قراءة في كتاب «كون مرئي وأكوان خفية» للباحث جواد بشارة

صدر للباحث العلمي العراقي المقيم في باريس د. جواد بشارة في أيلول سبتمبر 2024 عن دار أهوار للنشر والتوزيع في العراق بغداد شارع المتنبي، كتاب تحت عنوان “كون مرئي وأكوان خفيةــ نظرات في أطروحة الأكوان المتعددة” وهو عبارة عن رحلة شيقة وممتعة بين الأكوان المتعددة ومحاولة لفهم أسرار كوننا المرئي الذي لايشكل أكثر من جسيم أولي بسيط في هيكيلية الكون المطلق الكلي الحي اللانهائي ومع ذلك لا يزال غامضاً ومغلقاً أمام أعين البشر خاصة في جوانب تتناول لغز الأصل والبداية والمصير والنهاية، المطروح منذ الثورة الكوبرنيكية إلى يوم الناس هذا، إلى جانب وجود مقاربات تتعلق بالألغاز الكونية الأخرى كمسألة خلق الكون وهل هو مخلوق أم أزلي، ولو كانت له بداية فهل نشأ بفعل ولادة ذاتية عفوية أم نتيجة عملية تصميم مسبق على يد إله متسامي، يعتبره البعض العقل الواعي المتعالي الذي يتحكم بكل شيء في الكون؟ ولقد تطرق الكاتب إلى مختلف النظريات الفيزيائية الكونية الكوسمولوجية المتداولة حالياً سواء التقليدية منها أم المتمردة وغير النموذجية ومن بينها نظرية الكون البلازمي ونظرية الكون الثابت أو كون الحالة المستقرة ونظرية الأكوان التوائم ونظرية الميتا كون والكون النيوترينوي ونظرية الكون الهولوغرام والكون التعاقبي أو الدوري الخ..

ولقد تناول المؤلف بإسهاب حالة الإنتقال من الفيزياء الكلاسيكية إلى الفيزياء الثورية وتساءل هل العالم الذي نعيش فيها حقيقي أم افتراضي؟ وماهي الجذور الفيزيائية لفرضية التعدد الكوني الميتافيزيائية؟ والعلاقة بين الرؤية العلمية للكون والرؤية الميثولوجية والثيولوجية للكون ومحاولة الفرز بين الكون النسبي المرئي الذي تسيره القوانين الجوهرية الأربعة وتطبق فيه نظرية آينشتاين ونظرية الكم أو الكوانتوم، والوجود المطلق من خلال معالجة معضلة الزمن والمكان أو الفضاء والزمكان كما قدمه آينشتاين في نظريته النسبية العامة بينما عاملته فيزياء الكموم باعتباره تركيبة أو كينونة رياضياتية، بعبارة أخرى عرض حالة الصراع بين اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر بين دعامتي الفيزياء المعاصرة ألا وهما النسبية العامة وميكانيك الكموم. وهل الفضاء الخارجي محدود أم لامتناهي وكيف يدرك البشر سيرورة الكون المرئي وهل بإمكانهم استيعاب أطروحة الأكوان المتوازية ونظرية العوالم المتعددة؟ ماذا يوجد وراء أفقنا الكوني وأين تختفي 95% من مكونات الكون المرئي لأننا لانعرف سوى 5% من الكون الذي نعيش فيه؟ يأخذنا الباحث في رحلة داخل الكون المرئي من التفرد أو الفرادة الكونية اللامتناهية في الصغر إلى الكون الماكروسكوبي المرئي باعتباره جسيم أولي صغير ضمن نطاق الكون المطلق لمواجهة اللانهاية في ما وراء الأفق الكوني في الكون المرئي.

وسعي العلماء للعثور على النظرية الموحدة الجامعة والشاملة للكون المرئي، أو نظرية كل شيء، أي محاولة معرفة الواحد والمتعدد . وماذا لو كان الكون المرئي مجرد معلومة حاسوبية؟ أوبرنامج حاسوبي أو ماتريكس أي مصفوفة تتلاعب به كائنات عليا متفوقة تعيش في أكوان متطورة، أي أننا جزء من مكونات مصفوفة عملاقةــ ماتريكس بحجم الكون المرئي ــ؟ ويكرس الباحث فصلاً كاملاً لمعرفة هل الوجود الكوني واقع أم خيال، وهل هناك كون واحد أم عدد لانهائي من الأكوان، وماهو سر الحياة في الكون؟ وماهي حقيقة الثقوب السوداء، هل هي حقيقة فيزيائية أم وهم افتراضي كما يعتقد بعض العلماء؟ وأخيراً يبقى الكون المرئي صامد أمام ألغازه. فما يزال الكون المرئي متخماً بالألغاز والغموض على الرغم من التقدم العلمي والتكنولوجي في مجال الرصد والمشاهدة والتلسكوبات المتطورة والمسابير التي تجول في أنحاء الفضاء الرحبة واكتشاف القوانين العلمية الجوهرية التي تسير الكون المرئي وتتيح لنا إمكانية فهمه وسبر أغواره وكشف أسراره. فالأسرار الكونية مستمرة في استفزاز أرقى العقول العلمية التي تبحث في المادة والطاقة، والمكان والزمان، والأصل والمصير، فهل هذا الكون وحيد لا يوجد غيره في الوجود؟ وهل نحن وحيدون فيه كنوع عاقل وذكي حي؟ هل هناك فعلاً فرادة كونية نجم عنها حدث الانفجار العظيم البغ بانغ؟ وهل هناك شيء ما قبله؟ ما هو سر الزمن؟ هذه وغيرها من التساؤلات الكثيرة التي تعرض لها الكاتب في مؤلفات سابقة له ويحاول أن يستكمل البحث فيها في هذا الكتاب الجديد.

في هذا الكون المرئي الذي نعيش فيها وندرسه الآن، هناك أجرام وأجسام مختلفة ومتنوعة تحمل أسماءً لم تألفها أسماعنا من قبيل: الكوازارات، والبوليسارات، والثقوب السوداء، والثقوب البيضاء، والثقوب الدودية، والمسعارات الكبيرة، والمسعارات الهائلة، السوبر نوفا والهيبر نوفا، والنجوم الحمراء والبنية والبيضاء والصفراء، أو الأقزام البنية والحمراء والبيضاء، والأغبرة والغازات النجمية وما بين النجمية، والمجرات والحشود أو العناقيد المجرّية، والنجوم والكواكب والأقمار، والنيازك والمذنبات، المحتويات ومضاداتها، الفرادة والتعددية الخ.

فالنجوم ككل شيء في الكون المرئي، تولد وتنمو وتموت، وهذا أمر بات في حكم المؤكد اليوم. وتمر بمراحل من التشكل والولادة والتطور وأخيراً الاختفاء لكنها ليست النهاية في واقع الأمر بل بداية لحياة جديدة وولادة جديدة لنجوم جديدة وملحقاتها من كواكب وأقمار وحياة وحضارات كونية قد تكون متطورة علمياً وتكنولوجياً ومتفوقة علينا بملايين السنين.
كان الفضاء الخارجي والكون المرئي ومحتوياته المنظورة والمرصودة هو الذي يشغل عالم ما فوق الذرة أي عالم اللامتناهي في الكبر، الذي تعاملت معه من كافة جوانبه، نظرية النسبية لآينشتاين، ولكن عندما نقول اللامتناهي في الصغر فهذا يعني أننا ملزمون بالحديث أولاً عن العلم الذي يتعامل مع هذا المفهوم، وهو فيزياء الكوانتوم أو ميكانيكا الكموم، وهناك قلة من العلماء من تفهموا في بدايات القرن الماضي أسرار هذا العلم وما يترتب عليها من تغيرات في الرؤية العلمية للكون والمادة والطاقة وإعادة النظر في المسلمات العلمية السائدة، وخاصة رؤيتنا للواقع.

لغز الأصل والبداية:

هذا هو واقع الحال العلمي اليوم الذي يروي لنا حكاية صدور وظهور أو ولادة كوننا المرئي كما طرحه الكتاب. فمسألة كيف نشأ الكون ومتى ولماذا وأين كانت وستبقى من أكثر الألغاز الكونية غموضاً وسحراً وجاذبية ولم يظهر حتى يومنا هذا تفسير علمي كامل وشافي عدا نظرية الانفجار العظيم أو الكبير البغ بانغ الذي لا يعرف أحد كيف حدث ولماذا وما هي حقيقته وماهيته وماذا كان يوجد قبله وكل ما نعرفه عنه بفضل نسبية آينشتاين وفيزياء الجسيمات الأولية أو ميكانيك الكوانتوم أو الكموم هو أن المكان والزمان والمادة كما نعرفها بدأوا مع هذا الحدث الكوني الفريد من نوعه بالنسبة لنا نحن البشر.

فآخر الدراسات العلمية حول النماذج الكونية الممكنة، والتوسع والتمدد الكونيين، والتضخم الكوني الكبير، والموجات الثقالية، والخلفية الإشعاعية الأحفورية المنتشرة، وبوزونات هيغز،، والتعدد الكوني، كلها جاءت لتؤكد صحة ومصداقية وصلاحية هذه الفرضية أي نظرية الانفجار العظيم. وبالتالي هناك تنويعات وفرضيات أخرى تستحق التمعن فيها ودراستها بعمق خاصة فيما يتعلق بمسألة الأصل والبداية، مثل نظرية الأوتار الفائقة المتعددة الأبعاد، والإمكانية الكامنة بوجود عدة عوالم وعدة أكوان، وفرضية الأكوان المتوازية، والتي تتحدث عن عدد لانهائي من الأكوان المستقلة عن بعضها البعض، داخل تكوين لامتناهي الأبعاد، أبدي وأزلي وسرمدي، ليس له بداية ولا نهاية ممكنة و لا حدود، حي ومطلق وكلّي، دائم الخلق والتطور الذاتي الداخلي، وكل واحد من مكوناته أو محتوياته من الأكوان المنفردة فيه، له خصوصياته وميزاته وقوانينه الفيزيائية الجوهرية، وثوابته الرياضياتية، وفي هذا الأفق فإن كوننا المرئي لا يمثل سوى جسيم أولي صغير أو لامتناهي في الصغر كحبة رمل في صحاري وشواطئ كواكب الكون المرئي برمتها، من بين مليارات المليارات المليارات المليارات من الأكوان، حيث لكل واحد منها زمنه الخاص كما لكوننا المرئي زمنه الخاص الذي بدأ افتراضياً مع حدث الانفجار العظيم كفرادة كونية قد تكون قد تكررت إلى ما لانهاية مع الأكوان الأخرى، قبل وبعد فرادتنا الكونية التي أوجدت كوننا المرئي.

وفي كوننا المرئي أو المنظور والقابل للرصد، توجد ملايين المليارات من المجرات التي يفترض أنها لها نظيرها أو أمثالها في الأكوان الأخرى الموازية أو المجاورة أو المتداخلة مع كوننا المرئي، وفي كل مجرة، مثل مجرتنا درب التبانة أو الطريق اللبني، توجد مئات المليارات من النجوم على غرار نجمنا المسمى الشمس وهو من النوع المتوسط وهناك ما هو أصغر منه أو أكبر بكثير، وفي المساحات والفضاءات الكائنة بينها في مسافات لا يتصورها العقل البشري توجد غازات وأغبرة كونية تتماسك فيما بينها بفعل الجاذبية الكونية أو الثقالة. وهناك عدد كبير وتنوع مثير من المجرات حسب شكلها وحجمها. فهناك المجرات الحلزونية أو اللولبية spirales، وهي الأكثر عدداً وتحتوي على كم هائل من الغازات وقرص مركزي شديد الكثافة وهي تدور حول نفسها حيث توجد نجوم شابة أو قيد الولادة إلى جانب نجوم شائخة أو على وشك الموت والانقراض. وهناك المجرات بيضاوية الشكل أو الإهليجية elliptiquesوأغلب نجومها هي من النجوم العجوزة وتحتوي على كميات أقل من الغازات الكونية والأغبرة الكونية، وهناك المجرات غير المنتظمة irrégulières وذات الأحجام العادية المتواضعة مقارنة بالمجرات الأخرى إلا أنها غنية بالنجوم الفتية أو حديثة الولادة. والحال إن مجرتنا درب التبانة أو الطريق اللبني هي من النوع الحلزوني وتضم داخلها أكثر من 200 مليار نجم ويفترض أن لكثير من هذه النجوم نظام شمسي على غرار نظامنا الشمسي الذي يحتوي على عدد من الكواكب الصخرية أو الغازية متفاوتة الأحجام والأعمار وتقع على امتداد 100000 سنة ضوئية وإن ما هو منظور منها يتحدد بــ 1000 إلى 3000 سنة ضوئية القابلة للرصد والمشاهدة بالتلسكوبات الحديثة المتطورة، والسنة الضوئية هي ما يقطعه الضوء بسرعة 300000 كلم/ثانية لمدة سنة من سنواتنا الأرضية. ويقع نظامنا الشمسي في أحد الأذرع الجانبية على أطراف المجرة أو ضواحيها، ويعتقد علماء الفلك والفيزياء الفلكية أن تصادم المجرات هي ظواهر أساسية وحتمية لظهور الحياة لأن التصادم الكوني الجبار فيما بينها يولد نجوم من نوع خاص خصبة من ميزاتها توليد كميات مهولة من الأوكسجين الضروري للحياة البشرية.

