صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

قراءة في رسائل يوسف جرجيس لأمل بورتر

ليس للبوح العاطفي مكان في مجتمعاتنا، فالمشاعر الصادقة والغزل، ورقة المحب لحبيبه، ليس لها مكان العلن ولا يجوز البوح بها خارج الغرف المغلقة..حتى الأزواج لا يعبرون عن حبهم لزوجاتهم بل لا ينطقون أسماء زوجاتهم أمام الناس، هذا هو السائد الأن، لكنه لم يكن سائداً قبل أن يجتاح العراق مد الخراب السياسي على يد ثلة من همج الأرض الذين حكموا منذ 1963م حتى الأن.. ظل بساط الحضارة ينسحب من تحت أقدام الطبقة الوسطى العراقية  لتختفي ثقافتها وقيمها وتحل محلها ثقافة القرية والبادية، بكل عنجهيتها ورجعيتها وضحالتها المستمدة من عصور الجهل الموغلة في الاإنسانية.

في كتاب (رسائل يوسف جرجيس حمد من سجن أبو غريب) الذي حررته السيدة أمل بورتر الكاتبة والمترجمة والتشكيلية العراقية المعروفة، وهي زوجة يوسف جرجيس، وصدر هذا العام 2020م.  تفتح السيدة أمل  خزانة ذكرياتها لتكون شاهداً حياً وموثقاً على حقبة من التأريخ الإستبدادي في العراق، فجمعت في كتابها مراسلاتها مع زوجها الذي سجن ظلماً لأنه ببساطة لم يكن موالياً لسلطة البعث ورفض التعاون معها كلياً.

لكن المميز في هذه المراسلات انها لم تقتصر على الجانب العملي والسياسي وجوانب الحياة الإجتماعية، بل تجاوزتها الى تدوين المراسلات العاطفية بين السيدة أمل وزوجها يوسف ، وبحسب علمي هذا النوع من المراسلات نادر جداً وهذه أول رسائل من سيدة لزوجها تنشر بالعربية، وتتناول موضوع الغزل والحب بشكل صريح. عادةً تنشر النساء رسائل أزواجهن أو محبيهن دون رسائلهن ولم تختلف في هذا السلوك النساء الشرقيات عن  الغربيات.. لذا فهذا الكتاب اتصف بالجرأة وعرض رسائل خاصة تعكس حياة سيدة في غياب زوجها وحبيبها، هو في سجن الظالمين يعاني احتراق أحلامه ومستقبله وفراق عائلته، وهي تعاني ثقل المسؤولية، وتوحش الناس الذين يرون في كل سيدة غاب عنها زوجها لقمة سائغة وفرصة للعبث.

الأهمية الأخرى للكتاب تتمثل في شهادة السيدة أمل بورتر وزوجها يوسف جرجيس على بداية عصر بيع القيم والمبادئ في فئات الطبقة الوسطى المثقفة وتخليها عن مسؤوليتها في المواجهة والرفض للسياسة الإستبدادية القمعية. فتروي كيف تحول الأصدقاء كلهم الى العمل مع السلطة بعد يأسهم من تغييرها.

وهنا يجدر السؤال ماذا حدث مع يوسف جرجيس ؟ ولماذا سجن؟

يوسف جرجيس حمد محامي عراقي، درّس  كمحاضر في معهد الفنون الجميلة بصفته مختصا بالتلفزيون بعد حصوله على بعثة الى انكلترا وهو من أوائل العراقيين المتخرجين في هذا المجال، كما إهتم بالمسرح وكان من زملاء يوسف العاني ساهم معهم في تشكيل فرقة  جبر الخواطر المسرحية، وأسس أول نادٍ للسينما، لكنه إنصرف بعد فترة عن المسرح  الى الإخراج  فأخرج فلم  (أبو هيلة ) بطولة يوسف العاني، ولم يكن راضياً عن التجربة لذا اسس شركة للإعلان التلفزيوني ونجح في تطويرها برفقة زوجته السيدة أمل  فصارت من أهم شركات الإعلان في بغداد.

