«كتاب العراق» للركابي: مشروع جديد لتفسير تأريخ العراق والعالم (3)

مفهوم دولة اللادولة المشاعية اللاأرضوية

حين كتب هادي العلوي (1932- 1998) عن دولة اللادولة  قبل ربع قرن تقريبا، فقد كان ينظر إليها كحلم مشاعي أو كخطة برنامجية قابلة للتحقق في صورة ما سماها مشاعية القواعد (أي التي تبدأ بالظهور من القواعد نحو القمة على عكس النموذج السوفيتي)، والدولة المتخلصة من أثقالها القمعية، لتكون خادمة لمواطنيها كما أمر التاو الصيني، لا قامعة لهم، والتي يبنيها أولئك الناس أنفسهم من الأسفل، أما دولة اللادولة التي ينظر لها الركابي فهي عنده واقع متحقق طوال السردية الأرضية الرافدانية، ولكنه واقع محكوم بالوعي اللاأرضوي المنطلق من اللحظة التأسيسية مع سومر وبابل، والسائر إلى الفترة العثمانية حيث اشتبكت دولة القواعد “دولة اللادولة/ الدولة الجوانية” معبرا عنها بالكيانية القبلية المسلحة والتي سماها حنا بطاطو “مجتمع الديرة المشاعي”.

وحين نرصد السياقات التاريخية المتحققة فعلا لهذه الدولة القاعدية المشاعية المتصارعة أو بمفردات الركابي “المصطرعة” دوما مع عدو أرضي تارة يكون عيلامياً من الجنوب أو كيشيا أو حيثيا من الشمال أو مغوليا من أقصى الشرق أو بريطانيا من وراء البحار سنرى أن الزخم والسردية التأريخية تؤكد مقولة الدولتين وفق مفهوم المؤلف؛ دولة برانية فوقية وخارج النصاب المجتمعي تقيمها القوة الغازية مباشرة أو بالتعاون مع عملاء مُسْتَجْلَبين (الهاشميين في عهد الاحتلال البريطاني) أو عملاء محليين (الزعامات الشيعية والكردية في عهد الاحتلال الأميركي)، ودولة أخرى قاعدية مستقلة هي دولة اللادولة المساواتية أو “دولة الديرة المشاعية” التي رصدها بطاطو، أو التي تشوفها العلوي بمؤسساتها القاعدية العريقة؛ مؤسسة المضيف العشائري وشيخه غير الوراثي بل الأجدر وجيش الخيالة والرماة المشاة التطوعي. ففي حين كانت القوات العثمانية التركية محصورة في “قشلتها” ببغداد، لا تكاد تخرج منها إلى أرض السواد جنوبا أو إلى الجزيرة الفراتية شمالا إلا لجني الضرائب والاستيلاء على محاصيل وحيوانات الفلاحين والمربين العشائريين وقمع التمردات المستمرة كان العراق القاعدي محكوم برمته من قبل الاتحادات القبائلية وأشهرها تحالف المنتفك في السهل السومري.  

لتأكيد فرضياته النظرية ودعمها بالوقائع التأريخية، يقدم المؤلف عرضاً خاصاً وملفتاً لتفاصيل تأريخية موثقة للفترة المملوكية العثمانية في القرن الثامن عشر حيث بلغت الصدامات الكبرى بين دولة اللادولة القاعدية العراقية مع الدولة البرانية المملوكية العثمانية ذروتها في الثورة الثلاثية سنة 1787م، التي حررت العراق الجنوبي بكامله تقريبا والمعركة الكبرى التي قادها المملوك سليمان باشا الكبير ضدها. ثم عادت المنتفك ونصبت سعيد بن سليمان بك الكبير بعد وفاة والده واليا على بغداد كممثل لها، على أن يكون لها ثلث إيرادات العراق من البصرة ضواحيها، وليكتب داود باشا غريمه وصهره اللاجئ في إمارة آل بابان الكردية في الشمال، إلى الباب العالي شاكياً ومحرضاً بمناسبة تولي سعيد كرسي الولاية: “إن سعيداً قد حكَّم العرب أهل الظلم والغشامة”. وحين كاد أمر العراق يفلت من أيدي العثمانيين ومرؤوسيهم المماليك بادروا إلى احتلال العراق احتلالا مباشرا مجددا وإزالة الوالي المملوك الأخير داود باشا عام 1813. ص 153.