داخل كل مجرة هناك ما يعرف بالنظام الشمسي على غرار نظامنا، وهي منتشرة في كل أركان الكون المرئي أو المنظور والمرصود، حيث تتواجد المادة والغازات المتفاعلة، وفي بعض المناطق من المجرة تتركز المادة وتتصادم وتتفاعل لتشكل نوعاً من السدم أو الغماماتnébuleuses، بفعل تواجد الأغبرة والغيوم والغازات ما بين النجمية. وحسب آخر الحسابات الفلكية والكوسمولوجية، فإن نظامنا الشمسي ولد قبل 4.5 مليار سنة من إحدى تلك السدم البدائية بفعل تفاعلات نجمت ربما بتأثير إحدى إنفجارات المسعار الكبير السوبرنوفا حيث انهارت إحدى السدم على نفسها لتشكل قرصاً مركزياً يدور حول نفسه في تسارع مستمر أكثر فأكثر وفي قلبه تكون الحرارة وشدة الضغط والكثافة هائلة إلى درجة أدت إلى تشكيل نجمنا المسمى الشمس. وأثناء تشكلها لم تستهلك شمسنا كل المادة الأساسية التي تضمها فالمادة المتبقية خضعت للحقل الثقالي الشمسي ودخلت فيما بينها في تصادمات جبارة أدت إلى تشكل كويكبات تضخمت تدريجياً مع الوقت لتصبح كواكب هي التي نشاهدها في نظامنا الشمسي الذي نعرفه اليوم مع ملحقاتها من الأقمار، فبعضها صخري telluriques، كعطارد وفينوس أو الزهرة والأرض والمريخ، والبعض الآخر غازية، كالمشتري وزحل وأورانوس ونبتون وبلوتون، وهناك بين المريخ والمشتري حزام من الكويكبات التي تشكل الحد الفاصل بين الكواكب الصخرية والكواكب الغازية، وفيما وراء بلوتون هناك حزام آخر من الكويكبات الذي يشكل الحد الفاصل بين نظامنا الشمسي وما يأتي بعده، علماً بأن علماء الفلك والكونيات نزعوا صفة الكوكب من بلوتون واعتبروه كويكب لصغر حجمه فيما اعتبره آخرون كوكباً بمعنى الكلمة.
هل وجد الكون بفعل ولادة ذاتية عفوية أم بعملية خلق إلهية، أي هل هو مخلوق أم أزلي؟:

وتناول الكتاب الاكتشافات الكوسمولوجية الكونية الحديثة والأجهزة المتطورة والتقدم التكنولوجي الهائل الذي سمح للعلماء بالذهاب أبعد فأبعد في رحلة الزمن والغوص في الماضي السحيق إلى مايقارب بضعة أجزاء من مليارا المليار المليار من الثانية بعد حدوث الانفجار العظيم واللحظات الأولى في حياة الكون المرئي.

واليوم يتوجه تياران علميان بخصوص أصل المادة. فبعض الباحثين والعلماء يعتقدون أن ولادة الكون المرئي هي ثمرة لخلق ذاتي عفوي، في حين يعتقد البعض الآخر أن الولادة الكونية قد تم تنظيمها من قبل قوة مهيمنة عليا متفوقة وبارزة هي التي تتحكم بكل شيء وتنظم كل شيء، من اللامتناهي في الصغر إلى اللامتناهي في الكبر. فمنذ بضعة عقود تقدمت الأبحاث والتجارب العلمية في مجال علم الفلك والفيزياء الفلكية والفيزياء النظرية وبخطوات عملاقة حققت إنجازات ونتائج باهرة. فالأجيال الجديدة من المراصد والتلسكوبات الأرضية والفضائية ومركبات التقصي الفضائية والمسبارات المتقنة والمتطورة أكثر فأكثر والتي أرسلت إلى الفضاء الخارجي، أتاحت للعلماء اليوم فرصة دراسة الكون المرئي على نحو أكثر دقة. وكان أحد أهم أهداف العلماء هو اختراق الزمن والعودة إلى الماضي السحيق للكون المرئي بغية الاقتراب أكثر ما يمكن من لحظة الانفجار العظيم البغ بانغ الذي يفترض أنه كان وراء ولادة الكون المنظور الذي نعرفه وندرسه ونعيش فيه. فبدراسة وتحليل مكونات الكون البدائية الأولية في الدقائق الأولى لنشأة الكون، سيكون بوسع الخبراء والمختصين فهم الآليات الخارقة والميكانيكيات المذهلة الفاعلة التي قادت إلى هذه الولادة الكونية الغامضة جداً واللغزية دوماً.

ومهما كان الأمر فإن المعطيات الأخيرة التي أخضعت للدرس والتحليل والحسابات الرياضياتية من قبل علماء الفيزياء والرياضيات وعلماء الفلك تلمح إلى أن القوى المهولة التي تحررت وانطلقت مباشرة بعد الانفجار العظيم كانت تخضع لقوانين فيزيائية غاية في الدقة والانضباط. ففي الثواني الأولى يبدو أن كل شيء كان معداً ومفكراً به ومحسوباً بدقة متناهية ومنظماً على نحو يتخطى القدرة الإدراكية البشرية. ولو كان هناك أي تعديل، مهما قل شأنه وصغرت قيمته، واختلف مع القوانين المحركة للكون في بداياته الأولى والمكتشفة علمياً، لكان من المستحيل أن تتشكل النجوم والكواكب والأنظمة الشمسية ولجعل من الخيالي التفكير بظهور الحياة التي نعرفها. وإزاء هذه الحقيقة والتشخيص، رأى عدد من العلماء في ولادة الكون على هذا النحو علامة على وجود مبدأ خالق وراء الفعل الولادي.

فحسب أقوال هؤلاء العلماء، فإن هذا الضبط الفائق التصور للإعدادات والعوامل الفيزيائية اللازمة لحظة حدوث الانفجار العظيم، لا يمكن أن يكون ثمرة للصدفة، بل لا بد من وجود قوة عظمى ما وراء ذلك هي المسؤولة عن هذه النشأة ولم يتردد البعض في تسميتها بأنها الله. فهو خالق أو مهندس أو عالم رياضيات خارق كلي العلم هو الذي أعد وضبط كل هذا العدد من الثوابت الرياضية والفيزيائية والمعادلات الحسابية السماوية أو الكونية التي تتصف بالدهاء والنقاوة والتي من شأنها جعل الكون المرئي قابلاً للتطور إلى الوضع الذي هو عليه الآن والذي نعرفه علمياً اليوم أي من نقطة البداية البدائية إلى ما يقرب الكمال. ومن الملفت للانتباه أن عدد من العلماء ممن درسوا الانفجار العظيم وتعمقوا فيه ينتمون لهذه المدرسة الفكرية، بدءاً من بول ديفيز ومروراً بمكتشفي الإشعاع الحراري الكوسمولوجي عالم الفيزياء آرنو آلان بنزياس Arno Allan Penzias المولود سنة 1933 والذي حاز مع زميله العالم روبرت وودرو ويلسون Robert Woodrow Wilson على جائزة نوبل للفيزياء سنة 1978 على اكتشافهما للأشعة الخلفية الأحفورية الكونية المنتشرة التي أحدثت ثورة في مجال البحث العلمي في الفيزياء المعاصرة خاصة حول الانفجار العظيم ودوره وآثاره، حيث إن هذه الأشعة الأحفورية الميكروية الغارقة في القدم تعطي فكرة واضحة عن الكون كما كان عليه حاله بزمن قصير جداً بعد انبثاقه عقب الانفجار العظيم أي حوالي 380000 سنة بعد البغ بانغ، والحال إن هذه الأشعة الأحفورية الكونية الخلفية المنتشرة تظهر تنوعاً طفيفاً في درجة الحرارة والكثافة حسب الاتجاه مما يتيح لنا الحصول على كم هائل من المعلومات عن الكون الفتي وعن محتوياته السابقة واللاحقة والحالية. ولم يخف بنزياس رؤيته الكوسمولوجية التي تستند على فكرة وجود مبدأ خالق يتجاوز مداركنا. فعلم الفلك يقودنا إلى حدث خارق فريد من نوعه وهو كون خلق من لاشيء، وهو كون يتميز بتوازن مذهل ومثالي تام في قوانينه الفيزيائية التي تقود حتماً إلى ظهور الحياة تعبيراً عن إرادة خفية ضمنية وكامنة أو خارقة للطبيعة على حد تعبيره.

انفجار عظيم ينطوي على مفاهيم صوفية غامضة:

تطرق الكتاب للتطور التاريخي لفكرة نشوء الكون منذ القرن السابع عشر ومحاكمة غاليلوغاليله من قبل محاكم التفتيش سيئة الصيت التابعة للكنيسة الكاثوليكية، حيث اشتدت المعركة بين، الرؤية العلمية البراغماتية العقلانية المادية، والرؤية الدينية الغيبية الخرافية، بشأن ولادة الكون وأصله ونشأته وتطوره. حتى إن بعض العلماء وجد في حدث الانفجار العظيم آثراً أو علامة على وجود خالق قدير وضعت له عدة أسماء ومواصفات. فعالم كونيات مثل جورج إليسGeorge Ellis، حاصل على جائزة تمبلتون سنة 2004، يعتقد أن مثل هذا الضبط الدقيقة للغاية لقوانين الكون المرئي يشبه الإعجاز ويقول بهذا الصدد:” إن حالة نظام وضبط مذهلة نجمت أو نتجت في قوانين الكون المرئي، جعلت ظهور الحياة ممكناً. وبعد أن تحقق ذلك بات من الصعب عدم استخدام مفردة المعجزة دون أخذ موقف بشأن الوضع الأنطولوجي الوجودي للعالم”.

وهناك بالطبع عالم الفيزياء الأمريكي الشهير جورج سموت George Smoot، المختص بالكونيات والفيزياء الفلكية، والحائز على جائزة نوبل للفيزياء سنة 2006 (مشاركة مع العالم جون ماذرJohn c. Mather )، لاكتشافهما طبيعة الجسم الأسود والتباين anisotoropie في الخلفية الإشعاعية الكونية الأحفورية المنتشرة. وكان هو الذي نطق بهذه العبارة الشهيرة “كأنني أرى وجه الله” التي أحدثت ضجة في الأوساط العلمية، والتي نطق بها سنة 1992 بعد أن شاهد أقدم وأكبر بنية للكون البدائي بعد مرور 380000 سنة على الانفجار العظيم البغ بانغ: “إن ما هو معروض أمامنا هو البذور الأولية للبنى الكونية الحالية والتي نعرفها كالمجرات وحشود وأكداس وعناقيد المجرات. إنها الطيات في نسيج الزمكان الباقية منذ فترة الخلق. فبالنسبة للذهنية الدينية فإن الأمر هو كما لو إنها ترى وجه الله”.

أما الصيغة المعاصرة لمثل هذا الموقف والمفهوم الكوسمولوجي فلم يتوقف الأخوة بوغدانوف عن ترديده في كتبهما وتكراره بالتفصيل لإبراز فكرة بأن مجمل القوانين الفيزيائية التي تدير الكون المرئي وتسيره بما فيها الحياة والطبيعة قد تمت على يد خالق مجهول الهوية. وفي كتابهما “الله والعلم” الذي ألفاه بالاشتراك مع الفيلسوف الفرنسي جون غويتونjean Guitton، أكدا بأن من الممكن تناول الكون والتعاطي معه باعتباره بمثابة رسالة معبرة في شفرة مرمزة سرية، نوع من الكتابة الهيروغليفية الكونية التي بدأنا بالكاد بفك رموزها” إن هذه الشفرة الرياضياتية التي صاغها عقل رياضي ومهندس مجهول مدونة في نسيج أو لحمة الكون الأولي أو البدائي، كما يقول الأخوة بوغدانوف ويواصلان القول بأن مصير الكون في مليارات المليارات من السنين القادمة يبدو أنه مسجل على نحو مشفر مسبقاً في الإشعاعات الأولى الأصلية. إن هذه الرؤية في الحتمية الكونية الصلبة، طورها العالمان الأخوة بوغدانوف في كتبهما اللاحقة.

