على أمل الاستيقاظ من كابوس الصراع المسلح، تخطط أطراف مقربة من المرجع الديني الأعلى في النجف علي السيستاني، إلى طرح مبادرة تهدف لنزع أسلحة الجماعات المسلحة في العراق وتسليمها للدولة، وفيما أبدى التيار الصدري موافقته على مقترح من هذا النوع بشرط تطبيقها على الفصائل الأخرى أولاً، أكد الإطار التنسيقي امتثاله الكلي لـ”توصيات المرجعية”، في حين شكك محلل سياسي بالاستجابة لهكذا مبادرة من قبل جميع الأطراف، لأن الأسلحة لا تنتزع إلا بالقوة.
ويقول مصدر مطلع، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إن “أطرافا مقربة من المرجعية تخطط حاليا لطرح مبادرة تتضمن دعوة جميع الجهات المسلحة غير الرسمية والمتصارعة في العراق إلى تسليم أسلحتها للدولة، والتخلي عنها تماما”.
ويوضح المصدر الذي طلب عدم ذكر اسمه، أن “المبادرة لن تطرح ما لم يتم التأكد من القبول بها وتطبيقها من قبل تلك الأطراف المسلحة، لذا يجري التحرك حاليا لجس النبض ومعرفة مدى تفاعل الأطراف المعنية مع مثل هكذا دعوة”، مشيرا إلى أن “تلك الأطراف تحركت بضوء أخضر من المرجع الأعلى بعد وصول الصراع السياسي بين تلك الأطراف إلى مرحلة الاقتتال المسلح، وهي مرحلة خطيرة جدا تستدعي تدخلا حاسما من جهة عليا”.
وكان حسين النوري، ممثل السيستاني، أكد خلال زيارته مع وفد حوزوي رفيع المستوى، مجلس العزاء المركزي المقام في مسجد فاطمة الزهراء بالنجف على شهداء اشتباكات المنطقة الخضراء، أن المرجع “حزين جدا ومتأسف على ما حصل، وغير راض ويستنكر هذا الفعل المشين”.
وكانت المنطقة الحكومية المعروفة بـ”الخضراء”، وسط بغداد شهدت، يوم الإثنين 29 آب أغسطس 2022، اشتباكات عنيفة في إثر توجه سرايا السلام، الذراع المسلح للتيار الصدري، إليها ردا على مقتل محتجين من أنصار التيار هناك.
وبدأت أحداث المنطقة الخضراء، ظهر الإثنين (29 آب أغسطس الماضي)، مع بيان للمرجع الديني كاظم الحائري، الذي أعلن فيه اعتزاله عن دوره كمرجع ديني بشكل تام، داعيا إلى طاعة “قائد الثورة الإسلامية” في إيران علي خامنئي، كما أشار في بيانه إلى زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، عبر قوله “على أبناء الشهيدين الصدرين أن يعرفوا أن حب الشهيدين لا يكفي ما لم يقترن الإيمان بنهجهما بالعمل الصالح والاتباع الحقيقي لأهدافهما التي ضحيا بنفسيهما من أجلها، ولا يكفي مجرد الادعاء أو الانتساب، ومن يسعى لتفريق أبناء الشعب والمذهب باسم الشهيدين الصدرين، أو يتصدى للقيادة باسمهما وهو فاقد للاجتهاد أو لباقي الشرائط المشترطة في القيادة الشرعية فهو -في الحقيقة- ليس صدريا مهما ادعى أو انتسب”.
ورد الصدر على بيان الحائري، قائلا “يظن الكثيرون بما فيهم السيد الحائري أن هذه القيادة جاءت بفضلهم أو بأمرهم، كلا، إن ذلك بفضل ربي أولا ومن فيوضات السيد الوالد قدس سره الذي لم يتخل عن العراق وشعبه.. على الرغم من استقالته، فإن النجف الأشرف هي المقر الأكبر للمرجعية كما هو الحال دوما.. وإنني لم أدع يوما العصمة أو الاجتهاد ولا حتى (القيادة) إنما أنا آمر بالمعروف وناه عن المنكر ولله عاقبة الأمور”.
