كعادتها كل فصل، جاءت مجلة قضايا اسلامية معاصرة في عددها المزدوج الجديد (53 – 54) محملة بأبحاث ودراسات وحوارات مهمة، فتحت فيها ملفا غاية في الأهمية وهو \”موضوع الهرمنيوطيقيا\”، كونه يرتبط بتحليل النص الديني وتأويله.
وحققت المجلة المختصة بتحديث التفيكر الديني في الاسلام، والصادرة عن \”مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد\”، حضورا كبيرا في اوساط النخب الأكاديمية والدينية العربية، واعتمدتها الكثير من الجامعات العربية كمرجع في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، كما تم الاحتفاء بها وبصاحبها رئيس التحرير الدكتور عبد الجبار الرفاعي في عدد من العواصم العربية، كان آخرها بغداد وبيروت والرباط.
إنقاذ النزعة الانسانية في الدين تعني الخلاص من نسيان الإنسان:
الرفاعي الذي أسس المجلة قبل 17 عاما تحدث في افتتاحية العدد عن بداياته التي استقى فيها تجربته الدينية منذ نشأته الأولى في ريف \”الرفاعي\” احدى توابع محافظة ذي قار في جنوب العراق، وحياته في الحوزة العلمية في النجف وقم، طالبا واستاذا بارزا، التي أمضى فيها أكثر من 35 عاما.نال بعدها شهادة الدكتوراه، مرورا بمراحل الدراسة الأولى، وانتمائه الى حزب الدعوة الاسلامية، وهجرته من العراق بسبب مطاردة نظام صدام له.
يكرس الرفاعي في افتتاحيته هذه الحديث عن مشروعه الذي شغله طيلة السنوات الاخيرة، والذي يعد خلاصة حياته ودراسته للمعارف الدينية التي عاشها طالبا واستاذا وفاعلا اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، وهو \”إنقاذ النزعة الانسانية في الدين\”، والتي يلخصها بقوله: \”النزعة الانسانية في الدين: تعني بناء فهم آخر للدين، وتأويل مختلف للنصوص الدينية، عبر قراءة شاملة لهذه النصوص، تستلهم نظامها الرمزي، وما تختزنه من معان ومداليل، لا تبوح بها الا من خلال عبور المنظومة المغلقة للفهم التقليدي لها\”. ويضيف ايضا: \”يسعى هذا التفسير الى اكتشاف وظيفة الدين الأصلية في انتاج معنى لحياة الانسان، وهي وظيفة عجزت معظم الجماعات الاسلامية اليوم عن ادراكها، واغرقت أنفسها والمجتمعات في نزاعات ومعارك يتجلى فيها كل شيء سوى الاخلاق وقيم التراحم والمحبة في الدين\”.
ويشدد كذلك على أن: \”الانسانية في الدين: لا تعني التنكيل بالجسد والتضحية بمتطلباته الضرورية وحاجاته الغريزية، لحساب الأيديولوجيا، والفهم المبسط للتربية الروحية، الذي يفضي الى تجاهل طبيعة جسد الانسان وقمعه وتعذيبه، بمحاربة الغرائز والعمل على اجتثاثها\”. ويؤكد على انه يقصد بـ\”الإنسانية في الدين: الخلاص والتحرر من نسيان الإنسان في أدبيات الجماعات الاسلامية، والاعتراف ببشريته ومكانته في الارض، وتصحيح نمط علاقته بربه، وتحويلها من صراع مسكون بالخوف والرعب والقلق، الى علاقة تتكلم لغة المحبة، وتبتهج بالوصال مع معشوق جميل\”. ويضيف: \”أعني بها الدعوة للسلام واحترام كرامة الكائن البشري، واشاعة السلام بين المجتمعات البشرية عبر دراسة الاديان ومقارنتها…واستلهام الميراث المعنوي العميق واستدعاء التجارب الروحية التطهيرية التنزيهية السامية في التاريخ، وبناء الهيات عقلانية مستنيرة…وانجاز مصالحة بين المتدين ومحيطه والعصر الذي يعيش فيه، والاصغاء لايقاع الحياة متسارعة التغيير، ووتيرة العلوم والتكنولوجيا\”.
