الفنان التشكيلي كريم سعدون فنان عراقي النشأة والهوى، سويدي حالم بجمال يمزج فيه بين برودة أهل الشمال وحرارة أهل الجنوب، وقد نجح في المزج، فهو فنان عراقي رافديني في حرارة تلقيه وتوظيفه لموروثه الحضاري، وهو شمالي (غربي) يعيش في عوالم الأمل لا يأس يعتريه رغم مرارة ما ذاقه من الألم..ألم الغربة والهجرة.. يُبدع لنا أملاً ويسعى لجعل الفن رسالة إنسانية بقصد التغيير والبحث عن حياة أفضل لوطن عراقي أوجده القدر فيه ليظل هاجساً ونبضاً يوقظ فيه أصوله الشرقية وجرحه العراقي الذي لم يندمل بعدُ.
هذه الخلطة بين تراثين واستيعاب لرمزيتهما مكنتنا من القول أنه فنان من طراز خاص لأنه يُجيد الابداع في أكثر من مجال تشكيلي، فهو رسام على السطح التصويري بالزيت والأكلريك والكرافيك، وهو فنان كاريكاتوري مميز، ونحات له بصمته الخاصة ومُصمم للعديد من أغلفة الكتب والمجاميع الشعرية.
يُجيد قراءة أساطير بلاد الرافدين وأهل الشرق، ويعرف المزج بين رموزها وتحولات الفن الحداثي والما بعد حداثي.
لا يؤمن بتصنيف الفنان (الفنان) على أنه يُمثل مدرسة فنية ما، لأن الفنان الحقيقي هو الذي يُجرب العمل وفق تنوعات مدارس التشكيل، ولا يستنسخ الفنان تجربة فنية لغيره سواء أكانت هذه التجربة لفنان عبقري أم كان لمدرسة أو اتجاه تراثي أو معاصر.
أظن أن خلطة الوعي النظري والفكري مع الوعي الفني تتجلى في فضاءات عمله الفني من دون قصد رسم أو نحت، لأنها لحظات تجلي هي التي تدعوه لمسك فرشاته ليجد أصابعه تمسك بالفرشاة لينتج هذا التمازج عنده لوحة يتلقاها هو كأي متلقٍ!.
كتبت تعليقاً له على عمل تشكيلي له وجدت فيه من الإبهار ما يجعلني كمتلق للوحته أقف منبهراً، وفي الإبهار تجديد للشعور بالجميل حينما تشعر بتلقيك لعمل فني أنه يسحبك روحياً لمناطق الوجدان والعاطفة، وفي الإبهار حضور للجليل حينما يتمازج وعيك الثقافي والمعرفي العقلاني مع دهشتك وشغفك بمعطيات العمل الفني شعورياً.
اللون يخطفك لعوالم الجمال والمعنى المكتنز يُحيلك لعوالم الجلال!.
يحاول كريم سعدون دائماً وفي كل معرض له البحث عن جديد لأنه شغوف بالمغايرة والمغامرة. يقول في حوار معه أنه “فنان على حافة العالم” ولكني أجده أنه يعيشق الغوص في أعماق العالم ليستخرج لنا محاراً ولؤلؤاً بهاء الجمال فيهما يخترق عُنف الحياة وصخبها ليرسم لنا سمفونية تارة تتناسق ألوانها لتكون خاتمة جملتها الموسيقية، وأخرى تهديم لنسق الموروث الاجتماعي برمزية مستعارة من موروث تراثي أو أسطوري وآخر حداثي أو ما بعد حداثي، المهم فيه أنه لا يرتكن لسكونية المعنى ويهدم سياقات البناءات التقليدية في الفن والمعرفة.
قيل عنه أنه يرسم لوحاته فيستحضر معها الماضي العراقي بكل ألقه الحضاري في بلاد الرافدين، حضارة سومر وبابل وآشور، وأقول أنها لا تحضر عنده باستعارة شكل ولا استعارة عمران، ولكنها تحضر عنده باستعارة رمز وعلامة أفسرها أنا الرافديني بحسب مقدار وعيي الحضاري بتاريخ العراق، ويُفسرها آخر على أنها تشكيلات لونية فيها تجذير وتأصيل لمنبت الفنان، ولكنها في الآن ذاته فيها رمزية أخرى تتجاوز لحظة التشكيل عند الفنان، ليكشف الناقد الفني فيها عن تأصيل تاريخي وفق تلقي علامتي في اللوحة، وتجديد حداثي وفق فهم معاصر لها.
