ترجمة: ميادة خليل
قليل هم المبدعون الذين بنو هياكل عظيمة على أسس غير مؤكدة, كما فعل خورخي لويس بورخيس. الشك كان مبدأ مقدسا في أعماله, قوة فاعلة, وفي كثير من الأحيان, الشك رسالة أعماله. قراءة قصصه هو لتجربة التخلي عن كل يقين, كل افتراض حول مصداقية تجربتك أنت في العالم. بورخيس من الشخصيات الأدبية العظيمة في القرن العشرين, ويبدو أنه على الأقل مقتنع بنفسه ــ بفرض صورة وهمية لشهرته. بورخيس كان أكثر شكاً حول فكرة الكاتب, الرجل, الذي يدعى بورخيس.
قي مقطع من مذكراته \”بورخيس وأنا\”، خاطب شعورا عميقا بين نفسه والآخر \”الآخر, الذي يدعى بورخيس\”, \”أحب الساعة الرميلة\” كتب بورخيس, \”الخرائط, أسلوب الطباعة في القرن الثامن عشر, طعم القهوة, ونثر ستيفنسون, هو يتقاسم هذه الخيارات, لكن بطريقة عبثية تحولها الى سمات خاصة لفاعل ما\”. فهو لا يدرك أي شيء تقريباً عن نفسه في شخصية أدبية بارزة يشاركها الاسم, الوجه, وبعض الصفات السطحية الأخرى. \”لا أعرف أي واحد منا قد كتب هذه الصفحات\” قال بورخيس.
هذا الجزء المؤرق الغاضب أعيد نشره في مجمله في كتاب \”بورخيس في الثمانين: حوارات\”, وهو مجموعة من الحوارات التي أجريت معه في 1980 أثناء رحلته الى الولايات المتحدة, والتي تم نشرها في طبعة جديدة من قبل دار نيو دايركشن للنشر. هو سياق توجيهي ساخر يصل فيما بعد الى نص من حدث جماهيري في جامعة إنديانا حيث كان تقرأ قصائد وقطع نثرية لبورخيس بصوت عالٍ باللغة الانكليزية, يتبع ذلك تعليق مرتجل من قبل الكاتب. عندما خاطب الجمهور, كان يبدو أنه يتحدث لــ \”أنا\”، لكنه بالطبع \”بورخيس\” نفسه من تحدث:
\”بورخيس دافع عن كل الأشياء التي أكرهها. هو يدافع عن الشهرة, عن تصويره, عن الحوارات, عن السياسة, الآراء ــ يجب أن أقول أن كل الآراء سيئة. هو يدافع أيضاً عن هذين التافهين, هذين المحتالين: الفشل والنجاح […] هو يتعامل مع هذه الأشياء, بينما أنا, دعنا نقول, منذ أن كان اسم الورقة \”بورخيس وأنا\”, لم أدافع عن الرجل المشهور لكن عن الذات, عن الواقع, منذ أن أصبحت تلك الأشياء الأخرى غير واقعية بالنسبة لي\”.
بالنسبة لشخص يكره إجراء المقابلات، فان بورخيس كان محاوراً غزيراً وثرثاراً, وللأشارة الى هذه النقطة هناك خطر فقدان مضمون ما قاله, فليس من البساطة أن يشعر بان نفسه على خلاف مع شخصيته العامة, لكنه يشعر بضعفه في الخلاف معها (مثل هذه المفارقات هي مخاطر مهنية في أي لقاء مع بورخيس). أحد جوانب الكتاب الأكثر إثارة هو تفاعل هذه العناصر غير المتوافقة: متعة بورخيس الواضحة تبدأ بالمبادرة بتقديم نفسه للاستهلاك الجماهيري, وشكه المتصوف حول الاحتيال الضروري للكاتب كشخصية عامة.