ويختم افتتاحة العدد بالقول \”لا تعد دعوتي (هذه) بأجوبة، وإنما يهمني طرح الأسئلة، وأحرص على تنمية روح التفكير النقدي، الذي يفضي للتساؤل المستمر…\”.
الهرمنيوطيقا والتفسير الديني للعالم:
يتضمن العدد أيضا حوارا موسعا مع المفكر الايراني محمد مجتهد شبستري، الذي يعد واحدا من أبرز الرواد والباحثين في مجال \”الهرمنيوطيقيا\”، حيث تحدث بالبداية عن أهمية هذا العلم، منطلقا من تحول التفكير الفقهي التقليدي، الى عبئ على السلطة التي تسعى الى التلفيق بين الاحكام الخارجية والدخلية. ثم أشار الى: أن الفقهاء المتصدين للشؤون السياسية غير ملتفتين الى مباني تفكيرهم الفقهي، وما تنتهي اليه هذه المباني من مشاكل. من الواضح ان هذا الأمر يرتبط بالهرمنيوطيقا، ومن هنا توجهت لمطالعة علم الهرمنيوطيقا الحديث أكثر. والهرمنيوطيقا الفلسفية بالمعنى الأعم أي البحث الفلسفي حول المقدمات الغير تجريبية لعملية \”الفهم\” اصبحت أكثر أهمية بالنسبة لي. وقال: خلال سنوات إقامتي في ألمانيا، حيث كنت على تماس مع الفلسفة والإلهيات المسيحية الغربية، اطلعت على كتاب \”الحقيقة والمنهج\” لغادامر، وأبحاث رودولف بولتمان حول \”التدين والفهم\” وآراء شلايرماخر وعدد آخر من اصحاب الهرمنيوطيقا الفلسفية (بالمعنى الاعم)، الذين كان لهم دور أساس في تطورالإلهيات المسيحية. لكن بعد عام 1981 خصصت وقتا طويلا لدراسة الهرمنيوطيقا الفلسفية وقدمت الدراسات التي تعرفونها. كما ركّزت في كتاب (الهرمنيوطيقا، الكتاب والسنة) على طبيعة الفهم المسبق والأحكام القبلية التي تحكم المنهج التفسيري والاستنباطي السائد بين علماء المسلمين. وكنت حريصاً جداً على قرع أذهان الدارسين والباحثين في الحوزة العلمية وتعری فهم بعلم الهرمنيوطيقا الفلسفية الحديثة بالمعنى الأعم، التي راجت منذ شلايرماخر. وأبيّن ضرورة تنقيح الأحكام المسبقة والقبليات. بينت في ذلك الكتاب ان نظرية (التوصل الى مراد المتكلم من خلال ظاهر كلامه) ليست الاّ نظرية واحدة من بين النظريات المبحوثة في علم الهرمنيوطيقا، وان هناك في هذا الخصوص نظريات كثيرة أثرى وأعمق. فلماذا لايطلع الفقهاء عليها عسى أن نجد فيها مايروي غليلنا؟ لماذا اكتسبت نظرية التوقف عند حدود ظواهر الكلام، قداسة كبيرة بحيث ماعاد بوسع أيٍّ منا أن يتحرر من قيودها، أو يفكر في تعريضها للمساءلة العلمية؟ وكانت الإجابة تأتي في الغالب: \”لأن أئمة الدين العظام بقولهم وفعلهم دلونا على التوقف على هذا المنهج، لكن هذا الكلام غير تام. لأن الزعم بأن النبي أو الامام هكذا فعل، وهكذا قال، وهكذا يريد منا، مستند في الأساس الى فهم معين، وبالتالي لابد من ملاحظة ان كان هذا الفهم هو الصورة الوحيدة أو أن له بدائل ممكنة، وحينئذ يجب ان نضطلع بدراسة النظريات التي تفسر حقيقة الفهم ونختار منها ما هو أقرب الى منطق العقل والعقلاء، ومن ثم يأتي الدور لمحاولة فهم مراد النبي أو الإمام في ضوء قواعد الفهم الأمثل.
