لذكرى صديقي الفقيد نبيل نديم
العفو المشروط: وخلال الصياغة، كانت هناك مخاوف من أن تؤدي المساومات التي تجري على مستوى الحكومة إلى إصدار قرار بأن هيئة التحقيق المقترحة لا تستطيع النظر في طلبات العفو إلا خلف أبواب موصدة). الأمر الذي قد يؤدي إلى عقد صفقات معينة أو قد يلجأ بعض المتهمين العنصريين إلى أسلوب الابتزاز والتهديد ضد لجان التحقيق والعفو وخوفا من انفضاح حقيقة مسؤولين كبار كانوا بعيدين في الظاهر عن عمليات القمع الحكومي ولهذا فبموازاة الضغط الذي مورس داخل الحكومة جرى نقاش علني في البرلمان وجرت عمليات كسب تأييد مكثف مارستها المنظمات غير الحكومية. وكان المحصلة النهائية إدراج نص في الفقرة 20 من قانون تعزيز الوحدة والمصالحة الوطنية للعام 1995 يفيد أنه (عندما يعترف المذنب في طلب مقدم للحصول على عفو بارتكاب \”انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان\” يجب أن تكون الجلسة علنية. ويترتب إبلاغ الضحية أو أحد أقربائه بتاريخ الجلسة ومكانها ويحق له \”الإدلاء بشهادته أو تقديم أدلة أو أي شيء يؤخذ بعين الاعتبار\”. وينبغي على مقدم الطلب \”أن يكشف جميع الحقائق ذات الصلة كاملة\” وأن يثبت بأن الفعل الذي يسعى إلى الحصول على عفو عنه \”كان فعلاً مرتبطاً بهدف سياسي وارتُكب في سياق النـزاعات التي نشبت في الماضي\”). بمعنى من المعاني أن سلطة منح العفو أصبحت شفافة تماما وأن ضحايا القمع الأحياء وذويهم أصبحوا جزءا من الجهة التي تقرر منح العفو لطالبه أو عدم منحه وكانت هذه الفقرة خطوة مهمة عززت سعي التيارات الوطنية للدفاع عن حقوق الضحايا و ضمان تواصل العملية بسلاسة وبعيدا عن التشنجات الثأرية.
ثمرة التجربة: وما دمنا بصدد موضوع قرار منح أو منع العفو عن المذنبين فقد ورد في تقرير منظمة العفو الدولية (كان يحتمل أن تكون النتيجة قاسية لجهة حقوق الضحايا، لأن مقدم الطلب الذي يحصل على العفو سيتمتع بحماية دائمة من أية تبعة جنائية أو مدنية بالنسبة للجرم الذي أقر بارتكابه. ولم يشترط القانون أن يبدي الجاني ندمه أو يقدم تعويضات شخصية إلى الناجي أو عائلته. وطعن أقارب بعض النشطاء البارزين المناهضين للفصل العنصري والذين كانوا ضحايا لوحشية الشرطة في هذه النصوص أمام المحكمة الدستورية. وفي حين أن المحكمة أقرت بأن النصوص أثَّرت على الحقوق الأساسية التي يحميها الدستور الجديد، إلا أنها قضت بأن الجزء التالي للديباجة حدَّ فعلياً من تلك الحقوق وأنه ينبغي على الضحايا أن يأملوا في برنامج حكومي أوسع للتعويضات في مرحلة ما بعد الفصل العنصري للحصول على تعويض. وبوجيز العبارة، كان موازنة بين \”المصلحة الوطنية\” المتصورة وبين مطالب الضحايا. والزمن وحده كفيل بأن ينبئنا بما إذا كانت ثمار \”الكشف الكامل\” الناجمة عن عملية العفو، والذي طبقته لجنة العفو التابعة للجنة الحقيقة والمصالحة، والمصالحة التي افتُرض أنه سيحققها، ستلبي احتياجات الضحايا ومطالبهم والالتزامات الدولية المترتبة على البلاد في مجال حقوق الإنسان). وبواقعية شديدة يمكن القول أن الثمرة المهمة التي نالها شعب جنوب أفريقيا كانت ضمان الانتصار على نظام الميز العنصري وتفويت الفرصة على المتطرفين العنصريين لزج المجتمع في حرب أهلية طاحنة أما الضحايا وذووهم فقد لحق بهم إجحاف كبير حيث أن برنامج التعويضات الحكومي كان محدودا جدا وما زال مانديلا وحتى بعد أن خرج من الحكم يجمع بنفسه التبرعات والأموال من المنظمات الإنسانية لتمويل برامج الدعم والتعويض علما بأن مانديلا هو الضحية الأشهر لنظام الميز العنصري حيث قضى خلف القضبان أكثر من ربع قرن وقتل ولده \”تنغ كيلي\” في حادث سيارة غامض ورفض العنصريون السماح له بالخروج من الزنزانة لحضور جنازة ابنه كما ماتت والدته بعد عام واحد من مقتل الابن. أما الحقوق الدستورية الأساسية للضحايا وذويهم فقد لحق بها الإجحاف جزئيا وكان ذلك هو الثمن الذي تنبغي المساهمة فيه من قبل هؤلاء لبناء المستقبل وكان ينبغي أن يكون للجلادين المعفو عنهم حصتهم الأكبر في دفع الثمن الأمر الذي لا يمكن الجزم بوقوعه بكل الدقة والإنصاف المنتظرين بسبب من أن هذه التجربة كانت سابقة تاريخية لا نظير لها في تاريخ الصراعات والحروب والثورات.