ففي كتاب “وجه الله”تتلخص فرضيتهما بأنه في اللحظة صفر من الانفجار العظيم، فإن كل المعلومات اللازمة والضرورية لولادة الكون وتطوره كانت موجودة ومسجلة على شكل معلومات رقمية، غمامة من الأرقام والأعداد الرياضياتية دبت فيها الحياة فجأة مع الطاقة الهائلة المتولدة إثر ذلك من جراء الانفجار الأولي البدئي. كما هو الحال مع الشفرة الوراثية عند الكائن البشري والتي تمنحه الميول الدقيقة والصفات والملامح الوراثية منذ الولادة، وبالتالي يفترض الأخوة بوغدانوف وجود كود أو شفرة كونية مماثلة أولية تختزن وتضم كافة القوانين الفيزيائية التي ينبني عليها الواقع على غرار المعلومات الرقمية المحفورة على قرص حاسوبي والذي لا يخرج للحياة والفعل على شكل موسيقى وصور وأفلام ومشاهد، إلا بعد إدخاله في جهاز قراءة الأقراص أو الحاسوب وتتحول المحتويات الموسيقية والفيلمية المشفرة على شكل رموز إلى واقع مسموع ومرئي وما أن ننتهي من هذه العملية يخرج القرص من بيته ويترك عالم الأصوات والصور والطاقة ليعود إلى العالم الرقمي حيث المعلومات تظل مخزونة ومحفورة فيه. بعبارة أخرى يمكن أن نطرح على أنفسنا السؤال: ماذا كان يوجد قبل حدث الانفجار العظيم؟ وهو يعادل سؤال ماذا كان يوجد في القرص الرقمي الحاسوبي قبل وضعه في الجهاز وتفعيله بواسطة الطاقة الكهربائية؟ على افتراض أننا نجهل ما يوجد في القرص من محتويات مشفرة رقمية سابقة. فالمحتويات موجودة لكنها على شكل شفرة ومعلومة رقمية.

الخلق الذاتي العفوي للكون المرئي:

يقول مؤلف الكتاب أنه بالرغم من التعقيد المذهل للكون عند لحظة طفولته المتلعثمة الأولى، فإن هناك عدد كبير من العلماء من يدافعون عن فرضية أخرى مغايرة ومناقضة تماماً لفرضية الخلق الرباني، وهي فرضية لا تسمح بتدخل خارجي خارق من قبل كينونة فائقة متعالية.فبالنسبة لهذه المدرسة من التفكير العلمي المحض، فإن ولادة الكون المرئي هو حدث طبيعي تماماً ومستقل، أي حدث ذاتي عفوي. فمنذ أجزاء الثانية الأولى للانفجار العظيم كانت دفقات البلازما الساخنة الأولى للكون الوليد قد شكلت نوى ذرات الهيدروجين، ومن ثم أعقب ذلك حدوث تفاعلات نووية متعاقبة بسرعة مهولة إعجازية. فخلقت كافة العناصر الأولية الجوهرية في بضعة دقائق. وبعد مرور 380000 سنة انبثقت أولى الذرات المادية المعروفة اليوم، وهذا الحدث من الضخامة والفرادة بمكان، فهو يتجاوز حدود إدراكنا واستيعابنا وفهمنا البشري البدائي فهل يتطلب ذلك أن نرى ضرورة وجود مبدأ أعلى أو كينونة خارقة وخالقة؟كلا بالطبع، هكذا يجيب العلماء المدافعين عن الفرضية المضادة لفرضية الخلق الرباني.

تزعم العالم البريطاني الفذ ستيفن هوكينغ Stephen Hawking، تيار دعاة الخلق الذاتي العفوي للكون المرئي، وأعرب عن ذلك بصراحة في كتابه “التصميم العظيم، هل هناك مهندس كبير في الكون؟” Y a-t-il un grand architecte dans l’Univers ?، وأكد في كتابه المهم هذا أن الكون ليس بحاجة لأية مساعدة خارجية ولا لأي تدخل إلهي ليولد ويتطور. ويستند بذلك على مبدأ الحتمية الكونية، déterminisme cosmique، بفعل قانون الثقالة أو الجاذبية الكونية الشامل، يمكن للكون المرئي أن يلد نفسه بنفسه انطلاقا من لا شيء، أي عملية الخلق الذاتي العفوي. وتعزى هذه الفكرة بالأساس للعالم الفرنسي لابلاس Laplace 1749-1827، صاحب مبدأ الحتمية الكونية. وكان قد صاغ كتاباً مهماً عن قصة الكون لنابليون، وسأله الامبراطور الفرنسي بعد أن أشاد بأهمية المؤلف وكتابه:”لكنني لم أجد الله في كتابك هذا” فرد عليه لابلاس “يا سيدي الله مجرد فرضية لا حاجة بي إليها في رؤيتي للكون وقصته وتاريخه وتطوره”. فلو عرفنا حالة الكون في أية لحظة معينة في الحاضر، عندها سيكون كلاً من مستقبله وماضيه حتميين علمياً ومقررين بفعل القوانين الفيزيائية. وهذا الأمر يستبعد أية إمكانية لحدوث معجزة أو تدخل إلهي.

ويجدر بنا القول إن هذا الرأي يمثل جوهر وأساس نمط ومنطق التفكير العلمي في كافة العلوم الحديثة والمعاصرة وأحد أهم الأسس والغايات التي ينطوي عليها كتاب ستيفن هوكينغ. فأي قانون علمي لن يكون قانوناً و لا علمياً إذا كان مرهوناً بإرادة وتدخل إلهي وتنزع عنه هذه الصفة بغياب العلة الأولية. ولكن كيف يفسر ستيفن هوكينغ دقة وتنظيم القوانين الفيزيائية الموجودة منذ اللحظات الأولى لولادة الكون المرئي؟ يجيب ستيفن هوكينغ على ذلك ببساطة هي أن كوننا المرئي ليس سوى واحد من بين عدد لا نهائي من الأكوان. فقبوله ودعمه لفرضية تعدد العوالم أو نظرية الأكوان المتعددة ـ عدد لا متناهي من الأكوان المتوازية والمتداخلة التي يوجد لكل واحد منها قوانينه الفيزيائية الخاصة عندها لا يمكن طرح مشكلة الاحتمالية والصدفة. وعند ذلك لا يجب اعتبار الانفجار العظيم كحدث كوني فريد من نوعه ووحيد أنجب كوناً مثالياً وحيداً، وإنما كحدث عادي مبتذل يحدث في كل لحظة مثله بأعداد لا متناهية في كل مكان وزمان، وبالنسبة لكوننا المرئي فإن حدث الانفجار العظيم ليس سوى حدث كوانتي أو كمومي événement quantique عفوي استنفذ كافة السيناريوهات الممكنة عند ولادته ليقع على السيناريو الذي نعرفه بقوانين الفيزيائية الجوهرية الملائمة له.

وعن الانفجار العظيم قد تنبث أكوان لا تعيش أو تستمر أوتنهار في الثواني الأولى من ولادتها وبعضها يستمر بضعة دقائق فيما يتطور البعض الآخر من العوالم على مدى بضعة مليارات من السنين، وهناك من بين هذه الأكوان المحظوظة، ككوننا المرئي، من له قوانين تسيره وتمده بالحياة تشبه أو تختلف عن قوانين كوننا المرئي، لذلك فإن أنواع الحياة في الأكوان الأخرى قد تكون مشابهة للحياة في كوننا أو مغايرة ومختلفة عنها تماماً، لا تستند على عنصر الكاربون والبروتين والأوكسجين وغير ذلك. لذلك فإن ظهور عالمنا أو كوننا المرئي ليس حالة شاذة فريدة من نوعها ووحيدة، بل صاحبته حالات لا تعد ولا تحصى، وكم لا نهائي من الاحتمالات ليس كوننا المرئي سوى واحدة منها أي إن الأمر بمثابة لعبة اللوتو أو اليانصيب الكونية.

وهكذا فإن نظرية تعدد الأكوان multivers اعتبرها الباحثون المعاصرون، لا سيما جيل الشباب منهم، في النصف الثاني من القرن العشرين والعقدين الأولين من القران الواحد والعشرين، التفسير المنطقي المقبول والوثيق الصلة بولادة كوننا المرئي. ولقد وضح ذلك ستيفن هوكينغ في كتابه التصميم العظيم في فصل حمل عنوان النظرية أم M-Théorie، والتي عرفت إعلامياً بنظرية كل شيء Théorie du Tout، وهناك الكثير من المرشحين المدعين حمل لواء نظرية كل شيء أو النظرية القصوى التي تجمع بين نسبية آينشتين وميكانيك الكموم أو الكوانتوم. ومن شأنها أن تقدم الأجوبة على كافة التساؤلات المهمة والجوهرية لا سيما سؤال الأصل وعملية الخلق والولادة لكوننا المرئي. فبالنسبة لهذه النظرية فإن كوننا المرئي، ليس فقط كونه ليس وحيداً فحسب، بل إن كثير من الأكوان الأخرى غيره انبثقت من لاشيء، وهو ليس اللاشيء الذي نعرفه نحن البشر العاديين، وإنما هو مفهوم آخر تطرق له المؤلف في كتابه بالتفصيل. أي أنها ظهرت من دون تدخل من قبل كائن علوي خارق، أو إله ديني غامض.

إن هذه الأكوان المتعددة تستمد وجودها على نحو طبيعي من القوانين الفيزيائية وتمثل توقعات علمية. فلكل كون منها عدة قصص وتواريخ ممكنة ويمكن أن يحتل عدداً من الحالات المتنوعة بعد مدة طويلة من ولادته، وحتى إلى يومنا هذا. والحال أن الكثير من تلك الحالات لا تشبه في شيء الكون الذي نعرفه ونعيش فيه اليوم وهي حالات قد لا تحتوي على حياة في داخلها أو على حياة من نوع مختلف عن الحياة التي نعرفها. البعض من هذه الأكوان يتيح إمكانية ظهور حياة عاقلة فيه قد تكون شبيهة بحياتنا وظهور كائنات تشبهنا. وفي نطاق هذه الأكوان العديدة، فقط نختار ما هو ملائم ومتوافق مع وجودنا. ورغم ضآلتنا وتفاهتنا بالنسبة لعظمة كوننا المرئي أصبحنا في عداد أسياد عملية الخلق. هناك بالطبع كائنات متنوعة ومختلفة ومتباينة في درجة تطورها زمنياً وتكنولوجياً يزدحم بها كوننا المرئي في كافة المجرات التي يصل عددها إلى مئات المليارات، وداخل مجرتنا درب التبانة التي تضم00 2 مليار مجرة على أقل تقدير،وفي كل نجم تقريباً هنا نظام شمسي وكواكب تدور حول النجم وأقمار ملحقة بالكواكب على غرار نظامنا الشمس الذي يحتضن حضارتنا البشرية. حاول علماء الفلك والفيزياء الفلكية تقديم بعض الإجابات الأنيقة ثقافياً وفكرياً لمسألة بداية الزمن الحساسة، التي قد تعني أو تنطوي على مفهوم عملية الخلق الأولي الأصلي.

يرتأى العالم ستيفن هوكينغ أن نعيد النظر في مفهومنا للزمن للإجابة على هذا التساؤل على حافة أو حدود العلم والفلسفة والميتافيزيقيا. ويلجأ في ذلك إلى الميكانيك الكمومي أو الكوانتي. فكما إن النسبية وحدت بين المكان والزمان، في كينونة واحدة أسمتها الزمكان espace-temps، ما يزال الزمان يتصرف بمعزل عن المكان ويتميز عنه بالنسبة لنا نحن البشر، فإما أن يكون له بداية أو هو موجود منذ الأزل دائماً. ولكن ما أن ندخل التأثيرات الكمومية أو الكوانتية في النظرية النسبية، ففي بعض الأحيان الحرجة أو الشاذة، يكون الالتواء والتحدب أو الإنحناء من الحدة بمكان يجعل الزمان يتصرف كأنه بعد مكاني إضافي رابع للأبعاد المكانية الثلاثة المعروفة. ففي الكون المرئي البدائي بكثافته الهائلة حيث كان يدار في آن واحد من قبل قوانين النسبية العامة والكوانتوم أو الفيزياء الكمومية التي كانت تتعايش جنباً إلى جنب حيث كان يوجد أربعة أبعاد للمكان ولا يوجد الزمن الذي نعرفه الآن. وهذا يعني أننا إذا تحدثنا عن “البداية” للكون المرئي فنحن نقوم بتمليص وتفليس مشكلة عويصة ودقيقة. فمفهومنا وفهمنا للزمان والمكان، كما هما الآن، لا ينطبق على الحالة البدائية الأولى للكون لأن الزمن الذي نعرفه اليوم لم يكن موجوداً على هيئته الحالية آنذاك. وقد يفلت ذلك عن مستوى فهمنا وإدراكنا المألوف لكنه لا يجب أن يغيب عن مخيلتنا ولا عن رياضياتنا.