ويضيف: بكلمة واحدة كان غرضي من نشر «كتاب الهرمنيوطيقا، الكتاب والسنة» هو العبور من ضفة الهرمنيوطيقا الدوغمائية الى الهرمنيوطيقا العقلانية. ليس من الصحيح ان نستنبط عدة مبادئ عقائدية من الكتاب والسنة، ومن ثم نجعل هذه المبادئ فرضيات وقواعد نستند اليها في فهم الكتاب والسنة؛ إنه الدور بعينه! ولامحيص عن الوقوع في شراك هذا الدور، إلاّ باعتماد المسلمين على الهرمنيوطيقا الفلسفية، ليس بالضرورة بمعناها الخاص الذي نظّر له كل من هايدجر وغادامر، بل تكفيهم الهرمنيوطيقا بمعناها العام الأوسع، والذي يعني أي شكل من التنظير الفلسفي في مجال الفهم.
التأويل في فهم الوجود المجتمعي- سوسيولوجيا الفهم عند ماكس فيبر:
إشتمل العدد على بحث إبستيمولوجيّ-آكاديمي طويل، لمدير تحرير المجلة، محمَّد حسين الرفاعي، بعنوان: \”في الطريق إلى بناء فهم للعلم المنتقل إلينا من الغرب، نموذج: التأويل في فهم الوجود المجتمعي- سوسيولوجيا الفهم عند ماكس فيبر\”.. والذي يتضمن قسمين. بحث يغوص فيه الباحث في إشكالات وإشكاليات إبستيمولوجية مختلفة، ويستخدم مفاهيم ولغة أبستيمولوجية جديدة، يتعرف بها إلى المعرفة العلمية الآتية إلينا من منظار يأخذ مسافة عما هو سائد؛ يقدم فهماً جديداً ومختلفاً للبحث السوسيولوجي؛ ساعياً إلى \”إستخراج فهم مما ينتقل إلينا من معارف علمية من الغرب\”؛ معتبراً أن \”لا تعلُّم من دون الإبستيمولوجيا\” في بلداننا. وأخذ محمد حسين الرفاعي على عاتقه في البحث، \”بناء الدرجة الأولى من سلم الفهم الخاص بقراءة العلم المنتقل إلينا من الغرب\”، حسب تعبيره.. حيث يعتبر: \”أن الطريق التي يريد التعلُّم أن يسير عليها طريق مليئة بالعقبات المعرفية التي تحول دون التعرف إلى العلم، والتعريف به\”.. واصفاً الممارسات العلمية، بوصفها أبحاث علمية، في العلوم المجتمعية والإنسانية، في بلداننا، والبلدان التي ينتقل العلم إليها من الغرب، ما هي إلاّ \”ممارسة للعقبات المعرفية\”.. قائلاً: \”ثمة فهم يتعلق بالبحث العلمي، والبحث الآكاديمي، من حيث كونه نقلاً للمعرفة العلمية الحديثة، من الخارج، يقوم ضد الفهم؛ يأخذ هذا [الفهم-ضد-الفهم] صور تختلف، وترسم مجتمعةً الأساسيَّ في العقبات المعرفية في وجه العلم، هي: \”1- نقل المعرفة بواسطة الآيديولوجيا، 2- \”القليل من كل شيء\” في المعرفة العلمية الحديثة؛ ووهم التعلُّم بواسطته، 3- التبسيط والتعقيد ووهم فهم المركَّب جزئياً، 4- وهم الفصل والإنفصال بين الواقعيّ وبين النظريّ في البحث العلمي، 5- الوقوع في فخ ثنائية التراث – والحداثة، ووهم حضور الثنائية أو طرف من طرفي الثنائية، كنموذج يرشد ويسير المعاينة (observation) في العلميّ، 6- القياس على النموذج-المثال؛ وحضوره في رأس الباحث قبلياً ووهم التعرف إلى العلم بواسطته\”.