الإنكار العنصري ينهار: أما في عهد دولة الفصل العنصري، فقد واجه ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، بمن فيهم ضحايا التعذيب، وأقرباؤهم إنكاراً من المسؤولين على مدى سنوات لحدوث الانتهاكات. وبكل بساطة تم إنكار الأدلة على الممارسة واسعة الانتشار والروتينية للتعذيب وسوء المعاملة والتي جمعها العاملون في مجالي الصحة والقانون ومنظمات مراقبة حقوق الإنسان. وتجاهلت المحاكم معظم أقوال الضحايا الذين قُدِّموا للمحاكمة بعد أشهر من الاعتقال غالباً بمعزل عن العالم الخارجي حول المعاملة التي لقوها على أيدي أفراد الشرطة الأمنية. وفي أفضل الأحوال، قد يحصل الضحايا على تسوية خارج ساحة المحكمة في دعوى مدنية، لكن مع نفي الشرطة لأية مسؤولية. وفي النهاية أتاحت لجنة الحقيقة والمصالحة والجلسات العلنية التي عقدتها بشكل خاص إحدى لجانها الفرعية الثلاث، وهي اللجنة المعنية بانتهاكات حقوق الإنسان، الفرصة للناجين أو أقربائهم لكي يصفوا علناً تجاربهم المؤلمة. وبالمناسبة فهذه الجلسات مسجلة تلفزيونيا وسيكون من المفيد والرائع جدا أن تبادر المنظمات والشخصيات الديموقراطية العراقية وتلك المهتمة بحقوق الإنسان والعدالة إلى محاولة الحصول عليها من الجهات الجنوب أفريقية وترجمتها إلى اللغة العربية وطرحها على الرأي العام بهدف التثقيف والاستلهام والتأسي بهذه التجربة الإنسانية الكبيرة والتي يحتاجها شعبنا العراقي أمس الحاجة. ومن تلك الجلسات التي لا تنسى ولا يستطيع الزمن محوها من ذاكرتي مواجهة عدد من أمهات الضحايا لمن قتل أعزائهن وطلبهن منهم سرد أدق التفاصيل وفي إحدى المرات كانت اعترافات الجلاد قاسية وصريحة مما أدى إلى انفجار البكاء والنشيج وأول من بكى كان القس لطيب ديزموند توتو نفسه ثم ضجت القاعة بالنحيب والنشيج. وأتذكر مثلا شهادة إحدى الأمهات التي طالبت قاتل ولدها بأن يدلها فقط على عظام ولدها ولا تريد منه شيء آخر وشهادة رجل أبيض مسن كان عضوا في الحزب الشيوعي وكيف أن أحد رجال الأمن الحكوميين دخل بيته وقتل زوجته بالرصاص أمامه وبكل برودة دم وغير ذلك من أمثلة مروعة وحزينة لا ريب في أننا سنواجه الآلاف من أمثالها في عراقنا الجريح والذي حوله نظام الطاغية صدام إلى مقبرة جماعية مترامية الأطراف.
شهادات أخرى: عقدت اللجنة المعنية بانتهاكات حقوق الإنسان عدداً من الجلسات العلنية في شتى أنحاء البلاد للتحقيق في مزاعم الضحايا والتوصل إلى نتائج حولها. وأتاحت هذه الجلسات لبعض الناجين أو لأفراد عائلاتهم فرصة لوصف ما حدث لهم وإبلاغ اللجنة بما يأملون أن يحققه عملها بشأن قضيتهم. وعُقدت الجلسات في مراكز حضرية رئيسية وبلدات صغيرة ومناطق ريفية، وحضرها أبناء المجتمعات المحلية. وجرى بث الجلسات، التي غالباً ما كانت مشحونة بالانفعالات والمشاعر العاطفية وتشوبها أحياناً تعقيدات قانونية تُعزى إلى الأحكام الصادرة عن المحاكم والتي تمنع ذكر أسماء الجناة المزعومين من دون إخطارهم مسبقاً جرى بثها على شاشات التلفزيون وعبر أثير الإذاعة على مستوى البلاد ونقلتها وسائل الإعلام المكتوبة على نطاق واسع.