وفي كل الأحوال، لو تصرفت الأبعاد الأربعة في ذلك الكون المرئي الوليد باعتبارها أبعاد مكانية فماذا سيكون الأمر بالنسبة لبداية الزمن؟ يقول ستيفن هوكينغ أننا لو جمعنا بين النسبية العامة وفيزياء الكموم أو الكوانتوم فإن مسألة ماذا كان يوجد قبل بداية الكون سيكون لا معنى لها أو تفقد معناه كلياً. فلو فهمنا وأدركنا أن الزمن يتصرف كمكان فسوف يتيح لنا ذلك أن نقترح رؤية بديلة حيث سيزيح ذلك أي اعتراض أشيب بخصوص بداية الكون المرئي وبداية الزمان، والاعتماد كلياً على قوانين الفيزياء دون اللجوء إلى أية قوة إلهية غيبية. فالكون البدئي خضع لعدة احتمالات من التطور والتوسع والتمدد على عكس ما نتصوره ونعتقده ولم يقم باختيار وحيد أدى إلى إيجاد الكون الذي نعرفه اليوم، بل إن الكون البدائي جرب، حسب ستيفن هوكينغ، عدة سيناريوهات وسلك عدة طرق مختلفة بعضها توقف فجأة واختفى في العدم والآخر ثابر قليلاً ثم انهار والبعض الثالث استمر متخذاً عدة أشكال فيزيائية ليس كوننا المرئي الحالي سوى واحداً منها. بينما يعتقد الأخوة بوغدانوف أن هناك زمن ما قبل الانفجار العظيم سمياه بالزمن المركب والزمن الخيالي ويحسب بأعداد مركبة وخيالية وليس الأعداد والأرقام التي نعرفها.أما زمن كوننا المرئي فهو نسبي، بدأ مع لحظة الانفجار العظيم وهناك زمن مطلق هو زمن الكون المطلق الذي يضم العدد اللانهائي من الأكوان والذي لا بداية له ولا نهاية فهو أزلي أبدي سرمدي وهو الوجود ذاته ولا شيء موجود سواه.

إذن فالفرضية التي بوسعها أن تخرجنا من المأزق وتحل كافة التناقضات البادية ظاهرياً ومعضلة الجمع بين النسبية والكمومية وغيرها من الألغاز والمعضلات والأسرار الغامضة، والحل الذي يمكن أن يوفق بين المدرستين، مدرسة الخلق الذاتي والخلق الرباني،هي اعتبار أن الكون المرئي مجرد جسيم أولى على غرار جسيمات المادة الأولية في كوننا المرئي نفسه، ضمن عدد لانهائي من الجسيمات – الأكوان المكونة بدورها لمحتويات الكون المطلق الحي الدائم التطور وإعادة البناء إلى الأبد مثل الجسم البشري الذي فيه خلايا ومحتويات تتجدد كلما شاخ جزء منها ليعوض بخلايا جديدة فالأكوان الجسيمات تتفاعل فيما بينها لتنتج أكواناً جديدة باستمرار بطرق مختلف منها الانفجار العظيم الذي ولد كوننا وبالتأكيد هناك عدد لانهائي من الانفجارات العظيمة التي أدت إلى انبثاق أكوان جديدة لكل واحد منها ميزاته وخصائصه وقوانينه، ومثلما يحصل عند موت النجوم ومن جثثها تولد نجوم جديدة كما يحدث في كوننا المرئي فهي عملية مستمرة، وفي هذه الحالة يتم الاستعاضة عن الله الذي قدمته الأديان على نحو مشوه وقاصر وخرافي، بكون مطلق أو وجود مطلق لانهائي أبدي وأزلي وسرمدي لم يخلقه أحد وهو في حالة تطور ذاتي لمكوناته من الأكوان الجسيمات الأولية التي لها عمر محدد أي ولادة وتطور وشيخوخة وموت وولادة ثانية كما هو الحال في محتويات كل كون على حدة مثل كوننا المرئي وفي هذا الوجود المطلق لا يوجد زمن، أي ليس هناك ماضي أو مستقبل بل حاضر دائم فقط والزمن في الأكوان المتعددة هو نسبي له أشكال وماهيات مختلفة في كل كون- جسيم.

تصدت مختلف النظريات والنماذج الكونية أو الكوسمولوجية، لموضوع ولادة وتطور كوننا المرئي، وكان أكثرها شيوعاً في الأوساط العلمية المتخصصة هو نموذج البغ بانغ أو الانفجار العظيم. الذي وقع قبل نحو 13.8 مليار سنة حيث كانت هناك طبيعة مجهولة تسببت في عملية القدح التي أثارت عملية الخلق للكون المرئي وللمكان والزمان، لكن تعبير البغ بانغ يشمل رؤى مختلفة إذ توجد على الأقل ثلاث نظريات متنافسة تحت نفس الغطاء تقترح سيناريوهات متميزة وممكنة على الأرجح. كما أن هناك نماذج كوسمولوجية أخرى تطرح توجهات أخرى لتفكير جديد لشرح الأصل الحقيقي للكون المرئي.
نظرية الأكوان التوائم La théorie des Univers Jumeaux:

تجدر الإشارة هنا في ألأوساط العلمية الفلكية والفيزيائية الفرنسية، إلى النموذج الكوسمولوجي الكوني الثنائي القياس الذي صاغه وقدمه عالم الفيزياء الشهير جون بيير بتي Jean Pierre Petit، وهو مفهوم عرف بتسميته الشعبية الشائعة نظرية الأكوان التوائم. ويتعين علينا أن نتذكر كذلك أن فرضية وجود أكوان ثنائية “لكل كون توأم أو قرين ” قد طرحت سنة 1967 من قبل عالم الفيزياء السوفيتي أندريه زاخاروفAndreiSakharov، والمقصود به تقديم الكون على أنه مثل المرآة لكون آخر خفي، كون الظل، واللذان يتصلان ببعض فقط بواسطة الثقالة أو الجاذبية.

إن أتباع نظرية الأكوان التوائم، يركزون على حقيقة أن هذا النموذج الكوسمولوجي يفسر سبب الوجود الضعيف أو شبه الغائب للمادة المضادة في كوننا المرئي، في حين أنها كان يجب، من الناحية المنطقية، أن تتجاور وتتعايش بنسبة متساوية مع المادة المكونة لكوننا المرئي. وفي سياق افتراض وجود “كون ــ مرآة” لا ندركه و لا نشعر به، يمكننا أن نتخيل بأنه مكون في جزئه الأعظم من المادة المضادة كما تحدثت بذلك عدة كتب ومؤلفات منها كتاب جون بيير بتي المعنون:” لقد أضعنا أو فقدنا نصف الكون On a perdu la moitié de l’univers” وحاول العالم جون بيير بتي أن يشرح للجمهور العريض كيف يمكن أن يكون شكل ومظهر هذه المادة المضادة بالنسبة للمادة المألوفة في كوننا المرئي وهي المادة التوأم لمادة كوننا لكنها غير مرئية بالنسبة لنا نحن البشر وتشكل معظم مكونات الكون التوأم لكوننا المرئي أي الذي هو مرآة لكوننا المرئي. عن هذا الكوكب القرين يسلط تأثير ثقالي طارد أو نابذ على المادة من قبل مادة مضادة يمكن رصدها بالأشعة تحت الحمراء infrarouge.

ولا يوجد في الكون التوأم أي جرم سماوي والحياة فيه مستحيلة وهو مكون فقط من الهيدروجين والهليوم. ولقد لوحظ أن الوسط العلمي التقليدي لا يهضم فكرة وجود الكون التوأم أو الكون الموازي univers parallèle المماثل أو المناظر تماماً لكوننا ولكن بالمعكوس، ويرفضون الاعتراف بهذا النموذج لأنه يقدم رؤية مختلفة على نحو راديكالي متطرف للتطور الكوني ويعرض الكثير من المفاهيم المكرسة في النموذج المعياري للمراجعة والطعن، مثل ثبات سرعة الضوء ووجود مادة وطاقة سوداء أو مظلمة أو معتمة في الكون المرئي. ولا بد أن نذكر بأن العالم السوفيتي أندريه زاخاروف والعالم الفرنسي جون بيير بتي وغيرهم، تلقوا رسائل من جهة مجهولة تحتوي على معلومات علمية غاية في الدقة والجدية يُعتقد أنها من أناس جاءوا من كوكب خارج الأرض يسمى أومو وهم الأوميين، ووضعوا فيها محتويات نظرية الأكوان التوأم والأكوان الموازية التي استند عليها زاخاروف وبتي لصياغة نموذجيهما الكونيين.

مقاربة أخرى لأطروحة تعدد الأكوان Multivers

لم يكن هناك من مخرج للتخلص من تناقضات النموذج المعياري للكون البغ بانغ، وإمكانية التوصل إلى النظرية الموحدة النهائية التي سوف تجمع بين النسبية الآينشتينية والميكانيك الكمومي أو الكوانتوم، سوى العودة إلى فرضية تعدد الأكوان، فمنهم من يقول أن البغ بانغ أنجب كوننا المرئي وحده ولكن هناك عدد لا محدود من البغ بانغ الانفجارات العظيمة حثت وما زالت تحدث من الأبد وإلى الأزل، وهناك من يقول أن الانفجار العظيم أنجب عدد لا محدود من العوالم والأكوان وما يزال هذا الأمر يحدث في المناطق البعيدة جداً خارج الأفق الكوني لكوننا المرئي. فماذا لو كان كوننا المرئي حقاً واحد من بين عدد لا نهائي من الأكوان المستقلة عن بعضها البعض؟هذا هو المفهوم الذي اقترحه بعض العلماء وقالوا بوجود حيز مكاني لانهائي الأبعاد يكون هو الهيكيلية أو البنية التي تضم العدد اللانهائي من الأكوان التي يكون لكل واحد منها قوانينه الفيزيائية الخاصة به وثوابته الكونية. وبالتالي فإن كوننا المرئي، بشساعته الهائلة، ليس سوى ذرة غبار أو أصغر أي مجرد جسيم أولي داخل محيط كوني مطلق تكون باقي الأكوان فيه أيضاً مجرد جسيمات أولية مكونة له كما تكون الجسيمات الأولية كوننا المرئي.

وهناك العديد من النماذج للأكوان المتعددة، كل واحد منها يستند على نظرية فيزيائية علمية. أحدها تنبأت به وتوقعته فرضية التضخم الكوني المفاجئ والذي تحدث عنه العالم آندريه ليند ووصفه بأنه التضخم الدائم الأبدي والفوضوي inflation éternelle chaotique، وهو يعتقد أن الكون المطلق يتمدد برمته على نحو دائم وأزلي ولكن في بعض مناطقه، وبفعل تصادمات وتفاعلات، تحدث انفجارات عظيمة بغ بانغ، على غرار الانفجار العظيم في كوننا المرئي، تؤدي إلى انبثاق أكوان أخرى مشابهة أو مغايرة لكوننا المرئي، والأكوان الناجمة عن هذه العملية تتمدد بدورها وتتصادم مع غيرها مولدة انفجارات عظيمة أخرى وهكذا دواليك. وتحدث هذه العملية وتتكرر على نحو أبدي دائم ومستمر إلى ما لا نهاية داخل ما أسماه آندريه ليند الكون المتعدد الدولابي multivers – gigogne، قد تبدو هذه الرؤية ثمرة لخيال جامح لبعض العلماء، إلا أن التطورات الأخيرة التي شهدتها نظرية الأوتار الفائقة يمكن أن تعزز مثل هذه الرؤية المتجاوزة لكل الحدود الإدراكية للبشر.

كما يمكننا الحديث عن وجود الكون المتعدد الكمومي أو الكوانتي multivers quantique. عالم الفيزياء العبقري الراحل هيوغ إيفريتHugh Everett، اقترح نموذجاً لكون ينقسم إلى فرعين متمايزين في كل مرة يحدث فيها حدث كمومي أو كوانتي يؤدي إلى حدوث تراكب في الحالات،بتعبير آخر، في كل مرة يحدث فيها حدث كمومي أو كوانتي ينقسم الكون الجديد على نفسه إلى عدة نسخ، وكل واحد منها يضم في طياته واقعاً مغايراً للآخرين.

وعلى خلاف الكون المتعدد التضخمي، تمتلك عوالم هيوغ إيفريت المتعددة نفس القوانين الجوهرية ونفس البنى الرئيسية الكبرى لأنها كلها ولدت من رحم الكون المطلق الأساسي وورثت عنه نفس الخصائص الفيزيائية caractéristiques physiques، ومن هنا فإن جميع السيناريوهات الممكنة يمكن أن تحدث بمعنى أوضح، إن الفرد في الكون أ يكون طبيباً، لكنه في الكون ب قد يكون ضابطاً وفي آخر مهندساً وفي رابع يكون مجرماً الخ..