هناك شيء بورخيسي ساحر حول الطريقة التي يكون فيها الوعي الذاتي للسلوك هو في حد ذاته أدائي للغاية. هذا الانشغال بالتقسيم الذاتي ينحرف عندما يقترب من الفعل الوجودي المزدوج, رجل واحد يؤدي روتين رجلين غريبين. \”كل الجمهور الذي يجلس هنا يريد أن يعرف خورخي لويس بورخيس\” يبدأ المحاور, في بداية كتاب الحوارات. يرد بورخيس: \”أتمنى لو أني أفعل ذلك. أنا مريض ومتعب منه\” بالنسبة للكاتب, لم يكن متمرساً عظيماً من قبل موضوع نفسه. هو مهتم باهتماماته وليس بحقيقة أنها تمثله, بورخيس, الذي يهتم بها. أن يكون نفسه لم يكن أكثر من عمل شاق \”عندما استيقظ من النوم,\” قال بورخيس لأحد محاوريه, \”أشعر دائماً بخيبة أمل, لأني, حسناً, أنا هنا. هنا نفس اللعبة القديمة الغبية مستمرة. يجب أن اكون شخصا ما, يجب أن أكون بالضبط ذلك الشخص. لدي التزامات معينة. إحدى هذه الالتزامات هو عيش اليوم بأكمله\”.
لم يكتب بورخيس عملا أدبيا أطول من أربعة عشر صفحة. \”إنه جنون شاق وافتقار\”، كما كتب في 1941, \”جنون تركيب كتاب كبير ــ تضع في 500 صفحة فكرة يمكن أن تقولها شفوياً بخمس دقائق\”، لكن أعتقد, ربما, أن السبب الحقيقي الذي جعله لم يكتب رواية أبداً هو أن شكل الرواية يعتمد بشكل كبير على الشخصية. وبورخيس ليس مهتماً بذلك, أو ببراعة خلق أناس أحياء نفسياً (حاول أن تروي لوبولد بلوم شفوياً في خمس دقائق, أو السيدة دالوي, أو آنا كارنينا. عظمتهم كشخصيات جاءت من عدم قابلية اختزالهم الى أحداث تعبر عنهم). لم يبلور بورخيس الشخصيات كثيراً, ولم يكن من نوع الكتّاب الذين تستولي عليهم شخصياتهم. من أكثر إبداعاته التي لا تنسى ــ \”الحافظ فيونس\” أو بيير مينارد ــ نتذكر هذه الشخصيات ليس من أجل قناعات أرواحهم المبتكرة، ولكن من أجل الأحداث التي وضعهم بها, الخيال الإبداعي الذي شق طريقه نحو السرد من خلال فكرة جنونهم الخاص. شخصياته ــ بمن فيها شخص يدعى بورخيس, البطل الذي تكرر كثيراً في قصصه ــ تميل الى أن تكون رموزاً. قصصه مصنوعة من الخيال, مستمدة من القراءة, وليست من الحياة. وهو نفسه, الشخصية التي صادف أن وقعت في إطار سردي يدعى الواقع, ليست مختلفة. \”لماذا على الأرض\” سأل شخص آخر في هذه الحوارات\”، يجب أن أقلق لما يحدث لبورخيس؟ بعد كل هذا, بورخيس لا شيء, مجرد خيال\”.
الرجل الذي نراه في هذه المقابلات الإحدى عشر هو الشخص الذي صُنع من الكتب, أمين المكتبة الذي غالباً ما أشار الى أن فكرته عن الجنة هي مكتبة لا نهاية لها ــ مثل عطلة أبدية لسائق باص. هو يتحدث عن نفسه كقارئ أولاً وككاتب ثانوي فقط. أن طمس الذات هذا يبرز من تواضعه الحذر, وغريزة محو الذات لم تجعلها أقل دقة أو مكشوفة. كتابة بورخيس كانت دائماً, الى حد ما, شكلا مبتكرا من القراءة, وأفضل قصصه كانت تأملات في حالة من الخيال: مقالات عن كتب وقصص كان وجودها الرئيسي ليس الناس ولكن التخيّل. كان نموذج لأديب القرن التاسع عشر, يمتلك نوعا من المعرفة الموسوعية التي يبدو أنها غير موجودة بعد الآن. وهذا يقودنا الى واحدة من المفارقات البنيوية في صميم عمل بورخيس. هو أستثمر الماضي بقوة في فكرة الحياة وتطور التراث الأدبي. \”أنا أعتقد بأني لست كاتباً معاصراً\”، قال هنا, \”لا أعتقد أني كاتب معاصر للسريالية, أو الدادائية, أو التصويرية, أو أي نوع من السخافات المعترف بها في الأدب, لا؟ أعتقد أني أديب بشروط القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. أنا من محبي برنارد شو, هنري جيمس\”. وحتى هذه المحافظة الشمولية الغريبة كانت أساس أرث بورخيس الراديكالي, وسيلة جديدة للتفكير حول القصة وعلاقتها بالعالم.
