فوضى السلاح في ليبيا مقدمات ونتائج

أظهرت الأحداث الدموية الأخيرة، التي ألمت بالعاصمة الليبية طرابلس، سطوة الميليشيات المسلحة الخارجة على سيطرة الحكومة، وتدهور مكانة مؤسسات الدولة بما ينذر بتفككها نهائياً، والافتقار إلى حلول وطنية قادرة على احتواء الأزمات السياسية والأمنية المركبة، بعد سقوط النظام السابق، التي نقلت البلد من الاستبداد إلى فوضى السلاح.

قدمت ليبيا، خلال ما يقارب ثلاث سنوات على انطلاق الحراك المعارض لنظام حكم الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، العديد من النماذج الخاصة، منها ما هو ايجابي ومنها أيضاً ما هو سلبي، لكن في المحصلة المرصودة راهناً طغت السلبيات على الإيجابيات. 

فلم يكن ثمة من يتوقع أن يتأثر الشارع الليبي سريعاً بالحراك الشعبي في تونس ومصر، ولعل خصوصية الحالة الليبية، في الدوافع المباشرة لانطلاق الحراك المعارض وصيرورته، وما آلت إليه الأوضاع، تستدعي المزيد من الدراسة لهذه الحالة في إطار ما يصطلح على تسميته بـ\”ثورات الربيع العربي\”، على أرضية تحول النماذج السلبية، التي افرزها الحراك الليبي المعارض، بعد سقوط نظام حكم القذافي، إلى نماذج نابذة تستخدم في الدعاية المضادة لأي حراك شعبي معارض في بلدان عربية أخرى.

وللموضوعية برزت، منذ بدايات الحراك الليبي المعارض، العديد من المخاوف إزاء مستقبل الحراك، على ضوء البنية المغلقة للنظام السياسي السابق، والمستوى البدائي لمأسسة الدولة على نحو مقصود، كي تبقى الكلمة الأولى والأخيرة للزعيم الفرد، في محاكاة لنظرياته في \”الكتاب الأخضر\”، أو ما كان هو نفسه يفضل أن يسميها بـ\”النظرية العالمية الثالثة\”، القائمة على رؤيته الخاصة للقضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كيفية ترجمتها على أرض الواقع.

ومن أهم الترجمات لنظرية القذافي منع أي نشاط حزبي أو مجتمعي، وتهميش مؤسسات الدولة بإدعاء تطبيق فكرة \”حكم الشعب للشعب عن طريق لجان شعبية\”، وأن المؤتمر الشعبي العام هو من يحكم ليبيا، وأن دور القذافي نفسه لا يعدو كونه قائداً للثورة في ليبيا والعالم، وبالتالي لا يشغل منصباً رسمياً يحتاج إلى أن يستمد شرعيته من صناديق الاقتراع.. الخ من أفكار حرمت المجتمع الليبي من المشاركة السياسية ومن تنظيم نفسه طوال أربعين عاماً، ما خلق حالة من الفراغ في البنية السياسية والمجتمعية الليبية، أثارت العديد من الأسئلة الصعبة مع انطلاق الحراك المعارض لنظام حكم القذافي، مع تأكيد الجميع أن هذا الحراك فرضت عليه منذ البداية خصوصية، تجعل من الصعب التنبؤ بتطوره ونتائجه.

وكان المسار العنيف الذي اتخذه الحراك المعارض مبكراً، كرد على عنف النظام، أول نموذج من النماذج الخاصة التي قدمتها الحالة الليبية في موجات \”الربيع العربي\”، خلافاً للنموذجين التونسي والمصري، اللذين رفض فيهما الجيش الاصطدام بالشارع، مفضلاً التخلي عن رأس نظام الحكم للحفاظ على السلطة.

 ولم يكن ذلك ممكناً لولا تمتع الجيش في تونس ومصر ببنية مؤسسية، قوية بالقدر الذي مكنها من أن تتخذ قرار التخلي عن زين العابدين بن علي ومحمد حسني مبارك. بينما في الحالة الليبية، وكأحد تطبيقات نظرية القذافي، لم يمتلك الجيش بنية مؤسسية قادرة على تجنيبه خطر التفكك في خضم الحراك المعارض لنظام الحكم، الأمر الذي أدخله في مواجهة مع الحراك المعارض، نقلت الصراع إلى طور دموي بظهور المعارضة المسلحة كبديل للحراك الشعبي السلمي، مدعومة بتدخل عسكري خارجي لإسقاط نظام حكم القذافي، وهذا النموذج السلبي الثاني الذي قدمته الحالة الليبية.