ويبدو لي أن هذا العرض يشكو من شحة في التفاصيل الضرورية وفي الترتيب الكرونولوجي “التأريخي”. فالحقيقة هي أن الذي أسقط ممثلَ المنتفك المفترض المملوك سعيد بن سليمان باشا هو صهره داود باشا بدعم من الباب العالي أولا. فحين هاجم داود بغداد استنجد سعيد بحليفه في المنتفك الشيخ حمود بن ثامر الذي أمده بأكثر من 1500 خيال مثلت حينها القوة الضاربة للسهل السومري وهزمت هذه القوة جيش داود باشا فانسحب شمالاً وعادت القوة العراقية الجنوبية “العشائرية” من بغداد بعد تنفيذ المهمة فعاد داود باشا بحركة سريعة واحتل بغداد وبادر أحد ضباطه إلى قتل سعيد باشا بأن قطع رأسه أمام والدته. ولكن داود باشا نفسه استمر في مسار سلفه القتيل سعيد باشا بن سليمان باشا وهو مسار استقلالي بدائي ضاغط وانتهى بإسقاط داود باشا نفسه.

يمكن الاعتقاد أن ما يقدمه الركابي هنا من قراءة شخصية ومتقطعة وربما الأدق منمذجة بأمثلة يختارها هو لتأريخ القرون الثلاثة الأخيرة من حياة العراق يلخص حكاية العراق الجيوسياسي القديم ومشروعه المستقبلي في آن واحد من وجهة نظره هو كحامل مشروع، وينصب جهده كمؤلف ومؤصل تنظيري على ترصين الركائز النظرية الفلسفية والإناسية لهذه السردية والخروج من قراءتها بتشكيلة افتراضات مهمة تنفتح على الحاضر والمستقبل.

خاتمة قبل أوانها:

 يبدو لي أن وضعي لكلمة “خاتمة” لهذه الفقرة ينطوى على مقدار من القسر والاضطرار فما يزال لديَّ الكثير مما يجب ان يقال وهناك أكثر من فصل من الكتاب لم أتوقف عنده رغم أهميته كالفصل المعنون “أركيولوجيا الإنسايوان/ ص235” و “هندي بلا لون: لاكيانية ولا طبقات/ ص331″وفي الفصل الأخير يقارب تجربة الغزو الأوروبية للعالم الجديد “أميركا”، ولكن نص هذا الاستعراض التعريفي طال أكثر مما ينبغي وعليه سأختم بالتوقف بشيء من الاختصار عند بعض المعالجات النقدية التي قدمها المؤلف في الأسطر التالية:

النقد الذي يوجهه المؤلف للحركة الشيوعية العراقية، ص 195، في نصف الثاني من القرن الماضي وحتى هزيمة هذه الحركة في أعقاب الانقلاب العسكري القومي بتاريخ 8 شباط 1963 ومن ثم تجربة انحطاطها خلال فترة الاحتلال الأميركي وقيام حكم تابع وقائم على الطائفية السياسية التوافقية وهو نقد محق من حيث الجوهر والأعراض حتى في ضوء النقدية الماركسية، وخاصة لتلك الأفكار والممارسات الاستنساخية في العهد الستاليني والطبقوية البروليتارية المفتعلة والمبالَغ فيها في مجتمع فلاحي ذي تراث مشاعي عميق، ولكنه يبدو في هذا الكتاب نقدا سياسيا مكررا فات أوانه فبدا وكانه ينطبق عليه المثل الشعبي القائل “الضرب في الميت حرام”! فلم يعد أحد – حتى من قيادات هذا الحزب – يأخذ بتلك الأفكار بل أن قيادة هذه الحركة تخلت علنا عن “اللينينية” وحذفتها من وثائقها واكتفت بالماركسية، وليتها فعلت ذلك بالعودة إلى جوهر الماركسية الثوري الاستقلالي، ولكنها فعلت ذلك متجهة نحو نسخة شاحبة من “الاشتراكية الديموقراطية الأوروبية الخادمة للإمبرياليات وحروبها الاستعمارية”. وقامت تلك القيادة في فترة الاحتلال الأميركي بممارسات انتهازية أبشع وأكثر يمينية مما يمكن تخيله، وأكثر تبعية وذيلية للأحزاب القومية الكردية وزادت عليها تقليدا خطرا جديدا هو العمل في خدمة الاحتلال الأميركي يدا بيد مع أحزاب طائفية شيعية وسنية وقومية كردية، وارتضت أن تحسب على “الحصة الشيعية” بذريعة أن ممثل الحزب حميد مجيد “تركماني شيعي” فما علاقة ماركس والماركسية بهذا الهُراء الانتهازي كله؟! أعتقد أنَّ نقد المؤلف للحركة الشيوعية العراقية وركائز النظرية الماركسية في طورها الستاليني خصوصا بهذه الطريقة يعتبر نقداً نافلا ولا جدوى منه ولا ضرورة له إذا كان يعتبر الماركسية متعينة حصرا في تعاليم ستالين وبيانات قيادات عزيز محمد وحميد مجيد وليس ماركسية الجوهر المادي الفيورباخي الممتزج نقديا بالديالكتيتك الهيغلي على يد ماركس والماركسيين الرواد، والمستفيدة من كشوفات وفتوحات العلوم الإنسانية والتجريبية الحديثة في عصرنا. 

