بعد عشرين عاما على التغيير في 2003 مازال العراق يبحث عن فرصة سلام لتحقيق التنمية والتقدم، لكن مفهوم السلام صار “حلما” بسبب النزاعات المتتالية التي شهدتها البلاد لتقوض أي فرصة للاستقرار والتعايش، ويجمل المراقبون أسبابا عديدة لعدم تحقيق سلام دائم منها صراعات الطبقة السياسية والتدخلات الخارجية وانتشار السلاح وعدم قبول الآخر.
وتقول رئيسة منظمة الأمل والناشطة البارزة هناء إدور، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إن “العراق أمضى عشرين سنة على التغيير في 2003 ولم يشهد حالة سلام أو لنسمِّها حالة استقرار على الأقل، إذ غالبا ما تعترض عملية صناعة الاستقرار تعثرات ونزاعات، بدأت منذ 2005 واستمرت حتى 2010 ثم دخول داعش في 2014 لتبقى هذه النزاعات مستمرة حتى اليوم”.
وتضيف إدور أن “البلاد لم تمنح فرصة التنفس للبدء ببناء عملية سلام رغم تكريس الكثير من الجهود من قبل المجتمع المدني في عملية بناء الاستقرار والسلام، لأن الأمر في النهاية يقع على عاتق إدارة النظام السياسي التي ساهمت في خلق النزاعات التي استمرت وولدت نزاعات جديدة”، لافتة إلى أن “النظام السياسي في العراق قائم على المحاصصة والتنافس بين قوى تسعى إلى إزاحة بعضها وزعزعة الوضع بسبب التنافس وعدم الانسجام”.
وتتابع أن “السلام أصبح مطلباً ننظر إليه كحلم أكثر منها نظرة واقعية، فعلى الواقع العملي ما زلنا مجزئين إلى مناطق وكل منطقة تعيش حالة من عدم الاستقرار، بوجود آلاف النازحين، ونزاعات قديمة وجديدة آخرها في كركوك التي كادت تفجر الأوضاع، وكذلك النزاع بين الإقليم والحكومة الاتحادية، إضافة إلى النزاعات العشائرية والمناطقية التي أكلت الكثير من عملية الاستقرار وأسالت مزيدا من الدم، وهذا يأتي بالتزامن مع ضعف أجهزة نفاذ القانون”.
ولم تنس الناشطة النسوية “دور التدخلات الخارجية من دول الجوار وغيرها الذي ساهم في عدم استقرار الأوضاع في العراق، وتمثل هذا الدور غالبا بتدخل تركيا وإيران، كلا من جهة، بالشأن العراقي من دون أي رد حكومي أو محاولة لبناء علاقات قائمة على احترام سيادة البلاد وشؤونها الداخلية، إذ أصبح العراق يشبه الدولة العثمانية حين أطلقوا عليها لقب الرجل المريض”.
وعن مفهوم السلام على صعيد الفرد والمجتمع، توضح أن “السلام يبدأ من البيت، لكن حتى هذا السلام المنزلي هش تماما بسبب الضغوطات الاجتماعية والاقتصادية، والعنف الذي يزداد إذ أصبح استخدام السلاح داخل البيت طبيعيا، وهو ما يمكن تسميته الإرهاب العائلي الذي غالبا يطول النساء والأطفال”.
ويحتفل العالم سنويا باليوم الدولي للسلام في 21 أيلول سبتمبر الذي يصادف غدا، إذ أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا التأريخ ليكون يوما موقوفا لتعزيز مُثُل السلام، بالاحتفال لمدة 24 ساعة من اللاعنف ووقف إطلاق النار.
وينتظر العراق، إحلال الأمن والاستقرار، بعد سنوات طويلة من حروب وصراعات داخلية وخارجية أنهت آمال أجيال كاملة بالحصول على حياة آمنة ومستقرة، فبعد 30 عاما من الحروب والأزمات عاشها العراقيون في عهد النظام السابق، ازدادت الأوضاع سوءا في ظل النظام السياسي الجديد إذ عاش العراقيون عشرين عاما أخرى من المحن منذ 2003 تمثلت بنزاعات طائفية وقومية وحرب ضد الإرهاب.