ويضيف الرفاعي أن التعامل مع الموضوع العلميّ، \”لا يمكن إلاّ أن يكون مستنداً إلى [العلم بالموضوع العلميّ]، الذي يكون من شأن الإبستيمولوجيّ\”؛ لأن، في بلداننا، لا يمكن للعلم أن يكون إلاّ أن نأخذ بنظر الإعتبار أن \”حتى تكون علميَّة التعلم والتعليم، ويُنتج الفهم داخل الموقف الإبستيمولوجي الخاص ببلداننا في التعامل مع ما ينتقل إلينا من الغرب، ينبغي، قبل كل شيء، مَوقَعَة(بوصفها فعلاً) الأشياء المعرفية بواسطة موقف متودولوجي نتخذه، ويكون مفاده: [جلب العلم، إلى بلداننا، من حيث كونه علماً، بواسطة العلم]؛ بعد تفريغه من النوايا الشيطانية القائمة على المواقف الأخلاقية-المعيارية في بلداننا\”.
وفي القسم الثاني من البحث، يقدم محمد حسين الرفاعي تعريفاً بسوسيولوجيا الفهم عند ماكس فيبر ويستخرج فهماً لسوسيولوجيا الفهم عنده، من جهة، وفهماً للمنهج التأويلي الفاهم فيها، من جهة أخرى. حيث تقدم الممارسة الإبستيمولوجية للرفاعي لحظتين في فهم فيبر: \”اللحظة الأولى تتضمن معنى تأسيس السوسيولوجيا من قبل العالم (وعي العلم من خارج العلم من قبل العالم)، واللحظة الثانية(ممارسة العلم من داخل العلم) التي تشتمل على [معنى ممارسة معنى الموضوع ومعنى المنهج في العلم]\”.. حيث يقدم في اللحظة الأولى: \”المضامين النظرية المتعلقة بفهم السوسيولوجيا بوصفها علماً في فهم الوجود المجتمعي The Social Existence، من جهة، ويقدم من جهة أخرى، في اللحظة الثانية: حدود الفهم في السوسيولوجيا لممارستها من جهة، وحدود الفهم في السوسيولوجيا (بهذا التعبير الدقيق والصارم:) [لفهم- ممارستها- لفهمها- فيها]، من جهة أخرى\”.
يتضمن القسم الثاني من البحث، أيضاً، سبر أغوار الموضوع العلمي عند فيبر، والمنهج العلمي عنده؛ حيث يتوقف الباحث وقفة إبستيمولوجية فذة، الأولى من نوعها في مجال إختصاصه، لفهم الموضوع، -العلم بالموضوع العلمي-، عند فيبر، عند محطات عدة، منها: في فهم المضمون النظري للفعل المجتمعي، والفعل المجتمعي في مجتمعيَّته؛ في فهم الظاهرة في ظاهريتها والتأويل الفاهم لها؛ في فهم المضمون النظري للفعالية المجتمعية؛ كما يتوقف فهم الباحث للمنهج عند فيبر عند محطتي النموذج-المثال عند العالم، والسبيل إلى فهم معنى الفعل المجتمعي في مجتمعيته.
يختم مدير تحرير المجلة بحثه بقول بدايةَ مشواره الإبستيمولوجي في بلداننا، قائلاً: \”لا يمكن مواجهة المعرفة العلمية الحديثة الآتية إلينا بخطاب آيديولوجي أو معرفة آيديولوجية؛ إنها مهمة على عاتق جيل كامل من الباحثين، لأن النشاط العلمي نشاط جماعي على الدوام\”؛ و\”أن الإستناد إلى مرجعية تراثية، أو حداثية في فهم الواقع، في بلداننا، يمثل وجهاً واحداً في التعاطي والتعامل مع المعرفة الوافدة إلينا\”؛ تكون تقاسيمه: \”من الواقع إلى العقل بتوسط الآيديولوجيا، ومن العقل إلى الواقع بتوسط الآيديولوجيا\”؛ هذه هي \”التقاسيم الحقيقية في باطن المعالجتين، والإختلاف الشكلي فيها، ليس إلا إختلاف في ما تمثله الآيديولوجيا لهما\”. وعليه، حسب الرفاعي، \”يقال، ووهماً يقال، إمكانية فهم العلم وممارسة من دون الإكتراث بالعقبات المعرفية وعدم فهمها\”. خاتماً بحثه بـ\”أن المعرفة العلمية الحديثة شيءٌ، والمعرفة الدينية شيءٌ آخر يختلف.. وبينهما لا يتأرجح دولاب العليَّة.. غير أنَّ المهرج في عالم العلم يتميز بالخلط والدمج الخاطئ بينهما\”.
