أحكي لكم من سالف عصري وزماني، ذات يومٍ وأنا في أول مراهقتي الروحانية، إذ رغبت بزيارة الكاظم (روحي فداه) فاشترطتْ أمي عليّ عدم التأخير، والانتباه في الرواح والإياب. لبستُ قمصلتي النايلون الحمراء، وخرجت بالتراتيل والأحراز، من بيتنا الى مرقد الإمام. دخلت الحضرة المباركة وكلي خشوع وانحناء، طفتُ وأديت ركعتي الصلاة، ثم جلست متقرفصاً على نفسي، أردد قصار السور والآيات، لكني طمعتُ بالمزيد من الثواب والحسنات، مددتُ يدي الى كتب الأدعية والزيارات، تناولت كتاباً أخضرَ مزخرفاً، أغمضت عيني وفتحت الكتاب، مستعيناً بالغيب في اختيار الدعاء، صليت على النبي في نفسي من بشرى الطالع وجميل الدعاء. كنت أحب الأدعية والزيارات والتكبير، ولم أعهد من قبل دعاءً اسمه (الجَوشن الكبير) شرعتُ به ودخلت في التألق والسمو والتطهير.
{اللهم أني أسألك باسمك يا الله يا رحمن يا رحيم يا كريم يا مقيم يا عظيم… يا حكيم…يا …يا… يا… سبحانك يا لا اله إلّا أنت، الغوث الغوث، خلصنا من النار ياربْ}.
طمعت بثواب أكبر، طالما الدعاء بهذه المقدمات، فدعوت بعض الشَيبة للالتحاق بي، رغبة في اشراكهم بفيوض نورانيتي التي بدأت مع الدعاء. طلبت منهم أن يجلسوا خلفي، ويرددوا بعدي المقطع الآنف الذكر مع نهاية كل وقفة، بإشارة مني. كان أحد الشيبة معاقاً وبيده عصا غليظة يتوكأ عليها، وله فيها مآرب أخرى. جلس خلفي بالضبط، ومدّ رجله اليسرى حتى لامست إليتي، واعتذرَ عن ذلك. شرعت مرة أخرى بالسمو والدعاء، يا رحمن يا رحيم … يا ستار يا غفار… يا ودود يا موجود… ثم أشرت لهم، وبالفعل ردّدوا معي (سبحانك يا لا اله إلّا أنت، الغوث الغوث، خلصنا من النار ياربْ).
يا حبيب من ناجاه، يا مؤنس من دعاه، يا.. (سبحانك يا لا اله إلّا أنت، الغوث الغوث، خلصنا من النار ياربْ) ختمتُ أول صفحة، لم ينته الدعاء، في خاتمة الصفحة الثانية، قلّ المرددون خلفي، كنت في ورطة. هذا الدعاء حسب الظاهر لا ينتهي، وكلما أقلب صفحة منه، أنظر مباشرة الى الجهة المقابلة ولا أرى أي مؤشر لنهايته، وبالي مشغول بوعدي لأمي، وخلفي شيوخ لديهم ارتباطات والتزامات، ما العمل؟.
القضية مستمرة و(سبحانك يا لا اله إلّا أنت، الغوث الغوث، خلصنا من النار ياربْ).
سمعتُ أحدهم خلفي يقول لصاحبه: هذا منين طلعلنه؟.
لكني استبعدتُ أنه يقصدني، لأني متفضلٌ عليه بهذه الجلسة المباركة. بعد الصفحة الخامسة، صرت في حالة غريبة، أردد كلمات غير موجودة في متن الدعاء. ربما أصابني الهذيان، والقوم خلفي خفّ صوتهم وهم يرددون ما أكرهوا عليه.
أحسستُ بعد الصفحة التاسعة أن جسماً غريباً مَسّ ظهري، كأنها كانت عصا الشيخ، نغزَني بها، جاءني شعور بأنه سينزلها على رأسي، ويفلق هامتي، فصرت أدعو (يا عاصم الرؤوس من الفؤوس، يا منقذ النعاج من التيوس!) سبحانك يا لا اله إلّا أنت، الغوث الغوث، خلصنا من النار ياربْ. مضت ساعة، الدعاء لم ينته، والإرهاق أخذ مني ومنهم مأخذا، حتى انتفض أحد الشَيبة من خلفي وأعلن التمرد: اتـغـشمرْ علينه، دَعَه هذا لو بَـلوهَ بُويهَ؟ وانته ما أدري اشلونك، چنـّـكْ ديچ هراتي بهاي غمصلتك الحمرة. وجَرّ دشداشدته من بين فتحة الجبلين وانسحب وهو يدردم: بحياتي كلهَ ما شايف هيچ دَعَه يُخبز، والله خبزنه هالفرخ، انّوب لابسهه حمرة.
