الشعر الحقيقي لا يذبل ولا يضمحل ولا يموت إذا نُقل من لغة إلى أخرى..
\”أبو زيد العبادي حنين بن اسحاق\”
فعل الترجمة تتكون أوصافه من الاختيارات الدقيقة الرصينة، للالفاظ والمعاني والدلالات، التي يفضلها هذا المترجم أو ذاك، وتلك معضلة حقيقية تحرم المتلقي من براءته مثلما تصادر خياراته الجمالية وقد تنوب عن ذوقه أحياناً، وفي هذا الاتجاه النقدي المضمر لا يقوم المتلقي، أثناء عملية القراءة النقدية، بالمفاضلة بين مثالب الخيانة وفسحة الوفاء، للنص المترجم.
هذا التوصيف لا يقدم لنا لغة شعرية مختلفة مغايرة ولا يرتقي بالشعر المترجم إلي منظومة التجريب والتجريد والتجديد والنزعات الفنية، لذلك ينبغي علينا أولاً، تعقيم هذا الوصف من المفاضلات النقدية الجامدة لنضعه في مكانة التجريد حتي لو أحاطنا المعني بالالتباس وثانياً، الإشارة إلى أن الترجمة يشوبها قدرٌ ملموس من الحذر شأنها في ذلك شأن جلّ الإنجازات الإبداعية الفردية، إذ نجد فيها نزعات نقدية جنباً إلي جنب مع نزعات لغوية محضة، كما أننا نجد فيها نزعات فردية جنباً إلي جنب مع نزعات جمالية صارمة، لذلك سنسعي في مقالنا هذا إلي محاولة التعرّف علي المعنى الحقيقي للنص المترجم، بإشاراته السيميائية أيضاً، الذي وجهه العراقي كاظم جهاد صوب أعمال الشاعر الألماني \”راينر ماريا ريلكه\” الفرنسية .
إن قراءتنا لما يترجمه كاظم جهاد، لا تستند إلي تصنيفات وأحكام عابرة، بل يمكن القول بأن جملة من هذه الأحكام تستمد أصولها من الأغراض الفنية الجمالية، ومن الممكن القول أيضاً، بأن تقييم هذا المنجز الإبداعي كان بمعني ما رد فعل لإكمال المعاني الشعرية والفنية والرمزية، المكتوبة بلغة أخرى، إكمالاً كلياً وفنياً وجمالياً.
المترجم أشار في سياق تقديمه \”عن الترجمة\” لأشعار ريلكه الفرنسية الكاملة بالقول: (وما دمتُ بصدد الحديث عن الترجمة، فليسمح لي القارئ بالإعلان هنا عن مقصدي الفني، ما حاولت الوصول إليه في هذا العمل وإن كنتُ أجهل درجة نجاحي فيه ص15(.
فمن خلال هذا الكلام الذي أدرج الفني في حضرته نستطيع الوصول إلي طبيعة الخيال الشعري المنقول من لغة أخرى، وهكذا وبعد هذا الكلام أصبح لزاماً علينا أن نفكر بالقراءة المتأنية التي تتيح التقاط الأنفاس ولفظها .
كيف لنا أن نقول قولاً أو نكتب كلاماً في الشعر وترجمته، وقد قيل وكتب عشرات المقالات في عشرات المجلات والصحف والدوريات الصادرة في العالم العربي في هذه الترجمة أو تلك؟ رغم ذلك ما زلنا نستشعر هذه الحاجة اليوم بأشدِّ من الأمس.
كيف لنا أن نصوغ قولنا أو كلامنا في هذه الترجمة وغيرها صياغة تستدرج خيال المترجم في مناقشة نسعي إلى بدئها أو الاستزادة منها، وقد استهلكت صياغاتُنا السابقة، أو كادت تستهلك كل مفردات الكتابة النقدية المتعلقة فيها؟ إنه سؤال صعب ومحيّر في آن .