من جهته، يعتقد المحلل السياسي فلاح المشعل، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “العملية السياسية في العراق فشلت في تحقيق سلام اجتماعي مستقر، والسبب يعود لجملة عوامل، أبرزها صراع الأحزاب والميليشيات بهدف الوصول للسلطة أو فرض إرادتها على الآخر المختلف سياسيا أو طائفيا أو قوميا ولعل ما حدث في كركوك يدخل ضمن هذا التصور، وكذلك في سيادة روح التغالب عند بعض الأحزاب والجهات التي تتمتع بأغلبية شعبية أو برلمانية”.
وبشأن الغياب الطويل للسلام في العراق، يضيف المشعل: “يمكن أن نرجع السبب في غياب السلام السياسي والاجتماعي الدائم إلى انعدام التقاليد الثقافية في احترام الرأي الآخر المختلف وهذا شيء مهم يمكن أن يؤسس لثقافة سلام دائمية”.
ويتحدث المشعل أيضا عن الدور الذي يؤديه “وجود السلاح خارج إرادة الدولة وانتشاره وانفلاته على نحو غير مسبوق مع ضعف وتراجع الرقابة، وهو ما جعل مناخات العنف تنتشر، ويصبح السلام في مهب الريح إزاء أي حدث أو أزمة تمر بها البلاد”.
وشهد العراق حالة من الاستقرار النسبي في حقبة رئيس الحكومة الحالي محمد شياع السوداني، لكن هذا الاستقرار تفجر في كركوك مطلع الشهر الحالي بعد مقتل عدد من الكرد في صدام بين جماهير الحزب الديمقراطي من جهة والتركمان والعرب من جهة أخرى إثر خلاف على عودة الحزب الديمقراطي إلى المدينة التي غادرها منذ 2017.
إلى ذلك يفيد المحلل السياسي ماهر جودة، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “السلام ثقافة تنشدها جميع دول العالم منذ بداية التاريخ حتى الآن وهذا معروف، لكن أفعال السياسة غالبا ما تدمر كل شيء من أجل مكاسب شخصية وسياسية ضيقة”.
ويضيف جودة أن “سياسيي العراق بعد 2003 ساهموا في خلق نزاعات حتى من خلال شعاراتهم إذ اتكؤوا في البداية على استخدام المظلومية والمقابر الجماعية لأجل الانتقام، حتى أدخلوا البلاد في نفق مظلم ومشكلات عديدة، وفيهم من فتح الحدود للقاعدة وداعش وأنهى أي فرصة للسلام والاستقرار”.
ويرى المحلل السياسي أن “الحل يكمن فقط في وحدة العراقيين في ظل خطاب ووطني ونبذ التفرقة والعنصرية والطائفية والتعامل مع الشركاء في الوطن بالهوية الوطنية، ووفق القول المأثور عن الإمام علي: الناس صنفان، إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”.
ووفقا لمؤشر السلام العالمي لعام 2023 الذي نشره معهد الاقتصاد والسلام في حزيران يونيو الماضي، تدهور متوسط مستوى السلام في الدول بمقدار 0.42 بالمئة لهذا العام، لتكون هذه السنة التاسعة على التوالي الذي يتدهور به مستوى السلام العالمي، وجاءت أيسلندا كأكثر دول العالم سلما، وهو منصب شغلته منذ عام 2008، لتنضم إليها في قمة المؤشر الدنمارك، وأيرلندا، ونيوزيلندا، والنمسا.
وعلى الصعيد العربي، لا تزال قطر الدولة الأعلى في مستوى السلام في المنطقة، وهو موقع شغلته منذ عام 2008. وهي الدولة الوحيدة في المنطقة التي صنفت ضمن الدول الـ 25 الأولى ضمن المؤشر على مستوى العالم. وفي المقابل، صنفت اليمن كالدولة الأقل بمستوى السلام في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا للعام الثالث على التوالي، ليصنف اليمن أيضا كثاني دولة في فئة الأقل سلاما على مستوى العالم، بينما حل العراق بالمرتبة 17 عربيا و154 عالمياً.