بمناسبة اليوم العالمي للديمقراطية الذي يصادف غداً في الخامس عشر من أيلول سبتمبر، يصف مراقب للشأن السياسي النظام الديمقراطي في العراق بـ”الأعرج” على الرغم من مرور نحو عشرين عاماً على اعتماده نظاما للحكم، مشيرا إلى أن المحاصصة التي اعتمدها السياسيون لا تجتمع مع الديمقراطية التي لم يبق منها إلا مظهر الانتخابات، فيما رأى باحث استراتيجي أن الأحزاب الإسلامية لا تؤمن بالديمقراطية فهي تعتمد “الولاية” بدل الدولة، مؤكدا أنها أسست لنظام مواز للديمقراطية يرضخ للمحاصصة الطائفية واحتكار السلطة.
ويسرد المحلل السياسي المقيم في واشنطن نزار حيدر، نبذة عن مراحل الديمقراطية في العراق، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، قائلاً إن “العراق مرّ بتجربتين في الديمقراطية منذ تأسيس الدولة عام 1920 حتى الآن؛ الأولى التي أعقبت الاحتلال البريطاني عام 1917 بعدما أقام البريطانيون نظاماً سياسياً ديمقراطياً ظل يراوح مكانه، حتى عام 1958 عندما سقطت الديمقراطية ومظاهرها وكل مؤسسات الدولة بالانقلاب العسكري في 14 تموز يوليو من ذلك العام”.
وانقلاب 14 تموز 1958 ويُعرف أيضا بثورة 14 تموز، وهو الانقلاب الذي أطاح بالمملكة العراقية الهاشمية التي أسسها الملك فيصل الأول تحت الرعاية البريطانية، وقتل على إثره جميع أفراد العائلة المالكة العراقية وعلى رأسهم الملك فيصل الثاني صاحب الـ23 سنة وولي العهد عبد الإله ورئيس الوزراء نوري سعيد.
وقام الانقلاب بقيادة عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وباقي تشكيلة الضباط الأحرار وتم على إثره تأسيس الجمهورية العراقية، وبقي العراق دولة اشتراكية ذات حزب واحد بحكم الأمر الواقع من عام 1958 إلى 2003.
ويضيف حيدر أن “التجربة الثانية حدثت بعد الغزو الأمريكي عام 2003 فقد أقام الأمريكان نظاما سياسيا ديمقراطياً مازال يراوح مكانه أيضاً ويسير بطريقة عرجاء”، لافتا إلى أنه “في المرة الأولى سُلّمت السلطة بيد سنة العراق مع مشاركة ضعيفة من قبل بقية المكونات، أما في المرة الثانية فقد انتزع الأمريكان السلطة من السنة وسلموها للشيعة مع مشاركة واسعة من قبل بقية المكونات”.
ويرى المحلل السياسي أن “السبب المباشر لعدم تطور الديمقراطية في الحالتين يعود إلى العراقيين أنفسهم بالإضافة إلى أسباب إقليمية ودولية عديدة، فقد كان عليهم أن يوظفوا ديمقراطية المحتل إلى ديمقراطية الشعب لينعتق النظام السياسي برمته من تأثيرات الغزو والاحتلال المباشرة وغير المباشرة”.
ويشير حيدر إلى أن “الديمقراطية لها جوهر ومظهر، والمظاهر هي صندوق الاقتراع والناخب وحرية التعبير وحرية الإعلام والصحافة والدستور وغير ذلك، أما الجوهر فهو برأيي أربعة؛ تداول السلطة، المسؤُولية، التَّمييز بين الناجح والفاشل بالمعايير وليس بالولاءات، وحاكمية القانون الذي يكون فوق الجميع”.
ويتحدّث حيدر عن أن “الديمقراطية لم تحقق مبدأ تداول السلطة، فمنذ التغيير وحتى الآن، فإن القوى السياسية التي استلمت السلطة من الأمريكان بعد سقوط النظام السابق هي نفسها من تمسك بها الآن من دون أي تداول، وهذه الظاهرة ألغت مبدأ الأغلبية الحاكمة والأقلية المعارضة، وهو المبدأ الذي يعتمد عليه مبدا تداول السلطة”.