ولكن لهذه الحاجة أو الضرورة المستجدة الآن أسباباً لا تنبع من فحوى الكلام أو الترجمة أو قدرة المترجم الذي يستنبت من خياله ضرورات سيرورته الشعرية، بل إنها نابعة من فعل معرفي وفكري ونقدي واقع داخل الذهن، فعل واقع أو سيقع علي خيال وذهن المتلقي في معارفه وقراءاته وثقافته.
فإلى جانب ما تتطلبه طبيعة الشعر من تطور وحركة دائمين، بحكم الضرورة الإبداعية، وبحكم ما تفرضه التحولات المعرفية المتنوعة التي تعصف بعالمنا المعاصر، وما تعكسه هذه التحولات علينا فإن ترجمة الشعر، لهذا الشاعر أو لغيره، تشكل حدثاً معرفياً أو إنجازاً ذا أبعاد بالغة الضرورة، متعددة المستويات المعرفية، فاعلة في حقول الإبداع الأدبي والفني، الحياتي والجمالي.
أن تترجم هو أن تخون، يقول الفرنسيون، لكن الجاحظ يستدرك هذه العبارة ويقول: (ان الشعر لا يمكن أن يترجم من لغة إلى أخري إلا بما يوازيه أو يماثله)، فالاستحالة الجاحظية لترجمة الشعر ليست مطلقة أو متمادية، بل هي مقيدة جداً بشعر آخر أو بخيال شعري آخر يمثل ما يوازي، على الأقل أو للضرورة، النص الأصلي المكتوب وهو على وجه الدقة والتمحيص والحذر ما يمكن أن يفهم من \”التناص\” أي بمعني إنشاء وإبداع وابتكار نص علي نص أو نص من نص.
ولهذا شدّد الجاحظ على عدم إدراج الترجمة في فعل الخيانة، وهذا رأي معرفي دقيق وصارم، ومن هنا يبدو واضحاً عدم الإقرار بالخيانة الشعرية.
بين المترجم والنص الأصلي علاقة تداخل ومشاركة، بينهما قربى معرفية أو خيالية مزدوجة وليس القول بأن المترجم لا يمكن له أن يترجم النص الأصلي وأن هذا الأخير في عالم والمترجم في عالم آخر هو قول ليس صحيحاً، فالترجمة هي، بالعام، كتابة من النص وفيه، أي أن المترجم يدخل في النص أيضاً ويسعي ليكون أميناً فلا يشطّ أو يطغي بخياله علي خيال الشاعر، لكن على المترجم، وهذا ما لمسته من خلال معظم ترجمات كاظم جهاد.
أن يذكر بأنه معني بالتماس مع الأصل وبالعمق أيضاً ليساعدنا علي معاينة حيز الاختلاف والتماثل، فالقارئ الحقيقي ليس مجرد آلية خاوية أو حالة عابرة، انه يتنقل مع معاني النص واللغة الوافدة إليه من خيالين لا ينزلقان بالتجربة الشعرية إلى إفراغ المعاني من الوظائف والضرورات أو إلى جعل اللغة الشعرية جامدة (فكل لغة تظل عرضة للتطور الخلاق، تجد نفسها مسوقة إليه بدافع من انبثاق مناطق جديدة للإدراك والوعي ص16)، هذا ما يقوله المترجم كاظم جهاد.
ولكن تحديد التطور يبدو ضرورياً، ولعل ما تقدم من كلام يحمله إلى كونه سؤالاً عن التجديد من جهة، وفي كونه سؤالاً عن حيّز الإدراك الذي يرتبط بالوعي والمعرفة وأسرار اللغة.
يبدو لي أن السؤال، أعلاه، في ازدواجه قائم أساساً كسؤال عن وظيفة الترجمة التي ارتبطت بعلاقة وطيدة مع اللغة الثانية، اللغة التي جاءت إلينا أو التي ذهبنا إليها، فالشعر المترجم الذي قرأنا أو الذي أقُرئْنا والذي كان في مختلف أوجه الاتصال به حاملاً معاني جديدة في الأدب والفن والفكر يكشف ونكتشف أن الأدب عموماً أو الشعر خصوصاً يختلط بكثير من المشتركات الحضارية، وقد ينفتح سؤالنا السالف أيضاً عن معنى الثقافة علي معان تتعلق بالمعرفة وتنظر في علاقة الترجمة بلغتها وتاريخها، وتبحث عن الهوية الحقيقية والعالمية للشعر والمعيار الفني والنقدي والإبداعي له.
