(1)
الحامل الثلاثي ذو الرائحة المعدنية القاتمة، ينتصب على أرضية الشارع المبتلّ. الــ \”زووم\”، يطول ويقصر بمقدار ملّيمات محدودة، كما لو كان يحاول أن يتأكد أنّه لن يُخطأ الهدف؛ إنّ التكرار أمر مرفوض، بل غير واردٍ حتى. على بضع خطواتٍ، يقف رجل، يرتدي سترة شتائية فوق دشداشةٍ رمادية، يمسك في كفه اليسرى على بضعة كتب، وفي اليمنى يأخذ يد إبنه الصغير – رماد الدشداشة ودفء الأبوة كانا ينعكسان في عين الطفل!. الأب – الآن – يتوسط الإطار المحمول باليد اليسرى. فيما تمتدّ سبابة اليد الأخرى، للمصوّر، كي تطلق فوتوغراف الرحمة على الأب – مشهد إعدام فوتوغرافي كامل!
كانت هذه هي الصورة الخامسة، التي أحضرها – كمشاهد – بصحبة المصوّر محمد عباس وزميله في المشروع، المخرج أكرم عصام، في صبيحة ذلك اليوم (يوم الجمعة) بعد لقاء وليد مصادفة في شارع المتنبي. على الأصح كانت هذي هي الظروف النفسية التي ملأتني إنفعالاً لحظة إلتقاطها. حينها لم يعد اليوم كما كان قبيل لحظة. . إنفعالٌ تام، هو مزيجٌ من إنقباض وحماسة (حماسة نابعة من الإطلاع المبكر على فكرة الصورة) كان قد ملأني.
أورد ذلك، لأنه كان من الممكن، كل الممكن، أن لا يحمل هذا المقال رأياً نقدياً كذاك الذي سيرد في السطور التالية . . أورد ذلك، ربما لأنّني وبسبب هذا الإنفعال، ولإنفعال – آخَر – متحمّس كان قد راودني لحظة الإطلاّع على باقي صور المعرض، أقول، أورد ذلك لأنني كنت قد أوّلت عمل المعرض تأويلاً بعيداً – ليس كلّ البعد – عن الحقيقة التي ولِد منها والفكرة التي أراد إيصالها: لقد توهمتُ أنني قبضتُ على سرّ الفكرة! هذا يعودُ إلى الإطار الذي يحمل في أحد زاويتيه العلويتين شريط الموت الأسود – إطار صناعة الصورة في المعرض الأول لمحمد عباس.
إفتقدتْ الصور الأربع التي سَبَقتْ، خصيصةَ خلق جوّ نفسي مماثل في نفسيّتي، رغم إعتمادها لذات التكنيك. الأولى، لمجموعة الأواني النحاسية في الشابندر (مجرد أشياء جامدة). الثالثة والرابعة، لعسكريّ يقرأ صحيفة وشرطي يجلس فوق كرسيّ بإرتخاء، هاتان المهنتان هما الأكثر تمّاساً مع الموت، لذا بدت لي الصورتين حينها مجرّد إستباق لحدث محتمل. والثانية، كانت لبائعٍ أمام عربته، المحاطة بحشد كبير من الناس. وربمّا لأن البائع كان منغمساً في فوضى الحياة، لدرجة أنه بدا لي أنه كان يخدم زبائنه بستة أيدي، ربما لذلك، لم تصل الإستثارة النفسية لهذي اللقطة تلك التي سببتها الخامسة.
على أية حال، أسقطْتُ معنىً إنفعالياً غير مستنبطٍ من مجموع العمل ذاته. إلا أنّ الحمد للفترة الزمنية التي فصلت بين وقت إطلاّعي على المعرض، وبين وقت الكتابة عنه. الوقت المنقضي، هو الذي جعلني أستعيد المعرض والصور بروح التأمل عوضاً عن العاطفة – عاطفتي. لذا طرحتُ جانباً، مباشرةً، العمقَ – عمق فكرة الموت – التي نسبتها قسراً للعمل. نظرة محمد عباس الفوتوغرافية، الفكرة التي يريدها، لا ترتبط مطلقاً مع الصيغة العميقة لسيلينوس، شوبنهور، نيتشه أو فاغنر. محمد يقف أمام الموت ذاته في تردد وتحيّر. إنه لم يمتلك شجاعة كافكا ليقف داخل اللغز الذي بدء منه حي بن يقظان عقائده وعلمه ومعرفته الوضعية والكشفية.