وبسبب غياب هذا المبدأ، يشير إلى أن “المسؤُوليَّة في الدولة ضاعت، ولذلك نلاحظ أن العراق مرَّ بأزمات ومشاكل أريقت بها دماء وانتهكت أعراض وسقطت محافظات ولكن لم نسمع أن أحداً، زعيماً كان أم حزباً، تحمّل المسؤولية فوقف خلف القضبان يواجه العدالة والقضاء”.
ويكمل أن “المحاصصة والديمقراطية على طرفي نقيض لا يمكن أن يجتمعا، لكن المحاصصة التي بدأ العمل بها بعد 2003 والتي أرادوها كمرحلة فقط لحين إنجاز التحول بين عهدين استمرت إلى الآن كبديل عن الديمقراطية، ولذلك تم إلغاء جوهر الديمقراطية وبقيت مظاهرها صارخة”، مشيرا إلى أن “صندوق الاقتراع اليوم تحوّل إلى ملهاة لا معنى له، وأن نتائج الانتخابات لم تعد تحدد هوية الفائز والخاسر، ولقد رأينا في الانتخابات الأخيرة كيف أزيح الفائز ليعود الخاسر الأول يمسك بالسلطة مرة أخرى”.
وجرت في 30 كانون الثاني يناير 2005، أول انتخابات تشريعية في البلاد، انتخب خلالها الشعب العراقي أعضاء “الجمعية الوطنية الانتقالية” كما سميت في ذلك الوقت، بعضوية 275 نائبا.
وفي تلك الانتخابات كان العدد الكلي للناخبين 14 مليونا و200 ألف ناخب من مجموع سكان العراق، الذي قدر في وقتها بنحو 27 مليون مواطن، حيث شهدت نسبة مشاركة تصل إلى 76 بالمائة، وهي أعلى نسبة مشاركة في تاريخ الانتخابات التي تم تسجيلها في العراق، حتى الآن.
وقد أفرز برلمان 2005، اختيار جلال طالباني لرئاسة الجمهورية، وغازي عجيل الياور وعادل عبد المهدي نائبين له، بالإضافة إلى انتخاب إبراهيم الجعفري رئيسا للوزراء، حيث سميت بالحكومة الانتقالية، فيما شهدت تلك الانتخابات مقاطعة ممثلي المكون السني في ثلاث محافظات: نينوى وصلاح الدين والأنبار، قبل أن يصبح منصب رئيس البرلمان من حصتهم في الدورات اللاحقة.
يشار إلى أن حاجم الحسني، تسنم منصب رئيس البرلمان بصفته أول شخصية سنية في أيار مايو 2005، ليبدأ عرف سياسي جديد يقوم على تقسيم الرئاسات الثلاث حسب المكونات.
من جانبه، يرى مدير المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية غازي فيصل، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “الديمقراطية كمفهوم؛ تنقسم إلى ديمقراطية اقتصادية تتعلق باقتصاد السوق المفتوح، وديمقراطية سياسية مبنية على أساس دولة المؤسسات والقانون والمواطنة والفصل بين السلطات وضمان الحريات العامة وحرية التعبير عن الرأي وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل وغيرها، وأخرى اجتماعية تتعلق باحترام التنوع الثقافي والتنوع الديني والقومي والعرقي والمذهبي وغيرها من أشكال التنوع في المجتمع”.
ويضيف فيصل أن “الديمقراطية ثقافة نحو بناء دولة المؤسسات، نشأت وتطورت عبر مفكري الدول الأوربية في عصر النهضة لمواجهة النظام الثيوقراطي للكنيسة الكاثوليكية”.