القرآن بين اللفظ والمعنى في نص أركون:
تحدثت د. نايلة أبي نادر عن \”القرآن بين اللفظ والمعنى في نص محمد أركون\”. فذكرت أن أركون في كتابه \”القرآن، من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينيِّ\”، يختصر إحدى ركائز المشروع الذي رفع لواءه على مدى أربعين عامًا من الجهد المتواصل. كما أن \”من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلاميِّ\”، عنوان ثانٍ يُفصح بجرأة عن نوايا صاحبه التجديديَّة التي تهدف إلى إرساء ركيزة فكر نقديٍّ نيِّر، يُعرِّي لكي يبني، يحفر لكي يحلِّق، يخرج من التأبيد لكي يدخل في التاريخ حيث جُبِل الإنسان وعاش تجربة الوحي. لا يملُّ صاحب المشروع النقديِّ من الإشارة إلى المسافة الفاصلة بين حقيقة الوحي المتعالية، وبين الحقيقة التي توصَّل إليها المفسِّرون والفقهاء في ظروف تاريخيَّة معيَّنة لا تخلو من الصراع. فالنصُّ الأوَّل ليس في مرتبة النصوص التفسيريَّة الثواني. يحثُّ أركون دائمًا المفكِّر على القيام بـ\”التفريق بين المعنى الثابت والجوهريِّ المضمونة صحَّته من قِبل الله، وبين آثار المعنى الناتجة عن السرد والممارسات المنطقيَّة الاستدلاليَّة التي تختلف وتتغيَّر بحسب النظام المعرفيِّ المأخوذ بعين الاعتبار\”. كذلك يشدِّد على ضرورة أن يفصل المسلم المعاصر بين المرتبة اللاهوتيَّة للخطاب القرآنيِّ، وبين الشرط التاريخيِّ واللغويِّ للعقل البشريِّ الذي يُنتج خطابات وأحكامًا تبرِّر شرعيَّتها بالاستناد إلى العقل الإلهيّ. وليس الهدف من ذلك الحكم على الفكر الإسلاميِّ أو التقليل من شأنه أو تهميشه وجعله بعيدًا عن الحداثة والمعاصرة أو النظر إليه بفوقيَّة وتعالٍ، كما فعل جمع وفير من المستشرقين. الهدف هو التجديد، علَّ هذا الفكر يصبح أكثر قدرة على نقد عمليَّة تجسيد المبادئ المثاليَّة والروحيَّة في التاريخ، أي في حيِّز التطبيق الخاضع لشروط عدَّة تتبدَّل مع الظروف وتسلسل الأيام. فبين الوحي والتاريخ، والمثال الأعلى والتطبيق، وبين اللغة والفكر، واللفظ والمعنى، يكمن الحراك الفكريُّ للمؤمنين، إلى أيِّ دين انتموا، فهل يمكن أن تتمَّ مقاربة كلٍّ منهما في علاقته مع الآخر وليس على حسابه؟
وتتناول د. نورة بوحناش \”تاريخية النص وآفاق الإنفتاح على سطوح النص عند أركون\”، فتشير الى أن الأركونية لحظة ضرورية في المسار المتردي والمؤدلج للإسلام اليوم، وهو سيعني الصدمة أولا، لكنه سيعني أيضا فتوحا أخرى للعقل الإسلامي،غير أن السير في عملية الحفر والتفكيك لابد أن تكون بحذر شديد ذلك أن الخطاب الديني يبدو ضروريا على المستوى الإنساني كضرورات أخرى أكثر حيوية، وهو ما تنبه إليه الوعي الغربي بعدما تم تعميم حال العدمية، حيث بدت صحاريها جافة ومقلقة بعثت علة القلق و الغثيان واللاجدوى في شخصية الإنسان الذي سقط في هوة عميقة من السؤال الأنطولوجي إذ لم يستطع العلم بتقريراته الاستدلالية من إقناع الإنسان حول سؤال المصير وهو أيضا سؤال يرقد في قرارة النفس البشرية. إن النقد الأركوني يطمح في نهاية الأمر إلى تجاوز العيش داخل الأطر المغلقة، إذ تعلمنا مكتسبات الحداثة أنه لا يمكن أن نجمع بين اننحيا الحداثة المادية لكن نكرس العقلية القروسطوية، لذلك يكون نقد الخطاب الديني عند أركون هو إحداث الموازنة بين العقل و الحداثة التي يحياها المسلم على صعيد الوجود المادي.