عبّاس يقف بعيداً عن العتبة لا عندها، ولا يكتفي بذلك بل يُحذّر ويصرخ، فوتوغرافياً، منذراً الآخرين – نحن: زائرو معرضه – من أنّ الخط خطير، ولا عودة ممكنة عبره بعد إجتيازه. لكنّه إذ يصرّح بتحذيراته من خلال إطاره المُميت، فهو يختفي خلفه، ينسلّ هارباً بعد حضوره (يده التي تظهر حاملةً \”إطار الموتى\”) إلى خارج الصورة ولا يظهر إلى عند إطارها الأساسي. محمد عباس يتواجد بين إطار الصورة الحقيقي في زيفه وبين إطار الصورة الزائف في حقيقته.. بين إطار الصورة الداخلي وذلك الخشبي الذي يحيط بها من الخارج. هذا الإختفاء، هذا الهرب، هو ما يخدع، خدعني بالذات!!
(2)
يذكّر المعرض، بما يعرض، بذاك التفريق اللغويّ في العربية، الذي أشار له البعض، بين كلمتيّ \”ميِّت\” (بتشديد الياء المكسورة) و\”ميْت\” (بتسكينها). كلمتان يميّز بينهما الترقيم فقط. الأولى تمتد من الحاضر نحو المستقبل، مسألة مصير مقدّر؛ وقد إستخدمها الخطاب القرآني ضمن ما إستخدم في المجادلات الشفوية بين الفاعلين الإجتماعيين لمجتمع مكة والمدينة. أما الكلمة الثانية، \”ميْت\”، فهي تقرّر الماضي؛ مسألةً أصدر القضاء فيها كلمته.
الأولى يمكن إستحضارها في الصوّر التي حوت الإطار – إطار الموتى. إنّ هذه الصوّر تُبرِزُ تناقضاً باديء الأمر حين تؤخذ على نحو سطحيّ عند حدود المنطق الذي يتضمنه المستوى اللغوي الذي أشرنا إليه؛ إذ كيف يعقل التحذير من نهاية واقعة ومحتومة! لكنّ الصورة لا تعترف بمنطق غير منطقها؛ منطق مصورها، أو بالأحرى، منطق إحساسه الذي ترسّب في الصور رغم هروبه.
أرى في الدلالة الزمانية مفتاحاً يحلّ الإشكال فنياً ويفيد في تسليط الضوء على علائقنا بتيار الزمان. تشير هذه الصور إلى تدبير التاريخانية أو الأرخانية (Historicity) الذي نعيشه. كان فرانسوا هارتوغ قد دلّ وتوسع في دراسة أنماطاً مختلفةً من التدابير التاريخانية ولمجتمعات مختلفة، جغرافياً وحقبياً. أعتقد، فيما يخصنا، أنّ الرؤية تأتي من الماضي . . ماضٍ جارف يدمج فيه الحاضر ويلغيه، ويؤسس للمستقبل. نقطة التاريخ الفاصلة 9/4 هي التي ألغت حدود حاضرنا، الحاضر الهاجع قبل التاريخ المذكور، وجعلته إمتداداً للماضي. الماضي لم يعد تاريخاً بأية حال، إنه ذاكرة وهي تزدوج على نفسها: أملٌ متآكل! ذاكرةٌ مشروخة في الإستعادة، إلى هوية ودمار. المستقبل يأتي إنعكاساً لهذا الشرخ. هناك مستقبل قريب (حاضر ذاكرة وشيكة!) مأزوم ومهدِّد؛ ومستقبل مأمول، أمله يقبع في إيقاف تآكل أمل الذاكرة.
هكذا يجد المصوّر نفسه مسؤولاً عن التنبيه بالدمار، بالقتل، بالهروب، بأشكال الضياع الصادم والفقدان المفاجيء، وهو الدرب القديم الذي سارت وتسير عليه الذاكرة حيث يظهر الحاضر مجرد نقطة تنتظر، في اللحظة القادمة، أن تُغمَر بإستمرار بسيلها (بسيل الذاكرة) القاسي. الأشياء الجامدة مثل مجموعة الأواني النحاسية، المذياع الكلاسيكي، الذي يعمل بمبدأ \”اللمبة\”، الشخوص، كل تلك الأشياء التي تتوسط إطار الموتى هي أشياء يمكن إنقاذها من فعل المستقبل الوشيك والمأزوم. إنه المستقبل الذي يظهر وراء قناع القدر المحتوم، بِحَثّ الذاكرة، فيما ليس من المستحيل تلافيه لتقريب المستقبل البعيد المأمول، المستحثّ بالذاكرة هو الآخر. هكذا نفهم التناقض الذي أشرنا إليه أعلاه.
التحذير في صور فوتوغرافية أخرى يأتي متأخراً، إنه ليس تحذيراً على الأرجح، إنه رثاء محذِّر؛ إنها صرخات رمادية (متمثّلة في الصور الرمادية التي لا تحوي إطار الموتى). هنا تأتي كلمة \”ميْت\” لتحتلّ مكاناً بصرياً. هذا القسم من الصوّر يؤلّف مع القسم الذي سبق ذكره، مجموعة واحدة للذاكرة التي تركناها تئنّ في السطور أعلاه.