يصيغ علماء آخرون إمكانية وجود كون متعدد ذو ميزات أو خصائص رياضياتيةpropriétés mathématiques، ويلجأون لمعطيات نظرية الأوتار، وتقول هذه النظرية أنه يوجد، إلى جانب الأبعاد المكانية الثلاثة التقليدية والبعد الزماني الرابع في الكون المرئي العادي الذي نعيش فيه، هناك تسعة أبعاد أخرى إضافية لكننا لا نراها لأنها في غاية الصغر ومطوية على نفسها في المستوى الميكروسكوبي المجهري لكنها ضرورية ولا غنى عنها للنظرية، ولا أحد يفهم لحد الآن لماذا تكون هذه الأبعاد الإضافية مطوية على نفسها، ولكن يمكننا أن نتخيل أكوان أخرى مكونة من عدد متعدد من الأبعاد المكانية أو الزمانية المطويةdépliées، ويقر العلماء أن هذا المجموع من البنى الرياضياتية الممكنة من فضائله الأساسية أنه يشرح على نحو راديكالي ما أسماه العالم الحائز على جائزة نوبل للفيزياء أوجين فاينرEugene Wigner، “الفعالية غير القابلة للشرح أو التي لا يمكن تفسيرها للرياضيات في العلوم الطبيعية l inexplicable efficacité des mathématiques dans les sciences naturelles” وإذا كان كوننا المرئي مجرد إحدى البنى أو الهيكيليات الرياضياتية الممكنة فلا داعي للدهشة بأن المعادلات الرياضية يمكن أن تصفه على غاية من الدقة. وعلى أية حال فإن نظرية الأكوان المتعددة، وإن كانت افتراضية إلا أنها تشكل اليوم أحد سبل البحث التي يتعذر تجاهلها أو تفاديها وتجذب إليها أكثر فأكثر علماء الفيزياء الفلكية astrophysiciens.

التكوين الكوني الغامض

من الواضح أن اليوم الذي يستطيع فيه الإنسان أن يفك شيفرة الألغاز الكونية الكبرى لا سيما تلك التي تتعلق بأصله وولادته وتطوره، لم يأتي بعد ولم يحل وقت سبر أغوار الكون المرئي الغامضة والمجهولة وعلى رأسها الزمان الذي ما يزال يحتفظ بكامل أسراره فما بالك بما هو قبل هذه الولادة المفترضة للكون المرئي ونقطة بدايته التي نسميها بالفرادة الكونية السابقة لحدث الانفجار العظيم البغ بانغ. وعلى الرغم من التقدم الحاصل في مجال علم الفلك والفيزياء الفلكية في العقود الأخيرة في نهاية القرن العشرين والعقدين الأولين من القرن الواحد والعشرين، إلا أن سعينا لمعرفة الأصل لم يتكلل بالنجاح بعد ولم ينته فسوف نحتاج للمزيد من الحسابات والمعدلات التي تدور في رؤوس الباحثين والعلماء على أمل التوصل في يوم ما إلى فك الشفرة الكونية المستعصية ومعرفة الولادة الحقيقية للكون المرئي أو الأصل الحقيقي في خلقه فالوقت أمامنا طويل ونحن نبحث ونتجول ما بين اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر.

ولكن حتى قبل أن نفك طلاسم كوننا المرئي تجرأ البعض من علمائنا في الذهاب إلى أبعد منه، والتعاطي مع فرضية كونية اعتبرت في الماضي القريب من حيثيات الخيال العلمي لكنها باتت اليوم أكثر فأكثر تحوز على الاعتراف بها كنظرية علمية وهي نظرية التعدد الكوني. وهي نظرية استفاضت في شرحها روايات وسينما الخيال العلمي وافترضت إمكانية التواصل بين العوالم من خلال الطرق الكونية المختصرة المسماة بالثقوب الدودية.

العقل الجامح:

كان أول من خاض في هذا المجال العلمي الوعر هو عالم الفيزياء الأمريكي ذو العقل الجامح هيوغ إفريت سنة 1957 وغامر بمستقبله المهني وسمعته عندما كرس لموضوع التعدد الكوني أطروحته للدكتوراه ومات غريباً وشبه مجهول من قبل العامة من الناس دون أن يرى حلمه يتحقق وتكون نظريته هي المعمول بها في العشرين سنة الأولى من القرن الحادي والعشرين ويعمل عليها العديد من العلماء الشباب الذين أوفوه حقه، كالعالم ماكس تغمارك والعالم أورليون بارو وكريستوف كالفارد وبريان غرين وستيفن هوكينغ وغيرهم كثيرون على سبيل المثال لا الحصر. وتتلخص الأطروحة بمسلمة افتراضية ممكنة تقول أن الكون هو أوسع بكثير من كوننا المرئي الذي نعتقد أننا نعرفه، ويتجاوز قدرتنا على التفكير والإدراك والاستيعاب. فالكون المطلق هو كون حي مكون من عدد لا متناهي من العوالم ـ الأكوان ـ الجسيمات. لكل واحد منها خواصه ومزاياه وقوانينه وشكله وتركيبته وواقعه الخاص به، أي لكل واحد منها واقع ممكن هو البديل لعدد لامتناهي من الواقعات الممكن حدوثها داخل كل كون، مرئي أو غير مرئي. وهو افتراض مذهل لكنه بات مقبولاً من قبل عدد كبير من العلماء. وبات الوسط العلمي اليوم جاهزا لتقبل هذه الفرضية التي تقول بوجود عدد لامتناهي من الأكوان المتوازية أو المتجاورة أو المتداخلة، وذلك لأن الدراسات والأبحاث الجديدة المتقدمة في مجال الفيزياء الكمومية أو الكوانتية أتاحت فرصة اكتشاف أن قوانين اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر يمكن أن تكون مختلفة عن القوانين التي تدير وتسير وتحكم واقعنا الفيزيائي.

وفي وقت مبكر في خمسينات القرن الماضي، تخيل هيوغ إفريت كون حي وذكي وواعي ينقسم على نفسه فرعين متمايزين في كل مرة تقوم فيها حادثة كمومية أو كوانتية بوضع الواقع في حالة تراكبية وهو الاقتراح العبقري الذي وضعه إيفريت لحل مفارقة قطة شرودينغر الشهيرة. فمع افتراض وجود تعدد كوني، وإن كل كون ينشطر على نفسه إلى فرعين مع كل حادث كمومي أو كوانتي مثل حادث قطة شرودينغر، لن نعتبر هذه القطة في حالة تراكب على اعتبار أنها حية وميتة في آن واحد وهو أمر مستحيل. والحل الذي تقدم به إيفرت هو أن الكون برمته الذي تعيش فيه القطة إبان التجربة الفكرية الكمومية أو الكوانتية، قد إنقسم إلى فرعين تكون القطة في أحدهما حية وفي الآخر ميتة. ومن هنا اعتقد هيغ إفريت أنه في كل مرة يقع فيها حادث كمومي أو كوانتي تظهر عدة نسخ للكون في كل واحد منها واقع مغاير، وكل السيناريوهات الممكنة تحدث. ففي كل مرة نتخذ فيها قراراً يؤثر على مصيرنا ومستقبلنا، لأن مثل هذا القرار يمكن أن ينجم عنه عدة نتائج وانعكاسات ممكنة تحدث كلها ولكن ليس في نفس الكون بل في أكوان أخرى نسخة عنه.

فلو قررت ألا أخوض امتحانات الباكالوريا فقد أكون مجرد عامل بسيط في معمل أو جندي في سوح القتال أو قاتل أو سجين محكوم بالسجن المؤبد، قد أكون فقيراً معدماً أو غنياً أو تاجر مخدرات الخ من الممكنات المفترض المترتبة على عدم خوضي لامتحانات الباكالوريا أما العكس أي أن أحصل على الباكالوريا فذلك سيعني ربما أنني أدخل كلية الطب واصبح طبيباً مشهوراً أو مغموراً، أو أكون مهندس أو عالم أو مدرس، لأنها كلها ممكنة بشرط أن أكون حاصلاً على شهادة الباكالوريا، ولكل حالة أو نتيجة مفترضة يحصل الأمر ولكن في كون آخر موازي للكون الذي أعيش فيه. عالم الفيزياء دافيد دويتش من أنصار نظرية العوالم المتعددة الكوانتية أو الكمومية، عاكف حالياً على تصميم كومبيوتر، حاسوب، كمومي أو كوانتي بوسعه أن يعطي الدليل القاطع على صحة نظرية إيفريت حول تعدد الأكوان.

جاءت نظرية الأوتار، وبعدها تطويرها إلى نظرية الأوتار الفائقة، لتعزز أطروحة تعدد الأكوان وتؤكد الوجود الكامن أو الخفي لعدة عوالم حية. واعتبرت هذه النظرية أن الجسيمات الأولية المكونة للمادة مستوعبة داخل بنية أصغر منها هي الأوتار اللامتناهية في الصغر حيث يتوافق كل ذبذبة من ذبذبات تلك الأوتار مع أحد الجسيمات الأولية وإن للفضاء عدة أبعاد إضافية إلى جانب تلك الظاهرة والملموسة التي نعرفها ونشعر وندركها بحواسنا أي الطول والعرض والارتفاع والزمن. وفي الحقيقة فإن عدد الأبعاد في هذه النظرية هو أحد عشر بعداً، عشرة منها مكانية وواحد زماني. سبعة منها غير مرئية وغير قابلة للكشف والرصد لأنها لامتناهية في الصغر ومطوية على نفيها. ولفهم واستيعاب هذا المفهوم يمكننا أن نتخيل الأمر وكأنه عبارة عن حزم من القش الرفيع جداً، كل قشة هي ثنائية الأبعاد.

ولتحديد نقطة في الفضاء الكائن بين حزم القش، من الضروري معرفة مكان أو موقع النقطة على طول القشة وأين تقع في البعد الدائري للقشة ـ لأن حزم القش مختلطة ومتداخلة ومحدبة أو مقوسة أو دائرية ـ ولكن لو كان نصف قطر القشة لامتناهي في الصغر مثل العناصر المتواجدة في المحيط الكمومي أو الكوانتي، فسوف لن نلاحظ البعد الدائري وتبدو القشة لنا أحادية البعد كالخط المستقيم، نفس الشيء بالنسبة للوتر اللامتناهي في الصغر فالأوتار في هذه الحالة تمثل الأبعاد المنطوية الخفية. لذلك فإن إحدى نتائج نظرية الأوتار الفائقة هي أن كوننا المرئي ليس وحيداً بل هو جزء من نسيج أو إطار كوني هائل trame cosmique، يحتوي في داخله على مليارات الأكوان الأخرى. ولقد حاول بعض العلماء كمكمة أو تحديد كمومية quantifier هذه العوالم الكامنة كما فعل العالم ليونارد سيسكيند الأستاذ في جامعة ستنافورد في كاليفورنيا، الذي قدر وجود 10500 إمكانية ممكنة لأكوان أي رقم عشرة متبوعاً بخمسمائة صفر، ولو تقبلت الأوساط العلمية على نحو قطعي أطروحة التعدد الكوني والأكوان المتوازية والمتجاورة والمتداخلة فذلك لأنه هذه الأطروحة لا تمس و لا تشك بصحة، بل ولا تعارض النسبية العامة لاينشتين.

فالعوالم غير متصلة ببعضها البعض وكل عالم يمتلك خصائصه وسماته وميزاته الخاصة وقد يكون واحد أو أكثر من بينها من يمتلك الظروف والشروط الملائمة واللازمة، على غرار كوننا المرئي، لظهور الحياة الذكية والعاقلة فيه. ولكل كون عدد من التواريخ الممكنة ويمكن أن يحتل عدد من الحالات المختلفة بعد فترة طويلة من خلقه أو ولادته أو انبثاقه منذ البدء ولغاية اليوم. والحال أن أغلب الحالات لا تشبه حالة كوننا المرئي الذي نعرفه وندرسه ونعيش في داخله وتفتقد للحياة في داخلها، ومنها حفنة فقط من الأكوان التي تسمح لكائنات مثلنا أن تظهر وتعيش فيها كما يفترض ستيفن هوكينغ.

قد تكون فرضية الأكوان المتوازية المفتاح لفهم الانفجار العظيم البغ بانغ، فمفهوم الأكوان المتوازية تفسير لغز الدقة المتناهية للثوابت الجوهرية التي تدير الكون المرئي وتتحكم به. فكيف يمكن أن نفسر أن الكون المرئي، ومنذ لحظة ولادته، يمتلك تنظيماً وضبطاً خليق بأن يكون ميكانيك قياسي أو معياري للدقة؟ومن هنا أعتبر عدد من العلماء أن يكون مثل هذا الإتقان والكمال perfection ليس وليد الصدفة لذلك يعزون هذا الضبط السماوي الدقيق للغاية إلى عقل وذكاء كوني علوي فائق ومتسامي.