النموذج السلبي الثالث، الذي قدمته الحالة الليبية، فشل \”المجلس الانتقالي\” في امتحان ضبط الوضع الأمني وفوضى السلاح، ووقف عمليات الثأر الانتقامية ضد أنصار النظام السابق، وإثبات مصداقيته في إجراء تحقيق شفاف يكشف ملابسات التصفيات الجسدية التي تعرَّض لها القذافي ونجله ووزير الدفاع وعدد آخر من المسؤولين والعسكريين الليبيين، وأثارت قلق العالم من مشاهد تعذيب القذافي حتى الموت في شكل متعمد وقاس، ومشاهد لجثث أشخاص من أنصاره أعدموا بدم بارد، لم تستطع المؤسسات الدولية ودول العالم، بما فيها دول (حلف الناتو)، التغاضي عنها.

وتمثل النموذج الرابع في غرق\”المجلس الانتقالي\” بانقسامات حادة في صفوفه، والتأثير الكبير للميليشيات القبلية والجهوية المسلحة والخارجة عن نطاق سيطرته، وميل الخارطة السياسية الجديدة في ليبيا لصالح كفة الجماعات الإسلامية المتشددة، التي أسقطت في أول ضرباتها رئيس \”المكتب التنفيذي للمجلس الانتقالي\” محمود جبريل، وكرست كل جهدها لإسقاط رموز التيار العلماني، ومن بينها محمود شمام وعلي الترهوني وعبد الرحمن شلقم وناجي بركات. وكان جبريل قد أعلن قبل استقالته أنه لن يكون طرفاً في الحكومة المقبلة, ولن يتعدى دوره الإسهام في بناء مجتمع مدني لم تعرفه ليبيا في تاريخها الحديث.

عدا عن العجز أمام التحديات الأمنية، والانقسامات في صفوف \”المجلس الانتقالي\”، ومن ثم \”المجلس الوطني\”، وسياسة الإقصاء، فشل الحكم الجديد في تحدي البدء بإعادة أعمار ما دمرته الحرب، ويحتاج ذلك إلى عشرات المليارات على مدار سنوات عديدة، إلى جانب مليارات أخرى لبناء وتسليح جيش جديد، واستنهاض المؤسسات الخدمية والصحية والتربوية، ونفخ الروح في الاقتصاد الليبي وتخليصه من طبيعيته الريعية المعتمدة على تصدير النفط، لتصبح القضية الآن بسط سيطرة الدولة الثروة النفطية وصناعتها ومنع الميليشيات المسلحة عن التحكم بها. 

وللأسف طغت النماذج السلبية المشار إليها على العديد من النماذج الايجابية، أهمها النجاح في إجراء انتخابات ديمقراطية ضمن معايير مقبولة من حيث الشفافية والنزاهة، والمشاركة الواسعة للمرأة الليبية في الحراك الشعبي المعارض، وإقبال النساء على العملية الانتخابية بنسب فاقت مشاركة فئات المجتمع الأخرى. وكذلك إبداء العديد من السياسيين المخضرمين زهداً بالمناصب الحكومية، وتقديمهم الصالح العام على المصالح الخاصة والفئوية. 

وكنتيجة لطغيان السلبيات على الإيجابيات، وبالطبع ذلك لم يكن قدراً إنما بسبب تراكم الأخطاء والتركة الثقيلة لنظام القذافي، تعاني ليبيا من فراغ في السلطة وصراع تناحري عليها، واحتقان شعبي يقود إلى العنف في الشارع، وبرز ذلك سابقاً في تصاعد وتيرة المظاهرات الاحتجاجية، في مدينتي بنغازي وطرابلس، ضد \”المجلس الوطني الانتقالي الليبي\”، وما سبقها ولحق بها من تحركات جماهيرية حاشدة تنديداً باستمرار وجود المليشيات القبلية وفوضى السلاح في العاصمة، واندلاع معارك على خلفية ثارات قبلية قديمة في مدينة الزنتان، ومظاهر التخبط والانقسام التي تعتري \”المجلس الوطني\”، وشلل الحكومة الانتقالية، وانهيار كافة مؤسسات الدولة والقطاعات الخدمية، والمواقف المناهضة لدعوات المصالحة الوطنية، وطي صفحة الماضي. 

وفي ظل واقع استمرار فوضى السلاح، لا أحد يستطيع الإحاطة بما ستنطوي عليه المرحلة القادمة من تناقضات وصعوبات وصراعات، وكيف سيكون المستقبل، الحاضر- الغائب في عناصر اللوحة السريالية الليبية لما بعد القذافي، التي تراوح حتى الآن في مأزق الانتقال من جبروت نظام فردي استبدادي إلى سطوة فوضى السلاح.

*كاتب ليبي

**المصدر: Anbamoscow

إقرأ أيضا