(3)
محمد عبّاس لا يستسلم لسوداوية الموت، للحاضر المُصادَر، للمستقبل المأزوم، بل يضمّن أمل المستقبل البعيد في المعرض. إنه لون الحياة المتفجر والإبتسامات المتراكمة، التي يكسر ضوعها الإطار المشؤوم، إنها ضربة اللقطة الجميلة التي تحمل بصمة فنان. هنا يذّكر بألبير كّامو، الذي يملأ رواياته بالعذاب والعبث، لكنه لا ينسى أن يضع خيط أمل رفيع، أو بقعةً من ضوء، وهي غالباً ما تأتي كعاطفة من داخل النفس البشرية أكثر منها أملاً واقعياً.
أحياناً يكون التشاؤم والخوف طاغياً، كما في صور الأشياء والشخوص المفردة، فيضع مهمّة الأمل – معنوياً – على عاتق اللون. وفي أحيان أخرى، في صورٍ أقلّ تشاؤماً، يعهد مسؤولية الأمل – مادّياً – إلى شخوص أو أشياء ثمينة تراثياً. يركّز المصور إطاره على الأب أوالأم أو على أشخاص كبار سن ويترك الأشخاص الأصغر عمراً والأطفال خارجه، زارعاً بذور آماله في الجيل القادم من البعيد. يضع الراديو في المركز، ويستثني الشابين اللذين يجلسان قريباً منه. هناك أشياء هي الأكثر إحتمالاً في أن تقضي نحبها عما قريب. لذا يجب إنقاذ ما يمكن إنقاذه، إن أمكن.
ضمن ذلك، تكسر أحد صور المعرض إيقاع الصور المعروضة بشكل واضح: هي صورة الدميتين. لا أملٌ يبقى هنا؛ لا تحذيرٌ ينفع؛ لا صوتٌ يعود مجدياً. لأن الموت الحتمي قال كلمته المزاجية والنهائية: كان من الممكن جداً، أن يختار الإطار المرعب الدمية الأخرى – التوأم – ويطلق سراح الأولى! إنه عبث محضّ بهيئة سواد !!.
أعتقد أنه كان على الفوتوغرافي محمد أيضاً أن لا يكسر القاعدة في صورة القارب. القارب الحطام يفيد للعبرة والتذكير، ولا فائدة تُرتجى من التحذير بشأنه؛ إنّه لا يصلح مَتْحَفيّاً حتى، مادامت هناك قواربٌ أخرى تتنفّس، وتُنعش رئة النهر: صورةُ القارب لا تحتاج إلى إطار موتى بل إلى لون رماديّ.
كما أعتقد أن صور البوريتريهات، والتي جمعها الفوتوغرافي في إطار خارجيّ واحد، وأفرد لكل شخص داخله إطار موتى خاص به.. أعتقد أنها كانت يجب، وإنسجاماً مع إيقاع المجموع، أن تكون جميعها ملوّنة لا رماديّة. لكنْ يبدو أن حافزاً نفسياً مظلماً عمل حينها بشدة، إلى الحدّ الذي ضمّن فيه صورته الشخصية هو – من بين ثلاثة أخريات – بين شخوص آخرين، وجعلها رماديّة ومحاطة بإطار الموت، كما لو كان يريد القول: إنّي مَيْت هذه اللحظة وسأموت مراراً وتكراراً؛ إنني جثّة تكرر نفسها !
(4)
إنّ رسالة الحزن والموت التي يبعثها هذا المعرض واضحة لأيّ فردٍ كان وبغضّ النظر عن مستواه الثقافيّ. وبغضّ النظر عن أية تقييماتٍ فنية أو فكرية يمكن إستخلاصها أو الإشارة إليها، فإنّ عناصره محرّكة للمشاعر من اللامتخصصين ومن عامّة الناس. إنه عمل يجمع بين الإحساس الإنساني والشخصي البساطة ولا يفرّط بالتقنيّة، وهذا يدفع إلى القول بضرورة إعادة إقامته في أمكنة أكثر عمومية، كشارع المتنبي مثلاً – لتُتاح للآخرين الذين يأتي هذا العمل من أجلهم، أن يطّلعوا عليه. إنّ عرض العمل في قاعة أكد حصره في إطار ضيّق لا يتفق ومراميه.
في المرّة القادمة، أتمنى من المصوّر أن يجازف بإضافة صور فوتوغرافية حجبها عن هذا العمل. لقد أطلعني على بعضٍ منها، ولو أنّه ضمّنها في المعرض لكانت الرسالة الإجتماعيّة أقوى بكثير عما كانت عليه، ولَما كان المعرض إقتصر على تحريك المشاعر فحسب، بل كان سيتعدّاه إلى أكثر من ذاك بكثير، لأنّها (أيّ الصور المحجوبة أو التي تنتظر أن ترى النور) تشاكس تابوات سيا – دينية.