وتابع الصدر في بيانه “على الرغم من تصوري أن اعتزال المرجع لم يك من محض إرادته، وما صدر من بيان عنه كان كذلك أيضا، إلا إنني كنت قد قررت عدم التدخل في الشؤون السياسية، فإنني الآن أعلن الاعتزال النهائي وغلق كافة المؤسسات إلا المرقد الشريف والمتحف الشريف وهيئة تراث آل الصدر الكرام، والكل في حل مني، وإن مت أو قتلت فأسالكم الفاتحة والدعاء”.
ولم يمر سوى وقت قليل جدا بعد بيان الصدر، حتى توجه الآلاف من أنصار التيار الصدري إلى المنطقة الخضراء، وبدأوا مرحلة تصعيدية، تمثلت بالدخول للقصر الجمهوري والقصر الحكومي، والسيطرة على القصرين، وسط انفلات أمني كبير حصل مباشرة بعد بيان الصدر.
وبلغت الأزمة ذروتها بعد نحو الساعة السابعة من مساء الإثنين، حيث اشتدت المواجهات بين سرايا السلام وبين الفصائل المسلحة والقوات الأمنية، سواء في بغداد أو المحافظات الجنوبية، واستمرت حتى صباح الثلاثاء، قبل أن يظهر الصدر في مؤتمر صحفي في الساعة 11 صباحا ليأمر أتباعه بالانسحاب خلال مدة لا تزيد عن 60 دقيقة، وقد انسحبوا بالفعل تنفيذا لأمره.
وفي هذا السياق، يفيد قيادي في التيار الصدري، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، بأن “التيار لن يعارض أية دعوة من المرجعية لتسليم السلاح، لكن ذلك سيكون مشروطا بتسليم سلاح الفصائل أولا، ثم يتخذ التيار هذه الخطوة”.
ويبين القيادي الذي طلب عدم ذكر اسمه، أن “التيار الصدري كان أول الداعين لتسليم سلاح كافة الفصائل للدولة العراقية، وكان هو أول المستعدين لتلك الخطوة، لكن عدم وجود جدية حقيقية بذلك دفعت التيار إلى عدم الإقدام على هكذا خطوة لوحده”.
ويتابع أن “التيار الصدري لن يسلم سلاحه للدولة حتى إذا دعت المرجعية لذلك، ما لم تسلم الفصائل سلاحها، وهذا الأمر أبلغت به كافة الأطراف السياسية والحكومية بشكل رسمي من قبل قيادة التيار”.
ولم يمثل انسحاب الصدريين من المنطقة الخضراء نهاية للأزمة، ففي اليوم ذاته أصدر الإطار التنسيقي بيانا شدد فيه على ضرورة المضي في تشكيل الحكومة الجديدة وعودة جلسات البرلمان إلى الانعقاد، ما دفع الصدر في اليوم التالي (الأربعاء) إلى إصدار بيان شديد اللهجة، عن طريق صالح محمد العراقي، الشخصية الافتراضية الناطقة باسمه، وصف فيه الإطار بالوقح، لأنه يتحدث عن تشكيل الحكومة “ودماء الشهداء لم تجف بعد”، مطالبا إيران بـ”كبح جماح بعيرها في العراق”.
وكان قيادي بارز في التيار الصدري، أبلغ “العالم الجديد”، في 1 أيلول سبتمبر 2022، أن عودة الصدريين إلى الشارع من جديد ودخول المنطقة الخضراء ومنع عقد جلسة البرلمان مرتبط بقضية مضي الإطار التنسيقي بتشكيل حكومة توافقية يرأسها محمد شياع السوداني أو أي شخصية حزبية من قوى الإطار.
من جانبه، يؤكد القيادي في الإطار التنسيقي علي الفتلاوي خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “قوى الإطار التنسيقي، وحتى فصائل المقاومة، مطيعة لما يصدر من توجيهات وتوصيات من قبل المرجعية، وهي تنفذ كل ما يصدر مهما كان هذا القرار”.
ويضيف الفتلاوي، أن “سلاح الفصائل موجود للدفاع عن العراق أمام المخاطر الداخلية والخارجية، وهذا السلاح هو أول من لبى نداء المرجعية بعد فتوى الجهاد الكفائي، وهو مستعد لتنفيذ أي توجيه من قبل المرجعية فهو مطيع لما يصدر من مرجعية النجف”.
ويلفت إلى “أننا نعتقد أن المرجعية تدرك جيدا الخطر الذي يمكن أن يتعرض له العراق والعراقيون، وتدرك أهمية سلاح فصائل المقاومة في دفع هذا الخطر بالتعاون مع القوات الأمنية العراقية، ومع ذلك أكرر أي قرار يصدر منها سينفذ مهما كان”.
