الافساد يوّلد الفساد، وهذا بدوره يجر الى افساد آخر، حتى تكتمل تلك الدورة الشيطانية التي تنخر في جسم الدولة وفي نفوس البشر. وآفة كل آفة هي الاعتياد فيغدو الفساد جزءا من الحياة اليومية، لا يعود أحد ينظر اليه بوصفه اخلالا بالقيم والحس الوطني، بل وحتى الكرامة الانسانية للراشي والمرتشي معا، بل مجرد تلبية لحاجة حياتية يومية. لا اعرف الاحساس الداخلي لانسان يمد يده لتقاضي مبلغ، صغر ام كبر، لقاء اداء خدمة عامة. وأخمن ان البداية قد تكون موجعة للكثيرين وماسة بكرامتهم الانسانية، لكن الاعتياد يحولها الى ممارسة يومية لا يعود احد يلوم احدا عليها، ومن يلوم او يستنكر او يمتنع يصبح نغمة نشاز داخل منظومة متناغمة متكاملة الحلقات، من فوق الى تحت وبالعكس، فلا يعود امامه سوى الانخراط في المنظومة او النجاة بنفسه من شباكها. انها منظومة لها قواعدها وآليات عملها وتراتبيتها، وحتى طقوسها في التعامل اذ تكفي احيانا نظرة او ايماءة لعقد صفقة الرشوة دونما حاجة الى ايما كلام. وآليات العمل في منظومة الفساد والافساد عديدة ومتنوعة قدر تنوع مواهب البشر في ابتكار طرق الاحتيال واصطياد الفرص والتأقلم مع المجتمع المحيط ثم الذوبان في نسيجه.
من يفسد من؟ أهم الكبار الذين يدلون الصغار على منابع الفساد، ام ان الصغار هم الذين يستسهلون الامر في ظل مناخ فاسد اصلا وسط ضياع للقيم والاحساس بالانتماء؟ يحضرني هنا ذلك المثل العراقي الحكيم الذي يقول بان السمكة تفسد من رأسها. لكن ما هي تلك الآلة الجهنمية التي تحيل شابا او شابة في ربيع العمر الى انسان ذليل يفتح درج مكتبه كي يبتز المراجع المتلهف لانجاز معاملته؟ كم نحن بحاجة اليوم الى الراحل الكبير الوردي كي يشرح لنا كيف تتراكم المرارة في نفس غضة لتحيلها الى روح عدائية ساخطة تحتمي خلف ستار من العبثية واللامبالاة، وما هي الابعاد الاجتماعية لذلك التحالف الصامت بين الراشي والمرتشي.
بدأ الفساد في اجهزة الدولة يتخذ شكل ظاهرة يوم كان راتب الموظف يساوي دولارا واحدا فقط ونفقاته اليومية لا تقل عن دولار. وتسامح المجتمع ازاء هذه الظاهرة وهو يعيش في ظل حصار خانق شل البلاد، حتى اصبحنا نعيش على موارد بعضنا البعض رغم شحتها. ثم قلبت الموائد ودخل الى المشهد جراد لا يشبع في دولة منهارة ومنهوبة مسلوبة الارادة، لكنها تمتلك موارد هائلة لم يسبق لها مثيل. وهجم الجراد ليلتهم المائدة السخية، لا هو يشبع ولا المائدة تفرغ. ولعل دوامة الفساد والافساد لن تنتهي، إلا بقلب المائدة.