وفي بحثها عن: \”ماهية الحقيقة بين الإطلاق والإمكان\” تتناول د. إيمان المخينيني نظريـة القبــض والبسـط بالتحليل والنقد، فأوضحت ان موقف عبد الكريم سروش من ماهية الحقيقة على نقد جذريّ للمعقوليّة المنتجة لخصائص الإطلاق والشّموليّة فيها. ودعا في المقابل إلى انفتاح المفهوم على أفق الإمكان، وعدّ الحقيقة الدّينيّة نتاجا بشريّا خاضعا لكلّ شروط التّحوّل المعرفيّ التّاريخيّ، بشكل لم يعد يسمح بالحديث عن \”حقيقة\”، إنّما عن \”فهم\” أو عن \”مقام تأويليّ\”. إلاّ أنّ طرحه ظلّ محكوما بنقائص عدّة حالت دون بلوغ مشروعه في استحداث قراءة جديدة لماهية الحقيقة منتهاه.
مجازات الجسد والجسد المجتاز:
يعالج د. علي أحمد الديري في دراسته:\”مجازات الجسد في الخطاب الفلسفي والصوفي في العصر الوسيط\”، مفهوم (الجسد المجتاز) الذي يرتكز على فكرة أن الإنسان لا يمكنه أن يُفكّر من دون الاستعانة بخبرات جسده الحسيّة، فهو يعرف العالم من خلال جسده، ويبني تصوراته لما في العالم من خلاله أيضاً. وهو قادر على أن يجعل من هذه المعرفة الجسدية الحسية خطاباً، يُعبّر فيه عن ذاته ورؤيته. فالإنسان هو الكائن الوحيد القادر على أن يتجاوز بجسده، لا أن يتجاوز جسدَه، أي أن يَعْبُر من خلال جسده عوالم مرئية وغير مرئية، يصوغها في شكل خطابات تحكي تجاربه الوجودية. (الجسد المجتاز) هو، إذن، استخدام جسد الإنسان ومقتضياته مجازاً لصياغة حقائق إلهية وكونية وفلسفية وصوفية.
يتسائل الدكتور الديري عن: المقصود بمجازات الجسد في دراسته؟ فيجيب: انه كلّ ما يحيل إلى جسد الإنسان وحواسه وامتداداتها وخبراتها يقع ضمن مجازات الجسد. وعليه فمجازات الجسد، لا تقتصر على أعضاء الجسد من يد ورأس وعين ورجل وجذع، بل تمتد إلى خبراتها الوجودية ومخططات فهمها المباشرة للحركة والاتجاه والاحتواء والقوة. فالتجلي مثلاً مجاز من مجازات الجسد، فهو يحيل إلى الظهور والانكشاف والوضوح، وهذه مفاهيم تدركها العين بحاسة الإبصار، وكذلك ما يتعلق بالصورة التي يكثر تداولها في خطابي إخوان الصفا وابن عربي، فهي تدرك عبر مجازات الجسد، لأن خطابهما يتداول مفهوم الصورة من خلال الإحالة على الحواس، خصوصاً حاسة البصر، فالصورة تظهر وتختفي وتتجلى وتستتر. والنسب والأعيان والمراتب في خطاب ابن عربي هي صور وليست أشياء عينية حسية، لكنها تدرك بالحواس والعين خصوصاً.وعليه فالوجود والعدم في العالم نفهمه من خلال هذه الصور ووسائل إدراكها التي تُحيلنا إلى مجازات الجسد. وسنجد ابن عربي يضع الأسماء الإلهية ضمن نظريته في الصورة، فيصوغ مذهبه في وحدة الوجود بالإحالة إلى مجازات الجسد التي هي وسيلته لفهم الصورة.