لكني ومن تبقى مستمرون.. سبحانك يا لا اله إلّا أنت، الغوث الغوث، خلصنا من النار ياربْ.
بعد الصفحة الثالثة عشر، وأنا في قمة التألق والتعرق، سقط أحد الشيوخ على وجهه بجنبي، أغمي عليه، قلت في نفسي وأنا مستمر في الدعاء: هذا من أثر الروحانيات، هنيئاً له.
يا رازق يا فاتح يا كاشف يا حامد… يا أحمد يا محمود يا غالب يا تحسين يا سمير يا غسان يا قتيبة (تحولتُ الى أسماء زملائي في الصف، بدل من أسماء الله الحسنى من الإرهاق)و.. سبحانك يا لا اله إلّا أنت، الغوث الغوث، خلصنا من النار ياربْ. انفضّت الشراكة، تركوني وهم يلعنون الساعة التي جلسوا فيها خلفي، فبقيت وحدي أقاوم، ابتسم بوجوههم وصدري يكاد يلتصق بالأرض من التعب و… سبحانك يا لا اله إلّا أنت، الغوث الغوث، خلصنا من النار ياررربْ
اقترب أحدهم مني وقال لي: توگف من هالدَعَه لو أصيحلك السيّد؟.
لكن للأسف لم تكن لي قدرة على إجابته، فلقد ذابت روحي تماماً في الدعاء، فأجبته بانكسار (سبحانك يا لا اله إلّا أنت، الغوث الغوث، خلصنا من النار ياربْ).
قال لي: وليدي، يا غُوث؟ يا مُوث ؟ اتسودنت؟ أنت شنهي سالفتك؟ وين أُمّك؟ ثم التفتَ الى أحد خدمة الحضرة، من ماركة قلم أبو المسّاحة: سيّدنه، سيّدنه، تعال شوف هذا، يمكن لزمة الإمام، لو شَوّر بيه، قال السّيد لما أبصر ما أقرأه: اشورطت روحك ابني، هذا الدَعَه ميخلص، وأشار الى مرافقيه بحملي من مكاني الذي تسمّرت فيه، طردوني من الحضرة بأدب، بعد ساعتين ونصف من دعاءٍ لا ينتهي!
جلست في الفورت الى باب المعظم، وحين طلب مني مساعد السائق الكروة قلت له وبتلقائية: سبحانك يا لا اله إلّا أنت، الغوث الغوث، خلصنا من النار ياربْ، فسكتَ، والظاهر أن أحدهم من خلفي أشار له بغمزة أو حركة، ودفع الأجرة عني، كنت أرغب بالدفع، لكن قوة في داخلي كانت تدير ذاكرتي، وحسب الظاهر أن ذاكرتي أصابها عطب اسمه (الغوث الغوث، خلصنا من النار ياربْ)
نزل الذي دفع الأجرة في ساحة عنتر، والتفت نحو مساعد السائق وقال له: أُوصيك بهذا، وأشار إليّ، تره هذا المسكين لاگف، وصلتُ البيت متأخراً وقد غربت الشمس، وأمي واقفة بباب الدار تنتظرني، تنتظر أملها الموعود: ها؟ مو گلتْ ما أتأخر؟
سبحانك يا لا اله إلّا أنت، الغوث الغوث، خلصنا من النار ياربْ!.
دخلت غرفتي، كل شيء فيّ جيد، إلّا دماغي، فقد مُسحت كل ذاكرته ولم يبق فيه إلّا تلك الجملة المباركة، بقيتُ على ذي الحال سبع ليالٍ وثمانية أيام حتى انزاحت الغمة عن هذه الأمة.
*الحادثة ليست من الخيال
Ayoobeat@hotmail.com