مرة أخرى يتحفنا مجلس النواب بقانون جديد يؤكد من خلاله غياب الرؤية الاستراتيجية لتشريع القوانين، قانون يهدف إلى حماية الأطباء من الملاحقة العشائرية!! غير انه صيغ على نحو لا ينسجم مع الهدف الرئيس المعلن في الأسباب الموجبة.
مشروع القانون الذي أقره المجلس الأسبوع الماضي، يحاكي إلى حد بعيد نظيره السابق قانون حقوق الصحفيين، ومن خلاله يصر أعضاء مجلس النواب مجددا على تكريس رؤيتهم القاصرة في معالجة معضلات المجتمع وإعداد منظومة تشريعية تكون أساسا لمشروع بناء الدولة. فهم يعتقدون بأن الواجب حماية فئات المجتمع بقوانين مستقلة لكل منها، مستندين إلى أسباب موجبة اقل ما توصف بالسطحية.
لجنة الصحة النيابية التي قدمت المشروع تقول إن العراق يعاني الهجرة المتنامية للأطباء التي بلغت حدودا تبعث على القلق، كما تعتقد رئيسة اللجنة بسذاجة سياسية واضحة أن الأسباب التي تقف وراء هجرة الأطباء هي الملاحقة العشائرية التي يتعرضون لها إذا ما أخطأوا في تداخل جراحي أو سلوك طبي معين! وعلى الرغم من هذا التشخيص البريء، فمشروع القانون يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك فهو لا يكتفي بخرق دستور جمهورية العراق لسنة 2005 من خلال تمييز فئة دون أخرى، بل يخرق حتى التشريعات والقوانين النافذة كقانون أصول المحاكمات الجزائية، حيث تحظر المادة الخامسة من مشروع القانون إحالة الطبيب إلى القضاء إلا بعد استحصال موافقة وزير الصحة وكأنها بذلك تعيد المادة 136 ب من قانون أصول المحاكمات الجزائية إلى التشريع بعد أقل من عام على إلغائها استنادا إلى قانون قدمته لجنة النزاهة واعتبره مجلس النواب حينها \”انجازا عظيما\”، كما يلزم نص القانون المراد تشريعه الدولة بتسليح الأطباء!! ومنحهم إجازة لحمل السلاح، تخيلوا طبيبا مسلحا يتدرب على إطلاق الرصاص وربما حتى على حرب الشوارع مستقبلا، وكأن مجلس النواب يريد أن يعترف ضمنا بأن لا حل للخروقات الأمنية والاستهداف المباشر لفئات المجتمع من المدنيين والعسكريين الى ما لا نهاية.
إذا كان قصد المشرع لهذا القانون توفير الحماية للأطباء ومنع المطالبات العشائرية التي تلاحقهم، كما ورد في الأسباب الموجبة للمشروع، فمن الممكن تشريع قانون انتقالي مؤقت تحدد فترة نفاده بخمس أو عشر سنوات (إلى حين أن تتمكن الدولة من السيطرة على نفوذ العشائر والقبائل) يمنع المطالبات العشائرية للأطباء والقضاة وعناصر أجهزة الأمن وينظم العقوبة الضامنة لتنفيذ القانون على نحو يحمي الفئات المعرضة للملاحقة العشائرية، وإذا كان المجلس الموقر يريد حماية الأطباء من الظلم الذي قد يلحق بهم جراء الجهل بطبيعة عملهم على اعتبار أن إثبات الخطأ يحتاج تقريرا علميا يقدمه أطباء مختصون، فهو بذلك إما أن يطعن بنزاهة القضاء أو يعلن عدم فهمه أصول سير المحاكمات القضائية، إذ من المعروف أن قاضي التحقيق لا يصدر مذكرة إلقاء القبض إلا بعد توافر الأدلة، ومن البديهي ان الدليل في مثل تلك الحالات هو تقرير طبي من لجنة طبية مختصة، ثم إن قاضي التحقيق سيحيل القضية إلى المحاكم المختصة التي ستنظر بروية في طعون النفي وأدلة الإثبات.
مجلس النواب ومن خلال سلوكه التشريعي الذي اعتاد إتباعه خلال الدورة الانتخابية الحالية يهدد مشروع بناء دولة القانون، فهو يغادر إلى حد بعيد أساسيات التشريع القانوني الذي يهدف عادة إلى التنظيم، ويصر على إعداد قوانين تمتاز بالسطحية وتفتقر إلى رؤية استراتيجية منظمة، كما كرس المجلس جهده خلال الدورة الحالية لإعداد قوانين ذات أبعاد سياسية تارة وقوانين تمتاز بالسطحية وعدم التنظيم ومخالفة لروح الدستور والقوانين النافذة تارة أخرى.
مجلس النواب يثقل كاهل الدولة العراقية من خلال سلوكه التشريعي هذا ويزيد من التعقيد التشريعي المقيد لبناء الدولة، فالعراق بحاجة إلى إلغاء مئات القرارات والقوانين الصادرة من مجلس قيادة الثورة المنحل ومن ثم المضي نحو تشريع منظومة من القوانين التي تسهم في بناء الدولة استنادا لرؤية تشريعية عصرية تشارك في تكريس اللامركزية الإدارية وتحجم البيروقراطية الإدارية، كما هو بحاجة إلى ثورة تشريعية لتعديل قوانين رئيسة كقانون العقوبات النافذ وقانون أصول المحاكمات الجزائية وغيرها الكثير، أما حماية فئات المجتمع فتكمن بتطوير أداء الأجهزة الأمنية والاستخبارية وإبعادها عن الصراع السياسي والتعجيل ببناء الدولة وإعادة الهيبة لها مجددا، واستنادا إلى ما يقوم به مجلس النواب حاليا، فمن الممكن القول إن دولة القانون في العراق لا تقوم قبل انقضاء القرن الأول من الألفية الثالثة، بعون الله!