تنامي الدور الروسي في الملفات الدولية والإقليمية، لاسيما الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط، مقابل تراجع الدور الأميركي، ونشوء توافق دولي يعكس نسق ميزان علاقات جديد بين الدول الكبرى، موضوع فحص لدى السياسيين والخبراء والمحللين الإسرائيليين، والعين على مستقبل الصراع في الشرق الأوسط، وإمكانية تدخل مختلف للمجتمع الدولي في البحث عن تسوية سياسية له.
انزعاج إسرائيل من اتفاق مجموعة \”الستة\” الدولية وإيران، في جنيف، يتعدى الاعتراض على طريقة معالجة الملف النووي الإيراني إلى الخشية من فرض سيناريو لتسوية سياسية في الشرق الأوسط، يمكن أن تتوافق عليه الدول الكبرى، وتكسر شروط إسرائيلية أساسية.
القادة السياسيون والحزبيون والخبراء والمحللون الإسرائيليون تخطوا صدمة مضمون اتفاق جنيف، وراحوا يبحثون في قضايا أعمق تنطلق من اعتبار أن الاتفاق نتيجة لنسق جديد في ميزان العلاقات الدولية، تقدم فيه ثقل روسيا عالمياً وفي الملفات الإقليمية الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط، بينما يتراجع الثقل الأميركي باطراد، وتحاول دول الاتحاد الأوروبي أن توازن دورها بين روسيا الصاعدة وإلى جانبها الصين وبين الولايات المتحدة الأميركية، مع خارطة متحركة من موازين القوى والتحالفات والتفاهمات الإقليمية والدولية، تسعى إسرائيل إلى استيعابها بتوسيع شبكة تحالفاتها لتعويض التراجع الأميركي.
المحلل السياسي شالوم يوروشالمي كتب مقالة في صحيفة (معاريف) تحت عنوان \”كيف سينعكس الاتفاق مع إيران على المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية، 26/11- ترجمة مؤسسة الدراسات الفلسطينية، قال فيها: \”السؤال المطروح الآن ما هي انعكاسات ما حدث -في جنيف- على المفاوضات المتعثرة التي تجريها إسرائيل مع الفلسطينيين؟\”.
ووفقاً لمصادر من داخل المطبخ السياسي الإسرائيلي يؤكد يورشالمي \”ثمة فرضيتان داخل الحكومة الإسرائيلية في هذا الشأن: الفرضية الأولى الأكثر شيوعاً هي أن الأميركيين، الذين وجهوا إلينا ضربة من خلال الاتفاق مع إيران، لن يوجهوا ضربة أخرى لنا فيما يتعلق بالفلسطينيين، فهناك حدود، واستناداً إلى وزير بارز لا أحد يرغب في خلق أزمة إستراتيجية إلى هذا الحد، ووفقاً لهذه الفرضية فإن وزير الخارجية الأميركي جون كيري، الذي كان ضمن من هاجمهم نتنياهو، سينتهج هذه المرة نهجاً تصالحياً أكثر مع إسرائيل. أما الفرضية الثانية فهي ترى أن التطورات مع إيران لن تخفف من حماسة كيري، من أجل تحقيق اتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين، حتى لو وصفوه في إسرائيل بأنه وسيط غير منصف..\”.
تسيفي ميغن، الباحث في معهد دراسات الأمن القومي -الإسرائيلي، نشر مقالة تحت عنوان \”هل نحن أمام نظام إقليمي جديد\”، (مباط عال) العدد 490- 27/11/2013- ترجمة مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بين فيها المخاوف الإسرائيلية على ضوء الفرضيتين السابقتين، إنما في إطار أوسع، تناول تعاظم الثقل الروسي في الملفات الدولية والإقليمية الشرق أوسطية، والعلاقات الروسية- الإسرائيلية تبعاً لذلك.