والحال إن نظرية الأكوان المتوازية تتعاطى مع الأمور بطريقة مغايرة معتبرة عملية خلق الكون المرئي بمثابة حدث كوانتي أو كمومي فالكون المرئي لم يكن كاملاً بل غدا كاملاً فيما بعد، أي بعد أن استكشف كل الطرق الكمومية أو الكوانتية الممكنة. لنتخيل هذا السيناريو: في لحظة وقوع الانفجار العظيم ووجه الكون الوليد بعدد لا متناهي من الاختيارات. وعليه أن يقرر قيمة الثابت الثقالي أو ثابت الجاذبية constante de gravitation، وكتلة الإلكترون الخ.. وبالتالي، وحسب فرضية هيوغ إفريت، بات على الكون الوليد عند كل اختيار أن ينقسم إلى فرعين أو أكثر وفي كل فرع يختار قيمة معينة ممكنة ومختلفة عن القيمة الأخرى في الكون أو الفرع الكوني الآخر، لذلك نشأت عدة أكوان لا متناهية العدد متوازية مع بعضها البعض تتصف كل واحد منها بصفات ومزايا وخصائص وثوابت وقوانين جوهرية معينة خاصة بها.

الغالبية العظمى من هذه الأكوان عاقرة عديمة الحياة أو غير قابلة للاستمرار ولا تظهر فيها حياة عاقلة. فبعضها يحظى بقوة جاذبية هائلة ومكثفة جداً أو بتفاعلات كهرومغناطيسية ضعيفة جداً، عندها تنهار على نفسها في نوع من الفوضى الكونية العارمة، بينما تفلح كمية قليلة من تلك الأكوان في العثور على القيم الملائمة وتكون صالحة لانبثاق الحياة العاقلة والذكية في داخلها، وهذا هو حال كوننا المرئي وهو واحد منها، أي أن هناك أكوان أخرى موازية له مثله تعج فيها الحياة الذكية العاقلة. وبتبني هذه الفرضية، لم يعد ضبط الثوابت الجوهرية أمراً إعجازياً، ولا حاجة لإقحام مهندس كبير علوي يقوم بدور الخالق للكون على حد تعبير ستيفن هوكينغ. وهذا العالم رسم هذا السيناريو لعملية ظهور وولادة كوننا المرئي الذي خضع في بداياته لمختلف الاحتمالات التطورية في تطوره وتوسعه، وحسب هوكينغ، تبنى الكون الوليد عدة طرق مختلفة بعضها توقف بسرعة وتبخر في العدم، أو في الخواء، بينما واصل بعضها الآخر طريقه تحت أشكال فيزيائية متنوعة.

ومع هذه المقاربة الجديدة، عن أصل الكون المرئي، يتعين التعامل مع ولادة الكون المرئي باعتبارها حدثاً كوانتياً أو كمومياًévénement quantique، ذاتي وعفوي، بحث وجرب واستكشف كافة السيناريوهات الممكنة لحظة انبثاقه للوجود. فالكون التعددي هو مجموع الأكوان الممكنة، ما يشبه عدد لامتناهي من الفقاعات الغازية التي تتشكل في الماء المغلي أو في كاس الشمبانيا، وهي فقاعات كثيرة العدد تظهر وتختفي وكل فقاعة هي بمثابة كون مصغر mini-univers تتقاطع وتتصادم وتفنى وهي ما تزال بعد ميكروسكوبية الحجم. إنها تمثل أكوان بديلة ممكنة لكنها عديمة الأهمية لأنها لا تبقى طويلاً لكي تتطور وتخلق داخلها مجرات ونجوم وكواكب، عدا عن الحديث عن ظهور حياة عاقلة وذكية. البعض من تلك الفقاعات – الأكوان يثابر ويستمر في النمو والتطور والتوسع وبإيقاع متسارع وتشكل الفقاعات البخارية التي نعرفها ونرصدها. وهي الأكوان المتوسعه دوماً كما يصفها ستيفن هوكينغ.

ويضيف قائلاً:” إن الترجرجات والتقلبات الكمومية أو الكوانتية الأولية في اللحظات الأولى تقود إلى خلق هذا العدد الضخم من العوالم التي في طور التشكل والوجود المادي الملموس والتي يمكن العثور على آثارها الباقية في خارطة الأشعة المكروية الأحفورية الخلفية الكونية المنتشرة من خلال تحليل التنويعات المجهرية والاختلافات الطيفية في درجات الحرارة ــ التي تقل عن واحد بالألف من الدرجة ــ والتي يعود زمنها لحدث الانفجار العظيم البغ بانغ. فالبصمات الحرارية المختلف في تلك الأشعة هي آثار ومؤشرات باقية على الاختيارات المختلفة التي قام بها الكون البدئي الوليد قبل استقراره على اختياره النهائي الحالي في كوننا المرئي، ما يترك الباب مفتوحاً لتصوراتنا عن الأكوان المتعددة التي نتطور داخلها دون عي منا ودون أن نعي أو نعرف ذلك.

إن ما اكتشفه الإنسان قد أحدث ثورة في التصور البشري للكون بواسطة الحدس الفيزيائي والتجارب الفكرية والتطبيقات العملية والصياغات الرياضياتية الصارمة، إلى جانب التجريب والرصد والمشاهدة والمراقبة. وكشفت له تلك التطورات والإنجازات العلمية والتكنولوجية، أن المكان والزمان والمادة والطاقة تحتوي على سجل من السلوكيات الخفية لا تشبه أي مما تمكنا من رؤيته على نحو مباشر وملموس.

فالدراسة المعمقة لاكتشافاتنا الحديثة بفضل الأجهزة المتطورة، تقودنا إلى معرفة ما ستكون عليه الانعطافة الحاسمة لفهمنا للأشياء والتحقق على نحو قاطع من أن كوننا المرئي ليس هو الكون الوحيد الموجود، لذا فإن دراسة الواقع الخفي هي السبيل لاكتشاف وإثبات حقيقة تعدد الأكوان. بيد أن التعاطي مع هذه المستجدات العلمية يتطلب منا أن نتخلى عن طريقة ونمط تفكيرنا التقليدية المريحة والمألوفة بغية الانفتاح على آفاق غير معتادة وغير متوقعة يستحيل تصورها أو تخيلها.

كون عادي وميغا كون وجيغا كون وميتا كون وكون مطلق وماذا بعد؟

في فترة ما كانت مفردة” كون ” تعني كل ما هو موجود ومرئي ومعروف وملموس و لكنها لا تشمل غيره مما لا نعرفه، لأن أكثر مما هو موجود يدخل في باب الخيال والميتافيزيقيا والغيبيات. وفيما بعد ظهرت مجموعة من الأبحاث والنظريات غيرت معنى ” ألكون ” وصارت المفردة تعتمد على الظروف السائدة، وصارت في بعض الأوقات تشمل كل شيء بالمطلق. أي صار المقصود بالمفردة ينطبق على الواقع الظاهر والواقع الخفي، وبجانب ذلك انتشرت مصطلحات تسللت للساحة العلمية مثل العوالم المتوازية والأكوان المتوازية والميغا – كون و الميتا – كون والأكوان المتعددة وغيرها من المرادفات لوصف كل ما يحيط بنا في كوننا المرئي وكذلك الأكوان الأخرى المفترض وجودها.

قد تتوسع مداركنا يوما ما على نحو كافي يسمح لنا بالإجابة على كل التساؤلات المتعلقة بمفاهيم الإطلاق والتعددية في الكون المرئي وما وراءه أو حوله أو متداخلاً معه.

كانت أول مغامرة علمية عسيرة للغوص في العوالم المتوازية حدثت في سنوات الخمسينات من خلال البحث في بعض جوانب الميكانيك الكمومي أو الكوانتي، والتي صيغت لتفسر بعض الظواهر التي تتعلق بالذرات والجسميات ما دون الذرية. فكما هو معلوم إن الميكانيك الكمومي أو الكوانتي أحدث شبه قطيعة مع التقليد العلمي للميكانيك الكلاسيكي بفرض مسلمة تقول أن التكهنات والتوقعات والتنبؤات العلمية لا يمكن إلا أن تكون ” إحتمالية”. فقد نتمكن من حساب فرص وقوع هذا الحدث أو ذاك، إلا أننا لا نستطيع التأكيد أيهما حدث بالفعل، وكان هذا التغيير الراديكالي الذي زعزع القناعات السائدة والفكر العلمي السائد منذ مئات السنين، مذهلاً في حد ذاته. وهناك جانب آخر لم يجلب الانتباه ويتعلق بالسببية أو بــ ” لماذا ” حصول هذه الإمكانية وليست تلك من بين عدد لامتناهي من الإمكانيات والتوقعات، بالرغم من الدراسات والأبحاث المضنية والدقيقة التي أجريت لسنوات طويلة في النظرية الكمومية أو الكوانتية، وما أفرزته وقدمته من معطيات تؤكد صحة تكهناتها الإحتماليةprédictions probabilistes. فلم ينجح أحد من العلماء الفطاحل في تفسير لماذا يتحقق احتمال واحد من بين عدد كبير ممكن من الاحتمالات القائمة، وربما تتحقق كافة الاحتمالات ولكن في أبعاد وزمكانات وأكوان موازية خفية. فعندما نجري تجارب، وعندما نتقصى أسرار عالمنا، فإننا سنلتقي فقط بواقع واحد مادي ملموس و غير قابل للبحث. وبالرغم من مرور أكثر من قرن على الثورة الكمومية أو الكوانتية، لا يوجد إجماع أو اتفاق بين علماء الفيزياء حول توافق وتساوق هذه الحقيقة الأولية مع التعبيرات الرياضياتية للنظرية الكوانتية أو الكمومية.

وعلى مر السنين، كانت هذه الثغرة في فهمنا للأشياء قد ألهمت العديد من الافتراضات والمقترحات، وكانت هي الأكثر مدعاة للدهشة هي فكرة إن المفهوم المتعارف عليه والمألوف والذي بموجبه يكون لأي تجربة حل واحد لا غير لم تكن فكرة دقيقة ومضبوطة أو صحيحة. فرياضيات ومعادلات الميكانيك الكمومي أو الكوانتي توحي بأن كل الاحتمالات والنتائج المتوقعة ممكن أن تحدث وكل حل أو نتيجة تحدث في كونها الخاص بها والمتميز عن غيره من الأكوان. فلو توقع أو تكهن حساب رياضي ما لجسيم أنه يمكن أن يكون في هذا المكان أو في مكان آخر في نفس الوقت، فهذا يعني أنه يتواجد بالفعل في مكان معين في الكون الأول لكنه يتواجد في مكان آخر في الكون الآخر. بعبارة أخرى يمكننا أن نتصور وجود نسخة أخرى عنا تراقب نتيجة التجربة وتحدد موقع الجسيم عندها بمكان يختلف عما حددناه نحن للجسيم في كوننا. وكل واحد منا يعتقد، وهو على خطأ بالطبع، أن واقعه هو الواقع الحقيقي الوحيد. والحال أننا عندما نفهم أن الميكانيك الكمومي أو الكوانتي يتحكم بكل الصيرورات الفيزيائية، من الاندماج الذري في قلب الشمس إلى النبضات العصبية المسؤولة عن التفكير البشري، ندرك أنه يسلك طريقاً هو بالنسبة لإدراكنا المحدود قد لا يكون موجوداً، في حين أنه واحداً من بين عدد لا متناهي من الطرق أو الاحتمالات، بيد أن كل طريق أو لنقل أن كل واقع ـ يكون مخفياً عن أي واقع آخر وهم كثر.

إن هذه المقاربة الغريبة والجذابة التي تقوم بها النظرية الكمومية أو الكوانتية، للعوالم المتعددة، قد استقطبت اهتمام عدد كبير من الباحثين والعلماء في العقود الأخيرة، إلا أن جل أبحاثهم كشفت لنا عن جوانب عويصة وشائكة لهذه النظرية الغريبة فهناك اعتراضات كثيرة عما قدمته هذه النظرية بعد مرور أكثر من قرن على ظهورها بالرغم من ثبات صحة العديد من الأفكار والفرضيات النظرية التي وردت فيها بينما اعتبر البعض الآخر أن الصيغة الرياضياتية للنظرية ليست متماسكة بما فيه الكفاية رغم جمالها وأناقتها.

لو تيقنا من إن الفضاء يمتد إلى ما لا نهاية، كما افترض ذلك عدد من العلماء الكبار، وهو افتراض يتوافق مع نتائج مشاهداتنا ورصدنا ويوجد في قلب نماذجنا الكونية، فيحق لنا أن نتخيل أن هناك فيما وراء الأفق الكوني المرئي والمرصود، وهو بعيد جداً ويمتد لمليارات السنين الضوئية، أكوان أخرى قد يكون جز منها نسخة عنا لكنهم يعيشون واقعاً آخر لا يتطابق مع واقعنا الظاهر الذي نعيشه هنا في كوننا المرئي أو المنظور.

