يوم كان عبد الناصر في أوج صعوده الاسطوري، قيل ان لا احد ينافسه في قلوب المصريين غير ام كلثوم. كان فن ام كلثوم راقيا وباذخا، ربما حد البطر، وبالتالي لا يوحي بأنه يمكن ان يخاطب غير النخبة. كان أمرا غير مفهوم على وجه الدقة، كيف أمكن لهذا النوع من الفن ان يجمع كل طبقات الشعب ليصل الى فلاح أمي مسحوق في قرية منسية يردد معها كلمات اغنياتها بالفصحى دون ان يفقه معناها. لكنه فن سكن ضمير الامة ووحدها على اختلافاتها، وهذا بالضبط ما يفعله الابداع عندما يكون صادقا وحقيقيا فانه يتسلل الى الوجدان ليجمع حوله المختلف.
استمعت يوما الى أحد المثقفين المصريين يقول ان ميدان التحرير كان يرتج ارتجاجا ومئات الالوف من البشر تضرب الارض بأقدامها وتردد مع صوت شادية \”يا حبيبتي يا مصر\” وهي اغنية قيلت قبل اكثر من نصف قرن، لكنها سكنت الضمير الجمعي ليستحضرها في لحظة التوهج تلك.
عندنا في العراق ايضا رموز ابداعية نجتمع حولها، الا ان الحقبة الديكتاتورية اوجدت انقطاعا في التواصل بين المبدع والشعب فخلفت في اعمارنا مساحة رمادية حجب فيها الابداع الصادق والحقيقي، حتى تصحرت النفوس وتاهت في جحيم الحروب والقمع والتجويع والاذلال. ثم جاء الاحتلال لينبش فينا اختلافاتنا المذهبية والعرقية ويستخرج أسوأ ما فينا ليوصلنا الى جنون القتل الطائفي اليومي.
لكن المشترك التاريخي بيننا ما زال موجودا لا يمكن ليد شريرة ان تمحوه. وأزعم ان ما صنعه مبدعو العراق يظل نقطة توحد عصية على الاختلاف والتقاتل، بل هو عصي حتى على اولئك الذين ينفثون سموم الطائفية بوجوهنا كل يوم. هل يجرؤ واحد من هؤلاء ان يباهي الآخر بأن الجواهري كان شيعيا او ان زها حديد سنية؟ نحن مازلنا نلوذ بنصب الحرية كي نذكر بعضنا بعضا بأن ابداع جواد سليم يوحد انتماءنا المشترك. نحن جميعا نستمع الى صوت سليمة مراد اليهودية وعفيفة اسكندر المسيحية وناصر حكيم الشيعي وسعدي الحديثي السني. مازلنا نستمتع بشعر موفق محمد الشيعي ولميعة عباس عمارة المندائية ويوسف الصائغ المسيحي. مازلنا نتذوق لوحات نوري الراوي السني وفائق حسن الشيعي ونقف مبهورين امام نصب الشهيد، تلك التحفة المعمارية التي صنعها اسماعيل فتاح الترك دون ان نسأل عن انتمائه المذهبي. مازلنا نتذكر الابداع المسرحي ليوسف العاني السني وقاسم محمد الشيعي وازادوهي صاموئيل المسيحية.
هل أوجعكم اقتران اسماء تلك الرموز الابداعية بانتماءاتها الطائفية؟ بلى، وهنا بيت القصيد فالابداع مساحة تعف عن الكراهية والعنف وتستعصي على التناحر الطائفي وتعلو فوق الاختلاف فتوحد المختلف في خيط مبهم من التواصل المجتمعي.
وأما الزبد فيذهب جفاء…
في الإبداع وأهله
2013-09-14 - منوعات