عن الدين: حوارات مع محتقريه من المثقفين لشلايرماخر:
يترجم أسامة الشحماني عن اللغة الألمانية الخطاب الأول من كتاب الفيلسوف الألماني شلايرماخر، الذي ألَّفه العام 1799 تحت عنوان: \”عن الدين: حوارات مع محتقريه من المثقفين\”. ويشير المترجم الى ان : \”هذا الكتاب يعد من الأعمال الكلاسيكية المهمة في اللاهوت، ويتشكل من خمسة خطابات، جعلها شلايرماخر محصورة بإعادة هيبة الدين وكرامته، بوصفه نظاماً فكرياً وأخلاقياً ليس محصوراً بعامة الناس وإنما هو لكل المجتمع، وأوله طبقة المتعلمين والنخب والثقافية. أما إشكالية ترجمة هذا الكتاب المراد تقديمه على فصول، فتنبع من نزوعه الى ما يقتضيه الخطاب الممفصل والمباشر من قضايا أسلوبية يفرضها الفعل الكلامي، وما له من سمات تكوينية تجعله مرتبطاً بانفعال التلفظ، فيكون أحياناً أمراً وأحياناً نهياً وأحياناً وعداً ووعيداً، وسوى ذلك مما قد يتعامل مع اللغة بهدف التوجه نحو المتلقي مباشرة، بقصد نيل رضاه ودفعه لغاية مرغوب فيها. وتبعاً لهذه السمات تصبح مهمة الترجمة خطرة، لأنها قد تدخل في شيء من الإلتباس والغموض، وهي تحاول جعل الخطاب الملفوظ الشفهي المحايث رسالة مكتوبة ذات وحدة متماسكة منهجياً\”.
وأعلنت مجلة قضايا اسلامية معاصرة انها تترجم هذا الكتاب البالغ الاهمية لأول مرة بالعربية، ستنشره بدأ من هذا العدد، ثم يُنشر متسلسلا في أعدادها القادمة، حتى الفراغ من ترجمته لتصدره بتمامه في كتاب.
أفكار للمناقشة: \”نظرية القراءة النبوية للعالم\”
حرصت مجلة قضايا اسلامية معاصرة على تخصيص باب بعنوان:\”أفكار للمناقشة\”، اذ تنشر في كل عدد قضية إشكالية لمفكر ديني، وتعقبها بمناقشات نقدية لها لمفكرين وباحثين آخرين. لقد أصرت هذه الدورية عبر مسارها على تدشين تقاليد ثقافية غائبة أو مغيبة في مجتمعاتنا، وهي تقاليد تهتم باكتشاف الآخر، ومعرفة أفكاره ومقولاته، والسعي لمناقشته وحواره، وبغية ترسيخ تقاليد ثقافية تتوكأ على التعددية، وتعتبر تنوع الآراء حالة طبيعية، ولا تفزع من وجهات النظر المغايرة، واصلت هذه المجلة نشر الآراء المختلفة منذ عددها الأول، في سائر أبوابها. وشددت المجلة على ان النزعة الاقصائية في مجتمعاتنا تنطلق من هذا النوع من التفكير، وان هذه النزعة هي سبب الاستبداد السياسي، والافقار الفكري، وتعطيل فاعلية العقل في الاجتهاد والابداع.
وأول خطوة في تجاوز النزعة الاحادية الاقصائية، تتمثل في اختبار استعدادنا للاصغاء باهتمام وجدية للصوت الآخر، والرؤيا المغايرة، وقدرتنا على تأمل أفكار الغير، ومناقشتها. من هنا وجدت هذه الدورية أهمية فائقة لإضافة باب إلى أبوابها السابقة، وهو باب يستوعب افكارا للمناقشة، لا تتبناها قضايا اسلامية معاصرة، وانما تجدها تقارب مفاهيم موروثة وسائدة من منظور مختلف، وتفضي الى نتائج لا تحظى بالقبول والاعتراف، لدى معظم الباحثين في الدراسات الاسلامية، وهي تنشرها وتنشر بجوارها نقاشاتها، من أجل التفكير بها، والتعرف على أسئلتها، واكتشاف الرؤية المغايرة للسائد والموروث التي تتضمنها، ومحاورتها، وتقويمها، ونقدها.
