأصلية”.
ويتابع خضير “الجزء الثالث تتحمله الدولة والمؤسسات الثقافية الحكومية والمدنية، إذ أهملت أو عجزت عن صناعة الأديب النجم المؤثر في المجتمع، ومن شبه المستحيل اليوم أن يؤثر أديب بكامل مجتمعه من دون مؤسسة ترعاه وتهيئ له أرضية الإصغاء من قبل الجماهير، ولو بُعث أكثر الشعراء المؤثرين في مجتمعاتهم اليوم، لما استطاعوا أن يحققوا ربع ثأثيرهم الذي أحدثوه سابقا وسط ضوضاء هذا الزمان”.
ويبين “سابقا كان يكفي ظهور نص في صحيفة أو ربما ظهور خاطف في لقاء تلفزيوني لجعل كاتبه مشهورا ومؤثرا، اليوم هناك مئات وربما آلاف الصحف والمواقع الإلكترونية والقنوات الفضائية وملايين من صفحات التواصل الاجتماعي، تجعل أقوى صوت أدبي سيتحول إلى همسة خجولة وسط هذه الضوضاء”.
يشار إلى أن الانتشار الواسع للإنترنت ووصوله إلى المنازل أدى إلى تراجع كبير في معدلات القراءة لدى جميع دول العالم، وبات الكتاب الورقي حبيس رفوف المكتبات العامة والخاصة، حيث أنتج ظهور وسائل الإعلام الإلكترونية والمواقع الثقافية والمكتبات الإلكترونية إلى عزوف كبير عن اقتناء الكتب.
وتنسحب ظاهرة غياب الأدباء إلى جميع مفاصل الثقافة، إذ يلاحظ في السنوات الأخيرة ضعف واضح في تأثير المثقفين على الرأي العام.
وفي هذا لإطار، يجد الباحث بالشأن السياسي وائل الركابي، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “تراكم الأحداث على الأدباء والطبقة المثقفة جعلتهم يبتعدون عن مواكبة التطورات السياسية والاجتماعية وخلق رأي عام حول محاولة علاجها”.
ويلفت إلى أن “غياب دور النخبة الأدبية عن انتقاد القرارات الحكومية ونقص الخدمات يصب في مصلحة الطبقة السياسية من أجل عدم توعية صناع الرأي للمواطنين”.
ويتابع الركابي، أن “عملية التوعية من قبل النخبة المثقفة هي مسؤولية تضامنية، وغيابها يخدم الطبقة السياسية، حيث تراهم يعملون ما يشاؤون دون رقابة أو نقد من أية شريحة، الأمر الذي يزيد من دائرة الفساد”.
ويعتقد أن أسباب ضعف الطبقة المثقفة، راجع إلى التحولات التكنولوجية والإعلامية خصوصا وأن الثورة الرقمية وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي أدت إلى تغيير جذري في كيفية استهلاك المعلومات، حيث أصبح من السهل وصول الأخبار الزائفة والمعلومات السطحية إلى الجمهور، مما قلل من تأثير تحليلات المثقفين العميقة والمبنية على البحث والدراسة.