طيلة النصف الثاني من القرن العشرين لم تنتج تجارب فلمية توثيقية كثيرة عن الاهوار وخصوصا على الصعيد العراقي، ولا يتعدى جميع ما انتج أصابع اليد الواحدة، الا أن أبرز تلك التجارب على الاطلاق هو فلم “الاهوار” للمخرج السينمائي العراقي قاسم حول العام 1976.
كان العمل مميزا لان الاعداد له كان جيدا ومتأنيا، فقد قام المخرج وفريقه بجولات عديدة في الاهوار الوسطى من اجل اختيار الاماكن والمناطق المناسبة للتصوير، واستعان بكوادر اجنبية من اجل ظهور العمل بشكل مقبول، على الرغم من ان المخرج حول طلب امكانيات اكبر في التصوير رفضتها السلطات آنذاك مثل توفير طائرة مروحية تمكنه من التقاط صور بأفق اكثر اتساعا وجمالا.
“العالم الجديد” التقت المخرج العراقي الكبير قاسم حول للحديث عن بدايات الفكرة، حيث يقول إن “بدايات الفكرة تعود الى قصة عودتي الى العراق بعد ان تركته العام 1970 إثر المتغيرات السياسية التي حصلت آنذاك”.
ويوضح حول “في العام 1975 طلبت السلطة من وزارة الثقافة استقطاب الكوادر العراقية، ففتحوا نافذة للحوار معي من اجل العودة وبضمانات فلسطينية، ومن باب التشجيع عرضوا عليّ ميزانية لانتاج فلم من اخراجي، فاخترت “موضوع الاهوار”.
ويضيف “ما ان تمت الموافقة حتى باشرت بالإعداد للمشروع، وكانت الخطوة الاولى بالنسبة لي هي القيام بعدة زيارات الى مناطق الاهوار الوسطى، وكان بصحبتي كل من مساعد المخرج ومدير الانتاج، لكي أرى الاهوار عن قرب، ومتابعة امكنة التصوير وتهيئة ما يلزم للإنتاج”.
ويتابع المخرج المخضرم “التقطت مئات الصور الفتوغرافية قبل العمل، فضلا عن عشرات الصور الفتوغرافية التي التقطت اثناء العمل خلف الكواليس، بغض النظر عن المشروع”. الأمر الذي جعل هذا الكم الهائل من الصور قيمة تاريخية فريدة ترصد وتوثق حياة الأهوار، ربما لا تضاهيها الا محاولات رائدة للرحالة البريطاني ولفريد ثيسيغر او كافن يونغ واخرين قلائل.
ويردف قاسم حول “تم اختيار الامكنة المقترحة وما يتطلبه المكان من مستلزمات تصوير وعمل، ضم فريق العمل مجموعة من المختصين منهم على سبيل المثال: حسين امين مساعد مخرج، ومدير الإنتاج مهدي صالح، المصور الاول رفعت عبد الحميد وهو ذات المصور الذي وثّق احداث قاعة الخلد الشهيرة، والمصور الثاني سلمان مزعل، اما مساعد مصور سعدون علي، مسجل الصوت محمود مجيد، وللاضاءة فاروق صلال، حمودي مهدي، والمونتير شيراك خوجيان، ومساعد المونتير احمد بكر، وموسيقى عبد الامير الصراف ورسام اللوحات داخل الفلم حسن عبد علوان”.
وحول مصاعب المشروع، يشير المخرج حول الى أنه “حين أردت تصوير لقطة استعراضية للأهوار في وقت الفجر، طالبت بمروحية، الا أن الطلب تم رفضه، وكان البديل هو استخدام سطح فندق عائم في قرية (الصحين)”، لافتا الى أنه “قبل التصوير تفاجأت بصور لأحمد حسن البكر رئيس الجمهورية، وصدام حسين نائب الرئيس (انذاك)، وقد وضعت توا على ظهور بيوت القصب، وهي تحاصر الكاميرا من جميع الجهات، فما كان مني إلا ان رفضت التصوير”.
ويضيف “إثر ذلك تم استدعاء الفريق بأكمله الى بغداد من اجل التحقيق، وكادت التجربة ان تلغى بالكامل، وربما ينتهي مصيرنا جميعا الى ما لايحمد عقباه، لولا تدخل مدير السينما والمسرح ياسين البكري الذي اقترح عليّ حلا شكليا، وهو ان طلبي بازالة الصور كان من اجل تصوير مشهد يعود الى ما قبل الثورة (سيطرة حزب البعث 1968)، وهكذا تجاوزنا الموقف”
ويقول المخرج حول في حديثه لـ”العالم الجديد” أنه “تم تصوير نحو تسع ساعات سينمائية اخترت منها ساعتين، لكن القدر الذي حاصر الاهوار وجغرافيتها وجعلها ضحية لطيش الحكام وعبث السياسية، عبث ايضا بذلك المشروع، إذ أن من المؤسف إتلاف النسخ الاصلية التي كانت بحوزة الدولة عقب تجفيف الاهوار (تسعينيات القرن الماضي)”. ويلفت الى أن “النسخة التي احتفظ بها في بيروت، صادرتها القوات الإسرائيلية التي اجتاحت لبنان العام 1982 من شقتي، ولا يوجد بين يدي حاليا سوى نسخة غير مكتملة استطعت الحصول عليها من شخص استحوذ على نسخة شبه تالفة من ارشيف السينما والمسرح، وفاوضته على شرائها، الا انه تبين أن التالف منها يصل الى 70 بالمائة، وأن الصالح للعرض منها لا يتجاوز الـ43 دقيقة”.