وشهدت البصرة، ليل الأربعاء 31 آب أغسطس 2022، اغتيال أحد عناصر سرايا السلام بنيران مسلحين من حركة عصائب أهل الحق، ما أدى إلى اشتباكات بين الطرفين استمرت حتى صباح اليوم التالي الخميس وأدت إلى مقتل 4 مسلحين من جانبي الاشتباك.
وبعد واقعة البصرة، نشر صالح محمد العراقي (وزير القائد)، تغريدة قال فيها “أحذرك يا قيس إذا لم تكبح جماح مليشياتك الوقحة وإذا لم تتبرأ من القتلة والمجرمين التابعين لك أو تثبت أنهم لا ينتمون إليك فأنت أيضا وقح.. كفاك استهتارا بدماء الشعب أيا كانوا، فإن أعطيت لنفسك الولاية بقتل أتباعك مثل (أبا ذر) فلا يعني أنك تنصب نفسك جلادا لكي تغتال كلابك المسعورة الأسود، والحشد براء منك أيها الوقح”.
ورد الأمين العام لحركة عصائب أهل الحق، قيس الخزعلي، على تغريدة “وزير القائد” بتغريدة دعا فيها أتباعه إلى عدم الرد على “الإساءات التي توجه إلي شخصيا”، فيما أوعز بغلق مقرات العصائب حتى إشعار آخر، مشيرا إلى أن “أي مكتب يراد حرقه فليحرقوه ولا تهتموا لذلك”.
إلى ذلك، يرى المحلل السياسي أحمد الشريفي خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “بعض الفصائل لا يمكن أن تسلم سلاحها مهما كانت الدعوة لها بذلك من قبل أي جهة حتى لو كانت المرجعية، خصوصا أن هذا السلاح يعتبر الرصيد السياسي والشعبي لبعض الأطراف”.
ويوضح الشريفي، أن “بعض الفصائل، وربما أغلبها، غير مستعدة لتلبية أية دعوة من المرجعية لتسليم السلاح، خصوصا أن هذه الفصائل لا تتبع مرجعية النجف في التقليد، ولهذا فإن كلام المرجع ليس ملزما لها، وهذا الأمر لا يختلف عليه اثنان”.
ويشدد على أن “حصر السلاح بيد الدولة وتسليم هذا السلاح من قبل الفصائل يكون من خلال الدولة القوية وتنفيذ القانون بشدة بحق كل من يمتلك سلاحا، وما عدا ذلك سيبقى السلاح منتشرا حتى لو أمرت المرجعية أو أطراف غيرها، الفصائل، بتسليم سلاحها”.
يذكر أن العراق يمر بأزمة سياسية خانقة بدأت تتفاقم بعد إعلان نتائج انتخابات تشرين الأول أكتوبر 2021، حيث فازت الكتلة الصدرية بأعلى عدد من المقاعد البرلمانية بين بقية الكتل، ما أثار استياء الإطار التنسيقي الذي يضم معظم القوى الشيعية المقربة من إيران والفصائل المسلحة، فطعن بالنتائج زاعما أن الانتخابات مزورة.
وسعى زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر إلى تشكيل حكومة أغلبية بالالتحام مع تحالف السيادة والحزب الديمقراطي الكردستاني، لكن المحكمة الاتحادية تلقت طلبا بتفسير المادة الدستورية المتعلقة بنصاب جلسة البرلمان لانتخاب رئيس الجمهورية، فجاء التفسير مشترطا حضور ثلثي أعضاء البرلمان لتحقق النصاب، ما مكن الإطار من تشكيل “ثلث معطل” أحبط أكثر من جلسة لانتخاب الرئيس والمضي في تشكيل الحكومة.
وفي إثر ذلك، قرر الصدر سحب نوابه من البرلمان، فقدموا استقالاتهم في 12 حزيران يونيو 2022، فسارع الإطار إلى شغل مقاعدهم وتكوين أغلبية برلمانية قادرة على تشكيل الحكومة، لكن الصدر قرر مواجهتهم بقوة الشارع، فقد اقتحم أنصاره مبنى البرلمان في 27 تموز 2022 ثم اعتصموا حوله، ما أدى إلى تعطله.