غرقه في التقاليد يمكن أن نراه أيضاً في كتاب جديد آخر نشرته نيو دايركشن, الأستاذ بورخيس: دورة في الأدب الانكليزي \”الكتاب جمع نصوص من محاضرات حول تاريخ الأدب الانكليزي كان بورخيس قد ألقاها في جامعة بوينس آيرس عام 1966. كانت نصوص شمولية دون خجل وفقهية تماماً, بدأت مع الأنكلو – ساكسون, وقدمت فيما بعد الى باقي المحاضرات, خمس وعشرين محاضرة عن روبرت لويس ستيفنسون, وهو كاتب بورخيس المحبوب. لسوء الحظ, لم تكن تلك النصوص من أجل السيطرة على القراءة بشكل خاص. نهجه في الكثير من أعماله التي يعد حاضرها هو نهج وصفي الى حد كبير, وبهذا يتسنى لنا الحصول على وصف شامل ومنصف لما حدث في \”بيولف\”, أو بعض من أكثر الجوانب أهمية لـجونسون في حياة بوزويل, ولكن ليس قريباً من رؤية أي من توقعاتك عن هذا العقل الأدبي العظيم.
\”بورخيس\” الذي ظهر, أو ربما أدى, في هذين الكتابين يبدو مثل أديب أفلاطوني مثالي: الرجل الذي علم نفسه الألمانية لأنه أراد أن يقرأ النص الأصلي لشوبنهاور, وتعلمها, وعلاوة على ذلك, من خلال قراءة شعر هاينه, الرجل الذي علم نفسه اللغة الايسلندية من أجل متابعة اهتمامه بالملاحم الاسكندنافية.
فقدانه البصر قد يبدو تقبلا غريبا: في حواراته, تحدث عن \”الضباب المضيء\” لعماه, كما لو كان نوعا من النعمة. إزالة كل الأرتباك حول ما كان أكثر أهمية, أكثر واقعية ـــ ليعيش حياة العقل. (لم تقل أبداً رغبة الناس لقراءة كاتب عظيم في شيخوخته).
ولكن كانت هناك أشياء لم يرها بورخيس, أشياء ليس لها علاقة بعماه الجسدي ــ أشياء لا يراها لأنه غير مهتم بالنظر اليها. المحاضرة في \”الأستاذ بورخيس\” لا تبرز أي شيء مكتوب من قبل امرأة. المحاضرة عن تاريخ الأدب الانكليزي لا تتضمن أسماء مثل أوستن, ولا شيلي, ولا شارلوت أو إميلي برونتي, لا اليوت, ولا وولف. كان معجبا جدا بشعر إيميلي ديكنسون, لكن حتى هذا الاعجاب لم يخل من التعالي: في حوار مع محرر الكتاب, ويليس بارنستون, وصف بورخيس ديكنسون على أنها \”أكثر عاطفية من جميع النساء اللواتي حاولن الكتابة\” ضحكت بصوت عالٍ عندما قرأت هذا, وبعدها قررت أن أقدم لبورخيس فائدة الشك, أن أقدم سياق المحادثة المرتجلة بلغة ــ على الرغم من احتجاجاته المحبة لبريطانيا ـــ لم تكن جديدة بالنسبة له، لكن بعد ذلك وصلت الى هذه اللحظة, ستة عشر صفحة أخرى, في حوار مع اليستر ريد وجون كولمان لصالح نادي القلم نيويوركر:
كولمان: بورخيس, لقد تحدثت عن الأدباء الذكور الذين يعجبونك, ماذا عن الأديبات؟ هل يمكن لك أن تعرفنا على أديبات تعتبر مساهمتهن أكثر أهمية؟
بورخيس: أعتقد أني سوف أقتصر على ذكر واحدة: إيميلي ديكنسون.