في باب \”أفكار للمناقشة\” نشرت المجلة مادتين، الأولى هي مناقشة حول كتاب \”قوة الدين في المجال العام\”. الذي يحتوي على المحاضرات والنقاشات التي طُرحت في حدث أكاديمي بارز وقع عام 2009 في مدينة نيويورك برعاية ثلاث مؤسسات علمية رصينة تحت عنوان \”قوة الدين في المجال العام\”. التي شارك فيها يورغن هابرماس الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني، وتشارلس تيلر الفيلسوف الكندي، وكريغ كالهون مدير مجلس بحوث العلوم الاجتماعية في جامعة نيويورك. وترجمها فلاح رحيم.
اما المادة الثانية فهي الفصل الأول من \”نظرية القراءة النبوية للعالم\”، لمحمد مجتهد شبستري، وأوضحت قضايا إسلامية معاصرة انها تنشر هذا الفصل من سلسلة محاضرات (نظرية القراءة النبوية للعالم) في هذا العدد، وأعقبتها بمناقشتين نقديتين لآراء محمد مجتهد شبستري لباحثين متخصصين بهذا الحقل، وهما: د. أحمد واعظي، ود. آرش نراقي. وأشارت المجلة الى انها ستنشر بقية المحاضرات في أعدادها القادمة؛ مشفوعة في كل عدد بمناقشة أو أكثر. وهذه النظرية أثارت جدالات ومناقشات وردودا واسعة، شارك فيها نخبة من الباحثين والدرارسين ورجال الدين المهتمين بفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد.
هرمنيوطيقا بول ريكور:
تكتب د. فوزية شراد عن \”الهرمنيوطيقا من النبوغ والبنية إلى عالم النص عند بول ريكور\”، فتخلص الى ان النتيجة التي انتهى إليها ريكور تتمثل في ضرورة إعطاء مفهوم جديد للتأويل، وذلك من جهة اعتباره أي التأويل كفعل على النص، ذلك أن «التأويل قبل أن يكون الفعل والتفسير هو فعل النص… التأويل بالنسبة للمفسر، هو أن يضع الإنسان نفسه في المعنى الذي حددته علاقة التأويل هذه المحمولة من طرف النص ذاته». وبالتالي فإن التفسير والفهم وإن اختلفا من حيث المفهوم، فإن هذا لا يعني أنهما لا يجتمعان في العمل الهرمينوطيقي أو أنهما ضدان متناقضان إذا حضر أحدهما غاب الآخر بالضرورة،لأنه لا وجود لتفسير تام دون فهم، ومن جهة أخرى نفهم العملية السردية من خلال تفسير وشرح المحكى.
أما القس عيسى دياب فيدرس ويحلل \”النظريات المعاصرة حول تكون مجموعة أسفار التوراة\”، ويؤكد على ان دراسته هذه تتمحور حول موضوع من المواضيع الأكثر تعقيداً في دراسة العهد القديم، وهو محاولة التعرف إلى النصوص الأقدم في الكتاب المقدس، التعرف إلى مصادرها الأولية، والتعرف إلى الكيفية التي تكونت فيها منذ النشوء حتى التدوين.
كتاب في التساؤل:
نشرت المجلة في باب \”نقد كتاب\” مراجعة نقدية لكتاب د. عبد الجبار الرفاعي: \”إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين\” ، بقلم إسماعيل شاكر الرفاعي، الذي أشار الى ان \”هذا الكتاب يثير تساؤلات أكثر مما يمنح قارئه مهدئات ومسكنات ويقينيات. هذا كتاب في التساؤل. فإذا ما حاول الكاتب أن يصل الى يقين ما، يثير تساؤل القارئ حول هذا اليقين، لكأن المؤلف لا يريد للقارئ أن ينهي رحلته بإجابات حاسمة ويقينيات. هذا على الأقل الإحساس الذي راودني وأنا أقرأ الكتاب\”.
*****
ينبغي التنويه بأن هذا العرض المبتسر لا يستوعب، على الإطلاق، 400 صفحة من الدراسات والبحوث والحوارات والمناقشات الجادة، يتضمنها كل عدد جديد يصدر من مجلة قضايا اسلامية معاصرة، التي تفاجئنا، وتدهش قُرّاءها، مع كل عدد بمعالجة قضية بالغة الاهمية من القضايا الاشكالية في راهن التفكير الديني.