– \”نازل\”
رفعت رأسي مع نطقي بها و ليسَ صوتي و حسب، وكأنني أردتُ أن ينتبه إلي السائق الذي لم يكف أصلاً عن النظر اليّ بنظراته الدبقة، أنزلق رأس السكير الذي كانَ قد غفا على كتفي في مرحلة ما من الطريق من ساحة الاندلس إلى مدينة الحرية.. لم أوقظه و لم يتكرم أحد بالاهتمام بالامر سوى السائق الذي ظن..
لا أعرف بالضبط ما الذي ظنه لكن ، نظراته كانت تشعرنني بالاحتقار لنفسي، دون أن يتكلم قال أنني فتاة سيئة، قذرة بشكل لا يوصف، الغريب أني كنت اوافقه دون أعتراض، كنت أطاطأ رأسي بشبه أعتذار تحت صفعات الاتهام بنظراته، رغم ان كلُ ما في الامر أنني خشيت أن يستيقظ فيسيء إلي بشيء من الكلام او تلك الحركات التي لا تزال تضايقني رغم أنني صرتُ معتادة عليها حتى بدت كأنها لا تمت للاساءة بل تُشعرني إني على قيد الحياة، و إن ثمة من يهتم لامري و لو مؤقتاً \”مسافة سكة\”..
التفتتُ خلفي، حمداً لله.. لمْ يتبعني أحد.. أنا خائفة دائماً من ذلك، مرعوبة من فكرة لفت أنظار الآخرين، السكارى والمتشددين سوياً.. على العموم أخذتُ أحتياطي كالعادة ونزلت في مكانٍ بعيد نوعاً ما عن بيتنا.. آخر ما أريده أن يعرف أحد هولاء السكارى، أو حتى سواق الكيات (الميني باص) بيتي.. من يدري ما قد يثيره فيهم معرفة الطريق إلى منزل لامرأتين بلا رجل.. ولكن، أنا أركب هذهِ السيارات منذ أكثر من ثلاث سنوات و أعرف – بالشكل و حسب- تقريباً أغلب السوّاق و هم مما لا شك فيهِ يعرفونني فغالباً أكون الانثى الوحيدة في السيارة، فيمَ سيفكر هولاء الذين يقلني أحدهم كل ليلة إلى مكان مختلف!
تباً له .. ذلك السكير؛ لا يزال لعابه على كتفي رطباً، انه يخترق بلوزتي، رائحته تطاردني، التفت مجدداً .. لا أحد .. لكن الرائحة ظلت عالقة لا تذهب رغم هذهِ الريح التي تعصف بي.
هذهِ الريح و هذا الليل و هذا السكون يحفر فيّ شعوراً عميقاً بالأسى كما لو كنت الأخيرة في العالم، كما لو أنّ الكل ذهبوا إلى مكان ما و نسوني، و هذهِ الرائحة اللعينة تُشعرني بالحزن، بالعطف عليّ لو أنني قابلتني الليلة أو أيّ ليلة أخرى لأشفقتُ عليّ!
وحدي في هذا الليل، بملابسي البالية؛ تنورتي الجرداء اللون والتي لا تتناسب على الاطلاق مع قميصي الفضفاض و القبيح بشكل مخزي، أشعر أن الريح تسخر مني، تصفعني على قفاي ، تلطمني على خدي، ثم تجري بين الازقة و تضحك مني بضحكتها القبيحة ذاتها ككل ليلة.
آه من هذه الرائحة.. لو أن الريح تأخذها معها.. لكنها باقية.. اشعر بكتفي \”يستحكني\” استغل خلو الشارع؛ امد يدي تحت بلوزتي، لكن لا شيء، انها الرائحة فحسب، هذهِ الرائحة التي ذكرتني بالادوية التي بقيت مضطرة لتجرعها دائماً بسبب هوس أمي بالصحة، لا أفهم ما الذي يغريها في هذهِ الحياة لتتمسك بها بهذهِ القوة!
ماذا تفعل الآن؟
لا بد انها تجلس أخيراً بعد أن غسلت يديها للمرة العاشرة على التوالي، ها هي تجلس على الكرسي الخشبي العتيق، لكنها ككل مرة ستتركه قبل أن تستقر عليهِ، تُفكر انه و بسبب ارتخاء مفاصله فان ظهره سيميل إلى الوراء وستؤذي فقرات ظهرها أو مفاصل ركبتيها لأنها ستضطر إلى ثنيها وهي تجلس إلى هذا الكرسي الذي هبط إلى أسفل بسبب ثقل الاجساد التي استرخت عليه..
تسترخي على فراشها الممتد وسط الصالة الصغيرة والمظلمة بسب استخدام الاضواء الاقتصادية بضوئها الخافت الباعث على الكآبة، جهاز الضغط الالكتروني بأرقامه الحمراء لا يقنعها، تقيس ضغطها قبل وبعد الحبة، أخيراً تغمض عينيها ولكنها تعود إلى القلق بشأني وتبقى مستيقظة بانتظاري..