كولمان: واحدة فقط؟
بورخيس: نعم واحدة فقط, قصيرة وحلوة.
ريد: أعتقد أنه يجب الإشارة, على أي حال, أن هناك أكثر من ذلك.
بورخيس: نعم, بالطبع. هناك سلفينا أوكامبو, على سبيل المثال, التي قامت بترجمة أعمال إيميلي ديكنسون في هذا الوقت في بوينس آيرس.
عالم بورخيس الخيالي ذكوري, ظالم بلا هوادة. كتب عن عدد قليل جداً من الشخصيات النسائية, وهناك رؤية رجولية ـــ عدوانية, لا تعرف الخوف, صارمة ــ موجودة في أعماله كمزيج لحني لوساوس حبه للكتب, وليس لهدف منح مجال أكبر لوجود النساء, الكتّاب أو غير ذلك. التجريد يعني له, من بين أمور أخرى, استئصال الغضب والفوضى من العلاقات الانسانية. هناك حب قليل جداً في أعماله, قليل جداً من غباء العاطفة, ثرائها وتعقيدها, من المشاكل الفلسفية, من اللاهوت وعلم الوجود, وليس من العلاقات الانسانية.
وبالتأكيد ليس التعقيد الانساني الواسع للسياسة. التحفظ من السياسة قد يبدو قوياً في قصصه, لكنه من الصعب الخروج من قراءة هذه الحوارات دون أن تراها كأي شيء آخر عدا أن تكون نقطة ضعف خطيرة في حياته. من المفهوم, بأنه غالباً ما يسأل عن الظلم والوحشية في تاريخ الأرجنتين الحديث, ودائماً, يجد السبل للتهرب من هذه الأسئلة, بأسلوب غالباً ما ينتهي بالكشف عن أكثر مما كان ينوي. في برنامج \”ديك كافيت\” سأله كافيت أن كان يمكن أن يحسب متعاطفاً مع النازيين في الأرجنتين:
\”أنظر هنا\”، قال بورخيس, \”لن أفتخر بفهم بلدي، أنا لست سياسي التفكير, أنا أبذل قصارى جهدي لأتجنب السياسة. لا أنتمي لأي حزب. أنا مستقل\”، ألح المحاور في موضوع هتلر, فقال بورخيس: \”بالطبع أنا أكرهه وأشمئز منه، معاداته للسامية كانت سخيفة جداً\”، من الصعب قراءة هذا الآن, على الرغم من أنه يجب أن نعرف أفضل, لكن من الصعب أن نمنع أنفسنا من توقع الحكمة من شخص كان يعد عبقرياً. معاداة هتلر للسامية ربما كانت سخيفة, لكن ذلك كان بعيداً جداً عن كونه جانبها الأبرز.
رفض بورخيس التعامل مع السياسة لم يكن ليلاحظ لو أنه لم يكن قد عاش خلال حربين عالميتين, وفي بلده حدثت ستة انقلابات عسكرية وثلاث ديكتاتوريات. في مقابلة تحمل عنوانا مكشوفا \”لكن أنا أفضل الحلم\”, أحد الحاضرين سأله عن دور المبدع في مجتمع مهدد. وبدلاً من أن يقول أن دور المبدع يجب أن يكون صناعة الابداع, أعطى بورخيس إجابة تبدو بحد ذاتها مهددة ومراوغة بشكل غريب. \”لن أستخدم الإبداع من أجل السياسة\”، قال بورخيس, \”تفكيري ليس سياسيا، تفكيري جمالي, فلسفي, ربما. لا أنتمي لأي حزب. في الحقيقة, أنا كفرت بالسياسة وبالأمم. أنا كفرت أيضاً بالثراء, والفقر. هذه الأشياء هي أوهام. لكني أؤمن بمصيري ككاتب محايد جيد أو سيء\”.
شعور الشك لدى بورخيس كان عميقاً, لكن هنا يبدو وكأنه انسحاب تكتيكي من الارهاب الحقيقي والفوضى والظلم في العالم, تراجع في الضباب المضيء لعماه. قصته لم تكن أقل عظمة من تجريده, لكن هناك شيء ما حزين حول هذا المخطط العظيم لمتاهات لم تدخل في التعقيد المتشعب لعصره.
المصدر: نيويوركر