ليس (جاكي شان) وحده المغامر الأشجع، ولا حتى (جيمس بوند). ثمة نماذج عراقية حقيقية تمارس الجنون كل لحظة. اليوم همّ سائق (الكية) أن يهرب من زحام صباحي كئيب، سدد رأس السيارة نحو رصيف مهشم تبخرت فيه ملايين الدنانير قبل أشهر فقط، فنشب خلاف بين معشر (النفرات). على المقعد القريب من الباب الانزلاقي، تجلس عجوز متشحة بالسواد، زادها هيبة وشم ارتفع إلى شفتها السفلى، التي يبدو أنها تصطك على قصص هوليودية، كانت أول المعترضين: (وليدي امشِ شهر ولا تعبر نهر).
إلى الخلف، رجل يرتدي ملابس ملطخة ببقع زيت هو ميكانيكي على الأرجح، اشرأب عنقه، أطلق تحذيرا من حدوث عطب كما يتكرر دائما في المكان عينه ولسيارات اشد متانة. يمين السائق رجل أربعيني غمز للسائق أن مر ولا تعبأ بهم، ثم رفع يده ليشطف بطرف ردنه عرقا سال على جبينه المتغضن. مد مراهق ذو شعر قنفذي، كوّر بوزه ونفث زفرة تغلي من الضيق والحنق، ثم قال بانفعال: (عيني أبو الشباب توكل على الله واعبر، انطبخنا ترى).
شرطي مرور مربع الشكل يقف على انكسار لاهثا مستسلما أمام هذه الفوضى الخلاقة، ماذا يفعل، من يعاقب، هل يبدأ بالمدنيين أم العسكريين أم مواكب المسؤولين؟ الانسحاب أفضل في هذه الحالات، تدحرج متثاقلا ككرة نحو خرطوم ماء، اعتاد أن يستعين به عندما تعجز صفارته عن صون الفن والذوق والأخلاق بعد النظام، إن انفلات الماء المستمر في هذه الساقية هو جزء من انفلات عام غزا المدينة من الجهات الأربع. صاحبنا سائق الكية قرر المغامرة، أعطى لمطيته أمرا فتراجعت قليلا، بانت للركاب صور معلقة على درابزين النفق الذي افتتح مؤخرا بعدما سُوي أرضا بتفجير من أربع سنين، لأن \”المصلحة\” اقتضت كما برر الهدّامون يومها. تهجم الأربعيني على الصور: \”كذابون مراؤون مخنثون، كـ …\” أراد أن يشتم أمهاتهم وأخواتهم، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة عندما تذكر أن نساء هنا.
تدفق صوت متقطع بعد الكبس على دواسة البنزين، وكأن (الكية) الوديعة انقلبت إلى ثور هائج يضرب حافره أرضا استعدادا لهجوم كاسح. تحركت إلى الأمام، ارتطم إطاراها الأماميان بالرصيف فارتدت إلى الخلف، أعاد السائق الكرة، لكن بسرعة اكبر وبزاوية حادة. يا صاحب الحوت.. يا شيخ فتحي.. يا الكيلاني… ابتهلت العجوز. بحركة كنغرية صعدت السيارة، نقر أنف احدهم زجاج النافذة، وطاح أرضا هاتف جوال، وتموجت صدور وخدود، لكن في النهاية نجح (الجاكي) في تهريب نفسه والركاب من زحام خانق، صفقوا له وربت الأربعيني على كتفه. وإذ عَدَتِ السيارة بهم مسرعة نافذة من عنق زجاجة، التفت الميكانيكي إلى الخلف، قذف، مزق الصور المتشبثة بسلم النفق بـ: تفووووو…. مبالغ فيها كثيرا. سال البصاق على الزجاج حاجبا عن عينيه المحمرتين ابتساماتِ المرشحين الكذوبة التي اصطنعت قبل أشهر لصالح لحظة حلم بكرسي وثير هو جنة للمسؤول وجهنم على المواطن. \”أغبياء، لقد شنقوا أنفسهم على هذا النفق\”.