وكان من ضمن الشهادات العديدة التي استُمع إليها، شهادة غلاديس نتسيزاكالو من بلدة نوبورت الواقعة في كارو الشمالية، التي أبلغت اللجنة المعنية بانتهاكات حقوق الإنسان أن ابنها سيفيوو نتسيزاكالو البالغ من العمر 15 عاماً أصيب بمرض عقلي عقب اعتقاله وتعذيبه في الثمانينيات. وقد حُرمت من رؤيته مدة وصلت إلى ثلاثة أشهر. وقالت في شهادتها إنه عندما سُمح لها في النهاية بمقابلته في مركز الشرطة، \”[وجدته] وحيداً في الزنزانة. وكانت كلا يديه وساقيه مكبلة. وعندما نظرت إليه كأم، أدركت أنه أصيب باختلال عقلي. وعندما رآني، أجهش بالبكاء. وأحسست أن ابني قد تغير. ولما سألته، قال لي إنهم ظلوا يعتدون عليه بالضرب … ولهذا السبب أصبح مختلاً عقلياً. وكانوا يأخذون كيساً – كيساً مبللاً – ثم يغطونه به. ويضعونه في صندوق [سيارة]، ويقتادونه إلى مكان لا يعرفه، ثم … ينهالون عليه بالضرب … والآن لا يستطيع أن يفعل أي شيء بمفرده\”.
وخلال فترة الثمانية عشر شهراً التي عُقدت خلالها هذه الجلسات العلنية، روى مئات الشهود حكايات تفطر القلب حول التعذيب وسوء المعاملة اللذين مارستهما الشرطة والموظفون الآخرون في دولة التفرقة العنصرية. وكانت هناك بعض الروايات أيضاً حول التعذيب وسوء المعاملة اللذين مارستها التنظيمات المعارضة، بمن فيها المؤتمر الوطني الأفريقي، في المنفى في المعسكرات التي كان تسيطر عليها خارج جنوب أفريقيا. ورأت لجنة الحقيقة والمصالحة أن هذه الجلسات حيوية لتحقيق أحد أهدافها القانونية – \”إعادة الكرامة الإنسانية والمدنية لهؤلاء الضحايا بمنحهم فرصة لرواية حكاياتهم حول الانتهاكات التي كانوا ضحاياها\” كذلك ذكرت \”أنهم أماطوا اللثام عن مدى الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وجعلوا من المستحيل على أبناء جنوب أفريقيا أن ينكروا من جديد حدوث هذه الانتهاكات فعلاً\”.
العفو مقابل الحقيقة: وفي مجتمع منقسم على نفسه بشدة وتجاهل فيه العديد من المستفيدين من نظام الفصل العنصري الانتهاكات واسعة النطاق والمنهجية لحقوق الإنسان، كانت الشهادات التي أدلى بها الجناة والتي تقشعر لها الأبدان هي التي خرقت جدار الإنكار. وخلصت اللجنة إلى أنه: \”لدى مراجعة جهودها التي استهدفت كشف النقاب عن الحقيقة الأعمق التي تقف وراء الانتهاكات التي ارتُكبت في عهد الفصل العنصري، تقر بصراحة بأن جزءاً كبيراً من نجاحها يُعزى إلى حقيقة أن أعداداً كبيرة من أعضاء قوات الأمن اغتنموا إمكانية حصولهم على العفو مقابل كشف الحقيقة كاملة\”. كما أنها أقرت بأن ما دفع هؤلاء الموظفين الأمنيين إلى الكلام كان مقدار المعلومات التي كشفها أحدهم وهو يوجين دي كوك\” الذي خالف ميثاق الصمت\” وكان هذا الرئيس السابق لوحدة سرية تابعة للشرطة مقرها في فلاكبلاس يُحاكم في محكمة بريتوريا العليا بتهم متعددة بالقتل وجرائم أخرى. وقد قرر الاستفادة من أحكام قانون العام 1995، فقدم طلباً للعفو من سجن سي – ماكس ذي الإجراءات الأمنية القصوى في بريتوريا حيث كان يقضي عدة أحكام بالسجن المؤبد. وهددت الجلسات المتعلقة بطلبه الطويل بفضح دور الآخرين في الجرائم التي ارتكبها. وكان الخوف من احتمال مقاضاتهم أحد الأسباب التي حدت بأعضاء آخرين في الشرطة الأمنية إلى تقديم طلبات للحصول على العفو. ولم يشعر الجناة من قطاعات أخرى، مثل الجيش، بأنهم مهددون على نحو مماثل، فلم يتقدموا بطلبات للحصول على العفو، وكان غيابهم واضحاً.
في الجزء التالي / الرابع من هذه المقالة سنستكمل قراءتنا في هذه التجربة المهمة فإلى اللقاء
* كاتب عراقي