شعور عميق بالخفة يغمرني كلما نزلت من السيارة، تتوقف الدباببيس عن وخزي تحت جلدي.. أجلسُ دائماً إلى جهة النافذة ومع ذلكَ لم أحفظ الطريق يوماً.. أنسى نفسي في مرحلة ما.. يتشتت أنتباهي دائماً.. بعد سنتي الاولى بالعمل تعلمت التغاضي عن تلك المضايقات الصغيرة، في البدء كنت أضع حقيبتي بيني وبين الجالس بجواري أيّ كان .. لكنِ عرفت ان هذهِ طريقة لسرقة الفتيات الخجولات أمثالي؛ بعد أن عدتُ للبيت ذات ليلة بحقيبة ممزقة بما يبدو انه مشرط حاد.. لم أفعلها مجدداً لكنني أستمريت بوضع كيس من اشياء لا قيمة لها، اوراق ملونة أظنها صالحة لشيء ما لا أدركه، أغلفة حلوى تبرق تحت الضوء، بقايا المواشير المذهلة التي قد يسعفني الحظ بالحصول عليها فيما لو أنكسرت أحدى الثريات، خرز ملون يتساقط من هنا وهناك، أزرار غريبة الالوان والاشكال وحتى أوراق الورد الذابلة التي أجمعها أثناء تنظيفي بيت \”الحجية أم عادل\”.. لديّ صندوق كامل من هذهِ الأوراق أجمعها وانثر عليها الماء بلطف وأحتفظ بها في أكياس صغيرة أكبسها إلى دفتر كبير أتسلى بالنظر إليه كل ليلة…
أحتفظ كذلك في صندوق صغير بأوراق الملاحظات التي يتركها لي \”عادل\” الإبن الاكبر للحجية.. \”عادل\” في حدود الخامسة والثلاثين او ربما كانَ أكبر أو أصغر.. أخرس يحمل معه دفاتر الملاحظات الفاخرة، بنقوش تجعلني أحزن ان يذهب هذا الجمال إلى سلة المهملات..
خطهُ جميل.. يكتب لي دائماً اشياء من قبيل: \”شاي بملعقتين، ملعقتا سكر من الحجم الكبير.. كوبي أنا، لا تنسي ذلك، أغسلي الكوب جيداً، والملعقة جداً\”.
نادراً ما أراه، لا أعرف ماذا يفعل في غرفته وهو يغلق الباب عليهِ طوال النهار.. ويترك لي ملاحظاته في جيب خشبي صغير أضافه النجار للباب خصيصاً لهذا الغرض، يضع الورقة ويعود لغرفته ومن هناك يضغط زر النداء وبعد ان البي طلباته اتركها على الطاولة الخشبية جوار الباب وأدرك انه ينتظر ابتعاد خطواتي قبل أن يفتح الباب مجدداً..
أجتاز الشوارع بسرعة، ربما ثمة فائدة أجنيها من رجوعي المتأخر في الليل وهي أن لا يراني أحد.. وهكذا تخف الأقاويل.. ولكن ما شأني أنا بالإقاويل، أنا لا اسمع كلام الآخرين أذاً انه غير موجود..
يجدر بي القلق لإشياء أكثر أهمية، الشوارع المعتمة على سبيل المثال، أن أبحث عن شوارع مضاءة ، أن أبتعد عن أبواب البيوت و المحال و أبواب السيارات حتى و أن كانت مطفئة، أن أنتبه إلى أيّ ظلٍ يقترب من ظلي، الظلال تستطيل بتأثير اضواء النيون مما يجعل أستكشافها أسهل، أن أبتعد عن أي ظل يقترب مني، و أن لا التفتت خلفي لإي سبب، من يدري ما قد أراه أو ما قد يراني..
تباً .. المسافة طويلة هذا اليوم، ما كانَ علي أن أنزل في مكان بعيد هكذا.. ساتأخر و ستجن أمي، عليّ أن أسرع .. لكن لا، لا تركضي و تثيري أشتباه أحد.. قد تثيري في اسوء الاحتمالات شبهة دورية ما .. لن يصدق أحد إنكِ مجرد خادمة عائدة إلى البيت بعد منتصف الليل لتحمل الطعام لإمها المجنونة التي أورثتها هذهِ الوظيفة!
في لحظة فزع خُيل إليّ إن رنين الحلقات المعدنية بحقيبتي أصوات أقدام تتبعني.. ركضت و أنا لا أستطيع التنفس من فزعي حين دفعت باب المنزل أخيراً التقطت أنفاسي بصعوبة بالغة، كنت أسمع دقات قلبي تصل إلى أذنيّ ..
كانت امي نائمة على غيرالعادة، كانت تتوسط الصالة مغطاة بعبائتها لا يبان منها شيء سوى شعيراتها الحمراء تتطاير .. ضحكت وتخيلتها هي ذاتها هذهِ المدينة.. وان الليل عباءتها الحمراء التي تتلفع بها وتغفو والساعة لم تتجاوز العاشرة والنصف حتى.