ولأن الكلام علي الشعر المترجم هو، في العمق منه، كلام علي سيرورة المترجم الشعرية، ففي ضوء هذه السيرورة يرتسم سؤال الشعر كتشابه في السياق أو كبحث عن المعنى، وليست السيرورة مقصودة لشعرها أو (المُحدثة للرجّة الشعريّة بتعبير كاظم) بل لتساعدنا علي معاينة حيز الاختلاف والتشابه، في المعاني، معاً ولنقرأ في هذا الحيّز ما يقوله المترجم: (نجد لدي الكثيرين من القرّاء والنقُّاد العرب نوعاً من التلقي العقلانيّ والتطهّري للّغة يجعلهم يطالبون بإدراك المعني رأساً بلا تعقيد ولا مداورة ص16(.
ولكي لا تتعرض قراءتنا لمضار الاجتزاء والانتقائية العشوائية وقد تنزلق أيضاً إلي إفراغ المعاني من وظائفها، كما أسلفنا، علينا التعامل مع التلقّي بطريقة نقدية معمقة فالقصيدة الوافدة/ المترجمة من لغة أخرى تساعدنا على فتح أبواب القراءة على بعضها البعض أي إلى القراءة التي تنعكس بها هذه المعاني في الوعي المعرفي والفني والنقدي المزامن لها.
جمالية الترجمة، لدى المترجم، ترسم تطور المعرفة الشعرية/ اللغوية القائم على التماثل، أحياناً، وهو تماثل العلاقة القائمة بين النص الأصلي والنص المترجم والذي ينقلنا بدوره من الواقع المعرفي للشعر إلى الواقع الحسي واللساني للغة، ونحن إذ نرى، من خلال القراءة، إلى هذه الجمالية المتعلقة بالترجمة، إنما نرى إليها في تشكلها البنيوي المتصل بالدلالات الفنية التي لا بد للمترجم أن يلمسها بمنتهى القداسة من جهة، والموازي لبنية النص الذي يستجيب لخيال القارئ المتحكم بقراءته النقدية من جهة أخرى، تلك القراءة المدركة الباحثة عن المعاني والإشارات والمنقبة في الهوامش المتصلة بالنصوص أو المتداخلة مع دلالة المعنى المتعلق بالنص المترجم.
ثمة ملاحظة نقدية أخرى تتعلق بالهوامش، أيضاً، التي يكثر منها المترجم وهي بمثابة عملية استقرائية تستخلص المعاني الشعرية العامة ليحللها ويشرحها ويناقشها وهذه الهوامش/الإشارات الضرورية الموجودة أسفل بعض النصوص لا تؤدي إلاّ إلى تعزيز هيبة المعنى وجماليته أو الإبلاغ عنه واستكشاف معاني النصوص المترجمة ولإنتاج جمالية موازية تُبدي فنيتها بشكل متكامل.
فالمترجم الُمبدع هو الذي يأخذ من النص أكبر قسطٍ من جوهره ليسخره لإرادة المعنى ويُخضعه لخياله، هذه التفاصيل شكّلت أساس المعني المترجم المرتبط بالمتن أو الحاشية وهكذا أيضاً تنتظم جميع مفاصل القصيدة المترجمة في صورها الشعرية المختلفة وفي دلالاتها الرمزية واللغوية، من هنا أيضاً نتقاطع مع من يقول أن الهوامش أو الشروحات الكثيرة في الترجمة تفقد النصوص روحها الشعرية.
هامش:
راينر ماريا ريلكه/ الأشعار الفرنسيّة الكاملة/ ترجمها ومهّد لها بكلمة كاظم جهاد ومن تقديم فيليب جاكوتيه ط1/ 2006 منشورات الجمل.