هذا المثل عبقري في معناه، لأنه يلمس سر الحياة القائم على الحركة. قد تبطىء هذه الحركة حينا وتتسارع حينا آخر، الا انها ان توقفت ماتت الحياة. ولما كانت الأمثال تضرب كي يعتبر بها بنو البشر، احسب ان هذا المثل لم يكن مجرد اقرار لحقيقة ازلية، انما ضرب كي يكون حافزا للانسان ليلعب دورا في تسريع حركة الحياة، بدل التفرج عليها وهي تدور ببطء.
على السطح، تبدو حياتنا راكدة لا تغيير فيها، وتتكرر على الدوام الشكوى من ان لا شيء يتغير رغم تعاقب السنين. فالمشكلات ذاتها قائمة، والأفق يبدو قاتما مع غياب الحلول، والاحباط يأخذ بخناق النفوس، هذا رغم علمنا جميعا بأن الحياة في حراك دائم وان دوام الحال من المحال، هكذا يقول مثل عبقري آخر.
والحركة هي عدو الماء الراكد الذي يحيل البشر الى طحالب تنمو وتتكاثر في السباخ. الا ان آفة الحياة الراكدة هو الاعتياد. لقد اعتدنا ان نشرب الماء الملوث، ونفرح ببضع ساعات من الكهرباء، ونرضى بجزء ضئيل من الحصة التموينية التي اقتطعت مبالغها كاملة من اموالنا. واعتدنا على ابتزاز الموظف لمراجعيه، رغم انه يتقاضى راتبه من اموالنا نحن، وما وظيفته الا تقديم الخدمة المجانية لنا. وما عادت تستوقفنا الأكاذيب الصبيانية للسياسيين وفقدنا الأمل في محاسبة لصوص المال العام. وما عاد يستوقفنا ايضا خراب الشوارع، وقبح المباني، واختناق المرور، ومشهد آلاف السيطرات التي تفتشنا نحن وتعمى عن رؤية الانتحاريين وهم يعبرون ببسياراتهم المفخخة آمنين تحت انظار الجميع. حتى الموت اصبح جزءا من حياتنا، وان لم يمسسنا الانفجار مباشرة، سرعان ما يتحول الى فرقعة صوتية مبهمة تأتي من بعيد لننساها بعد دقائق، ربما انتظارا للفرقعة التالية.
اتذكر في سبعينات القرن الماضي، يوم قتل ابو طبر بضعة افراد، كيف كان شباب بغداد يبيت في الشوارع كل يحمي منطقته من غزوات ذلك المجرم الغامض. يومها، كان القتل هو الاستثناء الذي يستثير الحراك، وعندما يصبح ممارسة يومية معتادة، لا يعود القتل ولا القاتل يستفزان احدا سوى الضحايا.
من هذه الزاوية، زاوية تحريك الماء الراكد، انظر الى حراك بعض من ابناء هذا الوطن الذين ضاقوا ذرعا بدوام الحال، فبدأوا حراكا يهز سطح الماء الراكد عله يصل الى الجذور كي تتنفس هواء نقيا. والعمل المشترك يصفي النفوس ويغسل القلوب مما علق بها من ادران الاحقاد المتراكمة. لربما بدا هذا الحراك ضعيفا ومشتتا، الا انه يصنع حالة جديدة في وسطه المحيط تنبه الى ان الحياة لن تتوقف وان بدت راكدة. وكما ان الطائفية حالة معدية، كذا الحراك الشعبي، لا يمكن الا ان ينتقل بالتواصل والتماس ليصبح معديا فتتسع معه دائرة الحراك. ولا يتوهمن احد ان هذا مجرد هواء في شبك وانه لن يؤت ثماره. وتذكروا مظاهرات شباط في ساحة التحرير التي ضمت بضعة آلاف لكنها هزت الحكومة فأطلقت آلتها القمعية تحاصر المتظاهرين وتطاردهم في الشوارع الجانبية وتعتقل من تعتقل منهم. وتذكروا ايضا الحراك الشعبي لالغاء تقاعد البرلمانيين الذي دفع بالبرلمانيين قبل غيرهم الى المسارعة باعلان براءتهم من هذا التقاعد والانضمام تملقا الى المطالبين بالغائه.انها اداة ضغط هائلة وهي الوحيدة القادرة على ان تحرك الماء الراكد في دوائر دائمة الاتساع.
في مسرحية للراحل قاسم محمد، كان الممثلون يرددون على المسرح اهزوجة تقول \”ياناس كل البركة بالحركة\”.. صدقوا ذلك.