سوف نحتاج في مسيرتنا هذه للكشف عن الواقع الخفي أن ندرس بعمق واقعنا الظاهر ونغوص في أعماق الكوسمولوجيا ونتقصى حقيقة النظرية التضخمية والنظرية الانفجارية والتي تفترض حدوث تضخم مفاجئ وهائل في الفضاء اللامتناهي للكون الوليد في لحظاته الأولى مما أدى إلى نشوء أو ولادة نسخة موازية عنه تقبع الآن في ما وراء الأفق الكوني لكوننا المنظور أو المرئي. ولو ثبتت صحة التضخم الكوني الهائل كما أشارت إلى ذلك نتائج الرصد الحديثة بفضل تلسكوبات فضائية متطورة جداً، فإن الانفجار الذي ولد وأوجد منطقتنا أو كوننا في الفضاء اللامتناهي لم يكن حالة وحيدة وفريدة ومعزولة بل حالة عادية تحدث في كل وقت أي أن هناك عدة انفجارات عظيمة وعدة أكوان تولدت وما زالت تتوالد إلى ما لا نهاية، في المناطق اللامرئية والبعيدة جداً في الفضاء اللامتناهي، وكل واحد من تلك الأكوان يمتلك فضاءه الخاص به والممتد في الزمكان الخاص به داخل فضاء مطلق لا متناهي مما يعني وجود عدد لانهائي من الأكوان والعوالم.

ولإضفاء المسحة العلمية الجادة والرصينة لا بد من الاستعانة بنظرية الأوتار الفائقة والنظرية أم M ونظرية كل شيء، والنظرية الموحدة والجامعة لكافة النظريات ومتابعة آخر المستجدات الناجمة عن مشاهدات تلسكوباتنا الفضائية وتجاربنا المختبرية في مصادمات الجسيمات المتطورة. وأخيرا لو تمكن الإنسان من قوانين الكون المرئي الجوهرية وتحكم بها فهل بإمكانه أن يخلق كونناً مصغراً أو ميكروسكوبياً في المختبر بعد توفير الشروط التي كانت موجودة لحظة ظهور كوننا المرئي بعد الانفجار العظيم؟ هذا ما سندرسه في سلسلة من الدراسات المعمقة والمبسطة لسبر غور الواقع الظاهر والواقع الخفي في الكون المرئي وفي الأكوان اللامرئية.

ممّ يتألف معظم الكون أو ما هي مكونات الكون المرئي أو المنظور؟

تُجيب عن هذا السؤال آميليساتونغAmelie Saintonge: لفترة طويلة من الزمن، اعتقد الفلكيون أن معظم الكون مؤلف من المادة العادية (التي تُعرف بالمادة الباريونيةmatière baryonique أو”Baryonicmatter”) وهي نفس نوع المادة التي تُكون كل شيء موجود على الأرض وفي النجوم الأخرى (البروتونات، النترونات والالكترونات). على أية حال، وُجد حالياً أن هذه المادة تكون قسماً صغيراً فقط من المادة الموجودة في الكون.

من خلال قياس حركة المجرات والنجوم الموجودة داخل المجرات، تمكن الفلكيون من تحديد وجود مادة لا يُمكننا رؤيتها. عرفوا ذلك لأنه وعلى الرغم من عدم قدرتنا على رؤيتها، إلا أنهم يستطيعون قياس تأثيراتها الثقالية على النجوم والكواكب. تُعرف هذه المادة بالمادة المظلمة أو السوداءla matière sombre ou noire (Darkmatter). وهناك شيء آخر أيضاً يُكون معظم الكون ويُشار إليه بالطاقة المظلمة L énergie sombreـ Darkenergy طبيعة الطاقة المظلمة لا تزال غير معروفة بالكامل ولكن نعرف أنها تتصرف بشكلٍ مختلف كلياً عن المادة العادية. يُعتقد بأن لهذه الطاقة تأثيراً معاكساً للجاذبية وبالتالي تساهم في توسع كوننا.

تكشف أحدث القياسات المتعلقة بالخلفية الكونية المكروية المنتشرة عن الأقسام النسبية التي تُساهم بها كل مركبة. تنص أفضل التقديرات على أن الكون مكون من 4% مادة باريونية عادية، 23% مادة مظلمة و74% طاقة مظلمة.
ملاحظة: أحدث القياسات القادمة من مهمة تلسكوب بلانك الفضائي تنص على أن الكون يتكون من 68.3% طاقة مظلمة، 4.9 مادة عادية باريونية و26.8 مادة مظلمة. كما أن قيمة ثابت هابل بلغت 67.15 بخطأ يصل إلى +/- 1.2 كيلومتر لكل ثانية لكل ميغابارسيك.

هل العالم الذي نعيش فيه حقيقي أم افتراضي؟

لو قيض للبشر إمكانية السفر إلى تخوم الكون المرئي أو المنظور الذي يعيشون فيه، فهل سيكتشفون أن الزمكان ممتد ومستمر إلى ما لانهاية أم إنه سيتوقف عند نقطة محددة تشكل حدوده القصوى؟ أم أنهم ربما يعودون من حيث لا يعلمون إلى نقطة إنطلاقهم كما كان حال السير فرانسيس دريك الذي قام بجولة حول الأرض؟ يبدو أن هاتين الإمكانيتين أو الافتراضين يتواءمان ويتوافقان مع نتائج مشاهداتنا ورصدنا الفضائي، واللتان تمت دراستهما باستفاضة على مدى عقود طويلة، والحال أن الدراسات المعمقة والتجارب المختبرية والفكرية أو الذهنية والأبحاث المتخصصة أشارت إلى إمكانية أن يكون الكون لانهائي وليس له حدود.

يفترض بعض العلماء أنه فيما وراء الأفق الكوني لكوننا المرئي توجد مجرة هي نسخة طبق الأصل لمجرتنا درب التبانة وفيها نظام شمسي هو نظير لنظامنا الشمسي بنفس عدد كواكبه ومنها كوكب هو توأم لكوكبنا الأرض ويوجد على ذلك الكوكب أو الأرض الثانية نفس القارات والناس والحيوانات الموجودة على كوكبنا وهناك نسخة توأم لي ولك ولكل واحد منا يعيش على هذه الأرض ويقومون بنفس ما نقوم به من أعمال ونشاطات وربما يوجد عدد لامتناهي من الأكوان المتشابهة كقطرات الماء. فمن المحتمل أن يكون الشخص الذي يشبهني أو نسخة مني يكتب نفس هذه السطور في إحدى نسخ الأرض وآخر يكون قد أكمل تأليف هذا الكتاب وآخر متوقف عن الكتابة للراحة وآخر قد يقوم بعمل آخر ولديه تخصص آخر غير الكتابة الخ.. حيث من المستحيل إحداث اتصال بين تلك الأكوان والأراضي المتعددة إلى ما لا نهاية، وإذا كان الكون المرئي لامحدود السعة فإنه بالضرورة سيحتوي على عدد لامتناهي من العوالم المتوازية، بعضها يشبه تماماً عالمنا وبعضها يختلف عنه كلياً. وعند مواصلة رحلتنا لاستكشاف تلك العوالم المتوازية يتعين علينا قبل ذلك أن نفهم أساسيات وجوهر علم الكون “الكوسمولوجيا”وعلم البحث عن الأصول وتطور الكون باعتبار كل شامل ومطلق.

الواقع في كون لانهائي

سبق أن قلنا أننا لا نعلم ما إذا كان الكون منتهي أو لامنتهي ولهاتين الإمكانيتين مكانها في النماذج النظرية وتتوافقان على العموم مع نتائج الرصد والمشاهدات والحسابات الفلكية حتى الأكثر اتقاناً ودقة وقبولاً. من الصعب التحديد في الوقت الحاضر حول أيهما الأكثر علمية من الأخرى. ففي الفضاء المنتهي قد يقوم الضوء القادم من النجوم والمجرات البعيدة بقطع مسافات شاسعة ويدور حول الكون المرئي عدة مرات ويمر بعدة انكسارات وانعكاسات قبل وصوله الى تلسكوباتنا الأرضية.ونفس الشيء عندما تتعاقب الصور المنعكسة من مرآة لأخرى بعد أن يقطع الضوء عدة دورات فلكية ليقدم لنا تعاقبا صوريا للنجوم والمجرات. ولقد بحث علماء الفلك عن صور متعددة لنفس المصدر ولكن بلا طائل. إذ لا يكفي ذلك بحد ذاته لإثبات أن الفضاء الكوني لا متناهي. إن هذا الإشكال يوحي بأنه إذا كان الكون المرئي محدوداً وذو نهاية فإنه قد يكون من الشساعة بمكان بحيث لن يكون للضوء الوقت الكافي لكي يقوم بدورة كاملة حول هذا الكون. وهذا بذاته يشكل تحدياً تجريبياً أمام العلماء. فحتى لو كان الكون المرئي محدوداً فإنه كلما كان شاسعاً أكثر كلما يغدو شبيهاً بكون لا منتهي وغير محدود.

أياً كان الأمر فمما لا شك فيه أنه في وقت ما، غائص في عمق الزمن، كانت المجرات مضغوطة في حيز مكاني غاية في الصغر وغاية في السخونة. وإن مشاهداتنا الحالية لمعدل التوسع الكوني وتحليلنا النظري لمتغيراته على مر الزمن،تتيح لنا أن نقدر مقدار ما انصرم من الزمن منذ الفترة التي كان الكون فيها داخل حبة غاية في الكثافة،وهي الفترة التي سمحنا لأنفسنا باعتبارها فترة البداية، وإن الكون، سواء أكان منتهياً أو غير منتهي، محدود أو لا محدود، فإن آخر التقديرات العلمية تقول لنا بأنها تقدر بـــ13.8 مليار سنة هي عمر الكون التقديري المفترض اليوم.

قد تكون هناك أهمية ما من معرفة ما إذا كان الكون منتهياً أو لا منتهي، محدوداً أو غير محدود، ففي حالة كونه محدوداً، ولأننا ندرس الكون لفترات زمنية ساحقة في الماضي، فمن البديهي تخيل المكان ـ الفضاء برمته في حالة تقلص وإنكماش أكثر فأكثر. وحتى لو تعطلت الرياضيات وانهارت الحسابات الرياضية في الزمن صفر، فلا يوجد شيء يمنعنا من التفكير والتعامل مع كون عندما يكون موجوداً في لحظات أقرب فأقرب للزمن صفر وفي حيز مكاني أصغر فأصغر. في حين لا معنى لمثل هذا الوصف في حالة أن يكون الكون لانهائياً. فلو كان المكان / الفضاء حقاً لامتناهياً فهذا يعني أنه كان كذلك من الأزل وسيبقى هكذا إلى الأبد. ولو نظرنا إلى التوسع بالاتجاه المعاكس فإن محتواه سيكون مكبوساً أو مضغوطاً أكثر فأكثر، وإن الكثافة تكون مرتفعة وتزداد أكثر فأكثر. بيد أن حجمه الكلي يبقى لانهائياً فنصف اللانهائي بقى لانهائياً كما تقول القاعدة الرياضية. ولو اقتربنا من اللحظة صفر في كون لانهائي فسوف نحصل على كثافة أقوى وأكبر في كل نقطة في حين إن الامتداد المكاني للكون يبقى لا نهائياً.

إن مشاهداتنا ورصدنا العلمي للكون المرئي لا تسمح لنا بالحسم بين كونه منتهياً أو لا منتهي، محدوداً أو غير محدود، فإن العديد من علماء الفيزياء والفلك يفضلون فكرة الكون اللامحدود. وعلينا أن ندرك إن لمعرفة كون الكون المرئي محدوداً أو غير محدود، تداعيات وتبعات جوهرية وانعكاسات مؤثرة على طبيعة وماهية الواقع. ولو اقتنعنا بهذه الحقيقة فسوف نجد أنفسنا في عالم هو واحد من بين عدد لامتناهي من العوالم.

الجذور الفيزيائية لفرضية التعددية الكونية الميتافيزيقية

للدماغ البشري حدود إدراكية معروفة لدينا اليوم وقدرة تصورية تستند على الشواهد المرئية والملموسة بيد أن هناك ظواهر عديدة لا يمكن الركون فيها إلى قدرة الدماغ باعتبارها لا تدخل ضمن ما يعرف ” سبق وأن رأينا مثله أو هناك ما هو موجود مثله déjà vue بل هي ضمن ما يمكن تصنيفه بشبه المستحيل الذي يتعذر رؤيته أوما لم نره قط jamais vue فعلى سبيل المثال لا الحصر عندما تقوم بوصف مكان ثلاثي الأبعاد لأحدهم يمكن أن يبذل جهداً لتخيله لأنه يملك رديفاً تخيلاً في دماغه محدداً بالأبعاد المكانية الثلاثة، ولكن عندما تحدثه عن مكان فيه أحد عشر بعداً مكانياً كما تقول بذلك نظرية الأوتار الفائقة، فإن الدماغ البشري يعجز عن ترجمة ذلك إلى صورة هندسية مألوفة. لذلك ليس من السهل على الإنسان الحالي تقبل نظريات فيزيائية علمية تتحدث عن تعدد العوالم وتعدد الأكوان والأكوان المتوازية رغم اعتماد النظريات الفيزيائية على حسابات رياضياتية ومعادلات رياضية وأدلة علمية وفرضيات علمية قابلة للبرهان التجريبي. حتى آينشتين بدماغه الخارق والمتقد وقدرته التخيلية عجز عن تقبل ذلك خاصة فيما يتعلق بموضوع الثقالة الكمومية.