وفي العراق، يستدرك الباحث في الشأن السياسي أن “هذه الديمقراطية لا تؤمن بها الأحزاب الإسلامية سواء الشيعية أو السنية لأن الأحزاب تعتقد بولاية ولا تؤمن بالدولة، كما في ولاية الفقيه في إيران أو ولاية طالبان في أفغانستان وولاية الخلافة الإسلامية لداعش وغيرها”.
ويكمل أن “الدستور في العراق اليوم دستور ديمقراطي يؤسس لدولة ليبرالية تعددية، لكن مع هذا فالأحزاب أسست لنظام مواز يتقاطع مع الدستور أو يتباين معه، وهو نظام المحاصصة الطائفية واحتكار السلطة وعدم الذهاب للتداول السلمي الذي يشكل قاعدة أساسية”.
وفي المجال الاقتصادي، يتحدث عن “عدم الذهاب لاقتصاد السوق المفتوح الوارد في الدستور، وعدم الانفتاح على الاستثمارات، وهذا النموذج الاقتصادي أهمل خلال الـ20 عاما الماضية، لكن لتحقيق هذه الأهداف يحتاج العراق إلى وقت آخر من أجل إعادة هيكلة الاقتصاد والمصارف والنظام المالي ومواجهة الفساد وشبكات الجريمة المنظمة”.
ويتابع فيصل أن “الديمقراطية وحقوق الإنسان وضمان الحريات والتوزيع العادل للثروة هي قيم كبرى، لكن للأسف أنها في العراق والبلدان العربية كما في ليبيا ولبنان واليمن وغيرها غير معتمدة، إنما على العكس من ذلك تذهب هذه الدول إلى تكفير هذا النموذج، وبالتالي تخسر المجتمعات فرصا حقيقية لتحقيق التنمية والتقدم”.
وقد شهدت الانتخابات النيابية اللاحقة للعام 2005، تراجعا كبيرا بنسب المشاركة، حيث وصلت النسبة في انتخابات العام 2010، إلى 62.8 بالمائة، من أصل 18 مليونا و600 ألف ناخب، وفي العام 2014 تراجعت النسبة إلى 60 بالمائة من بين 20 مليونا و432 ألف ناخب، في حين تدنت النسبة في العام 2018 إلى 44 بالمائة، من بين 24 مليونا و352 ألف ناخب، وفي 2021 بلغت نسبة المشاركة 41 بالمائة، كأدنى نسبة مشاركة مسجلة رسمية حتى الآن.
ومنذ أول انتخابات جرت، ثبتت الكتل السياسية أقدامها في السلطة وأنتجت شخصيات لم تتغير حتى الآن، فضلا عن دخولها بصراعات مستمرة، وخاصة منصب رئيس الحكومة الذي هو من حصة الكتل الشيعية.
وكان العام 2010، من أبرز الأعوام التي شهدت جدلا حول تشكيل الحكومة، قبل أن يتكرر السيناريو ذاته في العام الماضي، حيث فازت في العام 2010 كتلة أياد علاوي بـ91 مقعدا فيما فازت كتلة نوري المالكي بـ89 مقعدا، وفي حينها أصدرت المحكمة الاتحادية قرارها الشهير، بأن الكتلة الأكبر ليست الفائزة بالانتخابات، بل إنها من تتشكل داخل مجلس النواب في أول جلسة، وذهبت الحكومة لصالح المالكي الذي شكل الكتلة الأكبر بعد تحالفه مع خصومه من الكتل الشيعية الأخرى، ومن ضمنها التيار الصدري.
والعام الماضي، تجدّد الصراع ذاته بين التيار الصدري الذي حصل على 73 مقعدا نيابيا، بمقابل نحو 50 مقعداً للإطار التنسيقي المكون من تحالف الفتح بزعامة هادي العامري وائتلاف دولة القانون برئاسة نوري المالكي، قبل أن تنضم لهم قوى أخرى ومستقلين، ونشب الصراع حول الكتلة الأكبر، وانتهى بانسحاب التيار الصدري من البرلمان، وشكلت الحكومة من قبل الإطار بعد أكثر من عام على الانتخابات التي جرت في تشرين الأول أكتوبر 2021.