بدأت محاولات حكومة البعث الاولى في إستدراج يوسف منذ عام 1963 بأصدار أوامر إلقاء القبض عليه كعنصر مشبوه منتمي للحزب الشيوعي، لكنه تمكن من الهرب منهم، لكن عادت محاولات محمد سعيد الصحاف لإذلال يوسف وإجباره على العمل معهم، ولم ييأس من تجاوب يوسف، ثم بدأ بتضيق الخناق على أرزاق العاملين في الإعلانات التلفزيونية وإشترط  أن توافق وزارة الثقافة على رخصة ممارسة المهنة، فرفضوا منح يوسف إجازة لشركته ثم لفق له تهمة مخلة بالشرف هي محاولة تقديم رشوة لموظفين الدولة للحصول على رخصة، وقدم لمحكمة الثورة وحكم عليه بعد عشرة دقائق من محاكمة هزلية بالسجن.

تصف أمل بورتر هذه المواجهة بين الصحاف ويوسف بالخيار الصعب فقد حاولوا تجنب المواجهة لكن لم يكن هناك بد منها، وقد إستسلم أغلب الإصدقاء وسايروا الموجة بل ركبوها وإستفادوا منها، تقول: ( إخترنا العكس والضد، وكنا على ثقة من المواجهة يوما ما، وجاءت على شكل الأزمة المفتعلة بين يوسف والصحاف.. تطورت الأمور كما أسلفت والأن يوسف في السجن، وعلي أنا أن أعيش السجن الكبير مع تدبير الأمور، إدارة شركة حديثة التأسيس، الإستمرار على عمل المتحف، والعناية بطفل صغير، وبأهلي  وأهله..)

في الرسائل تأملات جميلة يكتبها يوسف لأمل منها حديثه عن السجن يقول: ( السجن كما أعلم مأساة، والمأساة كما يقولون فعل درامي أحداثه  تثير فينا الشفقة والخوف، الشفقة على أنفسنا الحبيسة هنا، والخوف مما سيحدث لنا نحن البشر، والمأساة أو السجن بشكل فلسفي كما أتصور الأن هو تطهير لأدران الشخص، تطهير للمتفرج على تراجيديا الحياة، تطهير لنتائج الحدث الدرامي الذي يدفع الناس للمشاركة في مأساة السجين).

وعن الصداقة ودور الأخرين في حياتنا  أقف عند زيارة الكاتب شمران الياسري ليوسف في السجن وكيف دفعته هذه الزيارة العاطفية للبكاء و لكتابة نص أجده عميقاً في معانيه فمهما إدعى الإنسان بدافع الكبرياء انه بغنى عن الأخرين تظل الصداقة المخلصة والنقية إكسير الجمال في حياة البشر، يقول يوسف: ( أتدرين يا أمل إن ما يقتل الانسان أي إنسان، الإهمال من أهله، أصدقائه، تجاهلهم وجوده، فوجود الإنسان لايتم إلا عبر وجود الأخرين، الإنسان الذي لا يهتم به إنسان أخر قد كتب عليه الموت، تنكر الجميع هو موت طبيعي لذلك الأنسان، أي إنسان يهتم به الاخرون يتعقبون أخباره، يتلمسون أخطاءه، يوفرون له ما قد يحتاج، يشعروه بأنه موجود، شعرت مع شمران بوجودي، أهملت تنكر بعضهم لي، لأن أهتمام الاخرين أثار فيّ الألم).

هذا الكتاب سيرة الوجع العراقي المقرون بالهم السياسي لعائلة محبة للفن والجمال موعودة بمستقبل ناجح، نالت من إستبداد السلطة ما يكفي  لإعاقتها عن إكمال مشروعها الانساني و الحضاري فجعلت من مقاطعة السلطة قرارها النهائي ودفعت ثمن هذا الموقف الكبير ولم ترضخ للمغريات، هي سيرة الشغف والضنى كما تصفها أمل بورتر والنزف المتواصل.. هي الخزانة المفتوحة على ذكريات مجتمع سلب أهله حق البقاء والنجاح في بلدهم، هي مثال لألاف العائلات المميزة والمنتجة التي إبتلعتها المنافي والسجون،  تدونها أمل بورتر لتتجاوز نقص التدوين لتجارب العراقيين في حقبة جرت خلفها المصائب واحدة تلو الأخرى.، ورسخت قيم العنف والغاء الأخر يوما بعد يوم…

وتجدر الإشارة الى أن الكتاب تضمن ملحقاً بالمراسلات بخط اليد وصور لمراحل مختلفة من حياة يوسف وأسرته لأمه وأبيه عكست جمال وأناقة العوائل العراقية  وتحضرها، مع صور له مع زوجته أمل وطفلهما في بغداد وأثناء تنقلهما وسفرهما.. زاد هذا الأرشيف البصري الكتاب أهمية وغنى.   

إقرأ أيضا