ومع ذلك يبقى نقد المؤلف مشروعاً لجهة أنه نقد ذو جنبة سياسية يبتغي تسجيل المواقف والتأرخة الحدثية في ضوء الفرضيات اللاأرضوية والازداوجية المجتمعية اللاطبقية التي يقول بها المؤلف، والتي تحتاج هي نفسها إلى براهين مضبوطة وملموسة تحولها من فرضيات نظرية إلى نظرية مبرهن عليها. غير أن هذا الواقع المنقود للحركة الشيوعية العراقية لا يمنع من التفكير بأن هناك إمكانيات واسعة ورحبة يقتضيها الواقع العراقي بفوضاه ومشكلاته المتفجرة المتراكمة ما سيؤدي مستقبلا إلى نشوء حركة مشاعية مساواتية ماركسية ثورية جديدة، حركة ثورية تستلهم جوهر ماركسية ماركس والرواد وتغتني بالتراث المشاعي والصوفي الرافداني.

وأخيرا، كيف يمكن أن نلخص مشروع الركابي التفسيري والتغييري الذي ينطوي عليه هذا الكتاب؟ في الواقع ليس من السهل العثور على نبذة صغيرة تلخص لنا هذا المطلوب في متن الكتاب أفضل من هذه الفقرة التي نجدها في مقالة بقلم المؤلف نُشرت بعد صدور كتابه بأشهر قليلة، فقرة مفيدة لنا في سعينا لكنتاه جوهر وآفاق المشروع الذي يستلهمه الركابي يقول فيها: “لقد انتهت الإبراهيمة النبوية الحدسية، كما انتهت التوهمية الغربية الأرضوية، ليغدو العالم والجنس البشري على موعد صعب وعسير غير مسبوق مع الرؤية اللاأرضوية العلّية السببية المنطلقة من أرضها الاولى، أرض ما بين النهرين/ صحيفة المثقف عدد   22 آب/ أغسطس 2024.

فما الذي نفهمه من هذه الفقرة المفعمة بنفس تبشيري وخلاصي ذي طبيعة شخصية فردانية؟

يمكن أن نسجل أولا، أن المؤلف في هذه الكلمات القليلة يعتقد بانتهاء الإبراهيمية النبوية الحدسية كمشروع عرفناه في صورته الفرقية ضمن السرديات الإسلامية “الملل والنحل” القديمة، أو في مشاريع الحركات الإسلامية المعاصرة بشتى تلاوينها المذهبية والأيديولوجية السنية والشيعية. كما يمكن أن نسجل ثانياً اعتقاد المؤلف بنهاية ما يسميه التوهمية الغربية الأرضية بيسارها ويمينها وعلومها الإنسانية ذات التخصصات المعنية لنفتح الباب واسعا أمام الجنس البشري لتجسيد الرؤية اللاأرضوية العلّية السببية، وأين؟ على أرضها الأولى أرض البدايات الرافدانية.

أعتقد أننا هنا إزاء بشارة بلاغية تستند إلى مجموعة من الفرضيات التي انطوى عليها هذا الكتاب – وكتابات المؤلف الأخرى في هذا السياق –  وهذه الفرضيات والتأسيسات والتفسيرات بحالتها هذه، يفترض أن تكون، ومن المأمول أن تكون موضوعاً لنقد وتفكيك شامل يغنيها ويعمقها من قبل ذوي الاختصاص النظري في العراق – وما أندرهم وأبعد انشغالاتهم عن الهم المعرفي الحقيقي- والعالم العربي لما تتمتع به هذه الفرضيات ومقدماتها ونتائجها من أصالة معرفية خصبة وتبصر معرفي تأسيسي واعد.

إقرأ أيضا