يقول ميغن: \”في الفترة الأخيرة، قام رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بزيارة إلى روسيا التقى خلالها الرئيس بوتين.. أتت الزيارة على خلفية التطورات في الشرق الأوسط، لاسيما تلك المتعلقة بسوريا وإيران، وبرزت في إطارها مساعي روسيا للتقرب من بعض دول المنطقة كانت علاقات موسكو متوترة معها في الفترة الأخيرة، ومن بين هذه الدول السعودية ومصر والعراق والأردن وإسرائيل. ولا يشكل هذا التوجه تجديداً في السياسة الروسية، التي لم تحظ سابقاً إلا بردود فعل محدودة لتقربها من هذه الدول. لكن يبدو أن الأمور تغيرت الآن، الأمر الذي سيكون له تأثير في بلورة النظام الإقليمي في المستقبل.. وروسيا التي تطمح إلى دور مؤثر في المنطقة أظهرت في الفترة الأخيرة حضورها الفعال في أغلبية الملفات الإقليمية، كما أبرزت ثقتها في مواجهة الولايات المتحدة، يأتي ذلك بعد فترة من عدم الاستقرار ترافقت مع أحداث الربيع العربي، التي قضت على معظم مكاسب روسيا في المنطقة..\”.
ويضيف ميغن: \”حتى الفترة الأخيرة كانت نجاحات روسيا في الشرق الأوسط متواضعة للغاية، وفي الواقع، في أغلبية القضايا التي تستقطب الاهتمام الدولي، كانت روسيا تجد نفسها خارج اللعبة، سواء بالنسبة لعملية السلام على المسار الإسرائيلي الفلسطيني أو في الموضوع الإيراني. لكن الأمور في الفترة الأخيرة انقلبت رأساً على عقب، بعدما أدت الأحداث في سوريا وإيران إلى تغير جزء من توجهات اللاعبين الإقليميين، الذين شعروا بأنهم تعرضوا للخيانة والخطر بسبب السلوك الإقليمي للولايات المتحدة.. وثمة من يرى أن لهذه التغيرات انعكاسات تستطيع التأثير في نظام إقليمي مستقبلي..\”.
في خط يتصل مع تحليل كل من يورشالمي وميغن يضع المحلل السياسي زيئيف شطرنهيل النقاط على الحروف، في مقالة له نشرتها صحيفة (هآرتس) 29/11، حول جانب مهم، وربما الأهم، من توجس الحكومة الإسرائيلية إزاء اتفاق جنيف بين مجموعة (5+1) وإيران. حيث يؤكد أن \”أهمية المفاوضات مع إيران تتعدى بكثير ما تحقق في جنيف، فقد جرى هناك وضع أساليب للتفكير وطرائق عمل نستطيع تطبيقها، من أجل حل المشكلة الإسرائيلية- الفلسطينية، وهذه هي النقطة الرئيسية، فالجهد المشترك للدول الخمس زائد واحد يستطيع أن يجلب الطرفين إلى طاولة المفاوضات، وإجبارهما على البدء بحوار جدي، وسيكون من الصعب جداً التنصل من مجموعة هذه الدول، فالعمل لوقف البناء في المستوطنات، ووضع إشارة على المنتجات التي مصدرها المناطق المحتلة، والمفاوضات الجدية بشأن حدود الدولة الفلسطينية مستقبلاً، هي أمور مقبولة من جانب الأغلبية الساحقة غالبية من مواطني الدول الغربية..\”.
وفي ترجمة نسق العلاقات الدولية الجديدة، التي تمخض عنها اتفاق جنيف بين مجموعة (5+1) وإيران، فيما يخص الصراع العربي والفلسطيني- الإسرائيلي، يعتقد شطرنهيل بأنه \”إذا ما وصلت المفاوضات المباشرة، التي يعمل كيري لإنجاحها، إلى طريق مسدود، فستصبح الدعوة إلى مؤتمر دولي محتملة. وإذا تبيَّن أن العملية السياسية التي بدأت في جنيف ناجحة، وأثبتت الرقابة الصارمة أن الإيرانيين تقيدوا بالاتفاق وأن قدرتهم على إنتاج نووي للاستخدام العسكري كبحت، حينئذ سيبدو إطار جنيف هو السبيل الوحيد لحل النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي..\”.
هذا ما تخشاه إسرائيل من انعكاسات ميزان القوى الدولي الجديد ونسق العلاقات فيه، وإذا ما أثبتت القوى الكبرى أنها تمتلك إرادة، كالتي امتلكتها في توقيع الاتفاق مع إيران، سيُفرض على إسرائيل أن تتعامل بجدية مع المفاوضات وتأمين شروط نجاحها، وفي المقدمة منها وقف الاستيطان وتفكيك المستوطنات التي تحول الدولة الفلسطينية المستقبلية كقطعة جبن سويسرية.
*كاتب فلسطيني
**المصدر: AnbaMoscow