حاولت نظرية الأوتار الفائقة توحيد القوى الجوهرية الكونية الأربعة بغية تقديم حل لمعضلة الثقالة الكمومية من خلال افتراض وجود وحدات بنائية مادية أصغر مما هو مكتشف لحد الآن وفق نظرية الغشاء théorie de Brane وافترضت أن الكينونات الأولية المكونة للمادة هي أوتار مفتوحة أو مغلقة تتذبذبن ووفق ذبذباتها تتحدد طبيعة وخصائص الجسيمات الأولية التي نعرفها مثل البروتونات والنيترونات والالكترونات لكن هذه النظرية لم ترق إلى مستوى نظرية كل شيء الجامعة والشاملة لكل النظريات القائمة والتي تفسر كل شيء في الكون المرئي أو المنظور. كرس كثير من العلماء جهودهم وأبحاثهم طيلة سنين عديدة وهم يعملون على معادلات رياضية معقدة بغية العثور على المقابل الرياضياتي للنظرية الفيزيائية الأكمل ذات الأحد عشر بعداً حيث سيتم بفضلها إثبات أن كل النظريات السائدة تكمل بعضها بعضاً. وبالتالي افترضوا أن مادة الكون كلها متصلة ببعضها البعض ببنية واحدة أو بنسيج واحد هو الغشاء الكوني كما قالت بذلك النظرية م théorie M.

المشكلة التي واجهت العلماء هي هل تسري قوانين الكون المرئي أو المنظور فقط في الأبعاد الثلاثة المنظورة والمرصودة للكون المرئي أم يمكن تطبيقها على الأبعاد غير المرئية المفترضة؟ فالجاذبية أو الثقالة مهمة وأساسية في اللامتناهي في الكبر لكنها مهملة أو شبه معدومة في اللامتناهي في الصغر كما كان يعتقد العلماء في القرنين الماضيين لكن عالمة الفيزياء ليزار أندال عملت على إيجاد تفسير منطقي ومقبول لهذه المسلمة التي تقول بضعف الجاذبية مقارنة بالقوى الثلاثة الأساسية أو الجوهرية الكونية الأخرى في المستويات اللامتناهية في الصغر، وخاضت في محاولات رياضياتية معقدة ووضعت معادلات عديدة فوجدت أن الجاذبية أو الثقالة تتسرب من غشاء آخر في البعد الحادي عشر إلى كوننا المرئي مما يعني أن وجود غشاء آخر يدل على وجود كون آخر غير مرئي قد يكون موازياً أو متداخلاً مع كوننا المرئي لكن اكتشافها هذا أثار فزع زملائها الفيزيائيين لأنهم يخشون الخوض في الفرضيات الميتافيزيقية أو الماورائية وعلى الأخص صعوبة تقبل أطروحة وجود أكوان أخرى، بيد أن علماء نظرية الأوتار أقروا بصحة هذا الاستنتاج خاصة أولئك الذين يبحثون عن كيفية نشأة الكون وأصله.

إن تقبل فكرة وجود أكوان أخرى تفرض علينا أن نتقبل ماهية أخرى للمكان الذي يوجد فيه كوننا المرئي أو المنظور وهو المكان الممتد إلى ما لا نهاية حيث بإمكانه أن يستوعب عدداً لا متناهياً من الأكوان- الجسيمات. فكل كون مثل كوننا ما هو إلا جسيم أولي لامتناهي في الصغر في هذا المكان المطلق الذي يشكل الكون المطلق. وهناك نسخ متعدد لكوننا و نسخ لنا نحن في العديد من تلك الأكوان الأخرى مثلما يوجد شبيه لكل واحد منا طبق الأصل عنه بعدة نسخ فيكرتنا الأرضية بل في كوننا نفسه. هذا في ما يتعلق بالمكان والأمر ذاته ينطبق على الزمان فهو ليس كما نعتقده بمثابة سهم يسير باتجاه واحد وبانتظام وبإيقاع منتظم أمد الدهر من الماضي إلى المستقبل مروراً بالحاضر. إنه صيغة أخرى للمكان، بمعنى آخر يمكن أن يتحول الزمان إلى مكان والعكس صحيح حسب النظرية النسبية لآينشتين. وهناك قانون في هذه النظرية يقول بتباطؤ الزمن مع السرعة فكلما ازدادت سرعة الشيء تباطأ الزمن بالنسبة لهذا الشيء وهو ما يعرف بمفارقة التوأم، ومفادها لو أن شقيقين توأمين بنفس العمر أحدهما استقل مركبة فضائية تسير بسرعة هائلة قريبة من سرعة الضوء لفترة زمنية قصيرة لنقل شهر أو سنة أو بضعة سنوات معدودة، فعند عودته إلى الأرض يكون قد مر عليه فترة الرحلة فقط أي أسبوع أو شهر أو سنة، أي هو لا يشيخ سوى أسابيع أو أشهر أو بضعة سنين،في حين يكون قد مر على شقيقه التوأم مقابل الأسابيع بضعة سنوات ومقابل الأشهر عشرات السنين ومقابل السنوات القليلة عدة قرون، ويكون هذا الشقيق الذي بقي على الأرض قد مات وترك أحفاده أو أحفاد أحفاده ليلتقوا بشقيق جدهم التوأم وهو بزهوة الشباب. مثلما تقول النسبية أن كتلة الشيء تغدو صفراً عند بلوغها سرعة الضوء وفي حالة تجاوز حاجز سرعة الضوء وهي 300000 كلم في الثانية، فسيكون بإمكان هذا الشيء السفر والترحال عبر الزمن والعودة للماضي أو الذهاب للمستقبل.

من هنا نستطيع القول أن مفردة كون بمفهومها النسبي أعلاه، لا تشمل مجمل ماهو فيزيائي وميتافيزيائي في الوجود اللامحدود. وفي نفس الوقت لايوجد سبب يدعونا للإعتقاد بعدم وجود شيء ما خارج حدود كوننا المرئي المفترضة، كما هو حال المحيط الممتد حيث لا ترى السفن الطافية فوقه ماذا يوجد وراء الأفق الخاص بها، ومن المعقول والمقبول أن نفكر ونعتقد بأن الفضاء لا ينتهي و لا يتوقف عند حدود كوننا المرئي الاعتباطية والنسبية.

وبالإمكان وضع تعريف آخر لمفهوم الكون ليشمل، ليس فقط كل ما هو مرئي أو قابل للرصد والمشاهد والقياس اليوم، بل وكذلك كل ما سيكون ممكنناً اكتشافه في المستقبل البعيد و غير المنظور، بل ويمكننا القول أن مجموع الفقاعات ـــ الأكوان التي تكون فيها القوانين الفيزيائية مماثلة لما يوجد في كوننا المرئي،تدخل في تعريف الكون univers، الذي يبقى، مع ذلك، نسبياً.

فى عام 1954, كان هناك مرشح للدكتوراة من جامعة برنسيتون اسمه هيوغ إيفيرت جاء بفكرة جذرية تقول: أنه توجد أكوان متوازية, بالضبط تشبه كوننا. كل هذه الأكوان على علاقة بنا, فى الواقع وهي متفرعة منا وكوننا متفرع أيضاً من آخرين.
خلال هذه الأكوان المتوازية, حروبنا لها نهايات مختلفة عن ما نعرف. الأنواع المنقرضة فى كوننا تطورت وتكيفت في الأكوان الآخرى. فى أكوان أخرى ربما نحن البشر أصبحنا فى عداد المنقرضين.

هل الأكوان المتوازية فعلا ً موجودة؟ بعض النظريات فى الرياضيات والفيزياء أعطت دليلا ً يدعم مثل هذه الإحتمالات.
هذا التفكير يذهل العقل ولحد الآن ما يزال يتعذر فهمه. الأفكار العامة عن الأكوان أو الأبعاد المتوازية التى تشبهنا ظهرت فى روايات وأفلام الخيال العلمى. لكن لماذا يقوم فيزيائى شاب ذو مستقبل بالمخاطرة بمستقبله المهنى عن طريق تقديم نظرية عن الأكوان المتوازية؟

بنظريته عن الأكوان المتوازية, كان هيوغبت إفريت يحاول الإجابة عن سؤال صعب متعلق بفيزياء الكموم أو الكوانتوم: لماذا تتصرف الأجسام الكمية بشكل غير منضبط؟ إن المستوى الكمىومي هو أصغر ما اكتشفه العلم حتى الآن. دراسة فيزياء الكموم بدأت فى عام 1900, حينما قدم العالم ماكس بلانك هذا المفهوم لأول مرة إلى المجتمع العلمي.
العوالم المتعددة لفيزياء الكموم.

(حسب نظرية العالم هيوغ إيفيريت فإن وقوع أي حدث عشوائي معناه أن احتمال من ضمن عدة احتمالات أخرى قد وقع… مما يؤدي بنا إلى القول أن الاحتمالات الأخرى قد تكون وقعت في أكوان موازية لكوننا… أي أن ھناك كون لكل احتمال من الإحتمالات المتوقعة)

خصائصه: شبيهه بخصائص المستوى الثاني.
الافتراضات: وحدوية الفيزياء.
الأسانيد: 1- دعم تجريبي للفيزياء الوحدوية.
2- النموذج الأبسط رياضياً.
قطة شرودنغر فى الوضع الفائق
المستوى الرابع: تراكيب رياضية أخرى.
خصائصه: معادلات الفيزياء الأساسية مختلفة.
الافتراضات: الوجود الرياضى = الوجود الفيزيائى.
الأسانيد: 1- التأثير غير المعقول للرياضيات فى الفيزياء.

إنّ موضوع تعدد الأكوان هو واحد من أكثر الموضوعات المسبّبة للخلاف في الفيزياء، وقد زاد الخلاف الآن بعد الإعلان الكبير عن اكتشاف أدلة على تموّجات بدائية في الزمكان تعود للإنفجار العظيم، مما يدعم نظرية كوزمولوجية تُدعى التضخم، ومعها يعتقد بعض العلماء بأنّ كوننا هو واحد من ضمن أكوان كثيرة هائمة كفقاعات هوائية داخل زجاجة المشروب الغازي. نقاد فرضية تعدد الأكوان يعتبرونها فكرة غير قابلة للدراسة والفحص، بل وبالكاد تعتبر علم حتّى.جاءت الأخبار الأخيرة من تصوير (BICEP2) في القطب الجنوبي، حيث تمّ الكشف عن آثار في الخلفية المكروية الكونية والتي تعود لما بعد وقت قصير جداً من الانفجار العظيم، والتي تبدو أنها موجات الجاذبية. اعتُبر هذا الاكتشاف مهم جداً، ولكن علماء الفيزياء ينوهون إلى أن التّأكيد من تجارب أخرى مازال مطلوباً.

لو تمّ تأكيد هذا الاكتشاف، فسيعتبر دليل مباشر على نظرية التضخم، والتي ترجح بأنّ الكون تضخم بشكل هائل في أول جزء من النانوثانية بعد ولادته، مما قد يفسر العديد من الخصائص لكوننا، كحقيقة أن الكون يظهر على نحو سلس، حيث تتوزع المادة بشكلٍ متساوٍ في جميع الإتجاهات.

التضخم قد يشير أيضًا أنّ ما نعتبره الكون – كل شيء نراه بأقوى التلسكوبات- يُعتبر زاوية بسيطة من الفضاء، حيث توقف التضخم عن العمل مما سمح بتكثف المواد، وتكون النجوم والمجرات، وتطورت الحياة. لكن في أي مكان آخر، وراء الكون الملاحظ أو المرصود والمرئي، أي فيما وراء الأفق الكوني لكوننا المرئي، قد لا يزال الكون المطلق في تضخم مع فقاعات كونية جديدة تتشكل كلما توقف التضخم في مكان ما.

الكثير من عمالقة الفيزياء اليوم يميلون لهذه الفكرة، مثل آلان غوث وأندرية ليند، رواد نظرية التضخم. بالإضافة إلى الفيزيائي المرموق فرانك ويلكجك الحاصل على نوبل في 2004، فيقول: “أنا أعتقد بأنّ تعدد الأكوان هو نتيجة طبيعية لأفكار التضخم، لو بإمكانك إنشاء كون من بذرة صغيرة جدا، فبإمكان أكوان أخرى أيضا أن تتكون من بذور صغيرة. لا يبدو أن شيء فريد في الحدث الذي نسميه بالإنفجار العظيم. إنه حدث يمكن إعادته ويمكن حدوثه.

إقرأ أيضا