لا يشتغل كريم سعدون في الألوان الحارَة، سوى القليل من لوحاته إن وجد في استخدام اللون الحراري تطويع وتشغيل له خارج مألوف التفسير الفني لاستخراج معنى آخر مغير لتلقيه التقليدي بما يُصيره من مشتقات تعدد الفضاء اللوني في اللوحة كما هو الحاال في استخدامه للون الأحمر.
كثير ما يُحسن تشكيل اللون الحار بما يجعل منه لوناً يستجيب للمحبة وقبول التعايش في فضاءات لونية متعددة داخل اللوحة له صلة وعلاقة تشاببه بتعددية انتماءاتنا الحياتية خارج اللوحة داخل الحياة.
النخلة العراقية سامقة وإن قل توظيفه لها، ولكنك ستجد في لوحاته فضاء للسممو يخترق فيه ظلام الحياة وبؤسها.
يستخدم الحرف في رسوماته ليجعل منه أيقونة ناطقة فيها تدوين لحياة بؤس أجيال في عراقنا الملكي والجمهوري والحالي. نهل من مدرس شاكر حسن آل سعيد بتوظيف مغاير للحرف ليكشف عن هلامية الصورة وغياب افق الفهم لها في واقع متغير في كل أوان ولحظة. يحلم كريم سعدون بأفق يملؤه الحُب في لوحاته لأنه وسط كل ألم الحياة التي رسم لنا لها تىشكيلاً ببقع سوداء يزيد حجمها ويصغر بحسب اتساع مساحتي الفرح والحزن، إلا أننا نجد أن في رسوماته وآماله مُتسع وتوقع لقادم أفضل.
في تشكيلات كريم سعدون مخزون وموروث لا يرسم فيه وجوهاً مكتمله لأن حياة الحرمان صيَرت رؤيتنا للحياة وكأنها طموح يُجيب عنه طُغيان البياض على العتمة في لوحاته.
ما يُميز العمل الفني عند كريم سعدون هو محاولاته المستمرة للتجديد عبر البحث عن طرق مُبتكرة للتعبير والابداع الفني، وهو دائم البحث عن الفكرة الجديدة والتقنية المغايرة، فقد استخدم شتى أنواع الخامات في الرسم والنحت، وهو من مزج أحبار الطباعة المائية مع الألوان الزيتية، وعمل على المزج داخل اللوحة بين الطباعة والرسم بالألوان.
اشتغل من خلال فن الكاريكاتير على المزج بين الخط والتخطيط الذي يتطلبه العمل الفني الكاريكاتوري الهادف.
يمزج بين التعبيرية والواقعية وأحياناً التجريدية وحتى التكعيبية ولا يُفضل أن يُحسب على مدرسة بعينها كما ذكرت، لأنها وسائل ومناهج فنية وفكرية ينهل منها ولا يُعيد نسخ تجربة بعينها لأن الفن عنده رسالة إنسانية يحاول فيها الفنان الكشف عن قبح العالم تارة، وجماله تارة أخرى، عبر البحث في عوالم الحلم والمثال لا ليعيش فيهما كعالم مستقل، بل لتوظيفهما في رسالته الإنساننية التي تتجسد في عمله الفني.
لا شك أن ثيمة الاشتغال في أعماله الفنية لاظهار الرأس فيها قصدية عالية ليشي بها لنا على أن هذا الجزء العلوي من جسم الإنسان هو الذي يتحكم بمصيره، فهو من له القدرة على تخريب النفوس والأوطان، فهو القائد لا المقود، ولهذا القائد في الدولة قدرة البناء والاعمار وله في الوقت ذاته أن يُخرب ويُفسد تاريخ أمة بأكملها، ولا أظن أن هذه الثيمة تحتاج لتأويل يعود بمرجعياتها للتاريخ الحضاري لبلاد الرافدين وأسطرة استخدامها في أعمال كريم سعدون الفنية كما ذهب إلى ذلك بعض النقاد. إن شكل اللون الأحمر ثيمة أخرى من ثيمات كريم سعدون الرمزية، فهو لون الدم وهو لون الحياة بصخبها وهو علامة الخطر وعلامة التوقف خوفاً من عقوبة آتية!.
اللون الأحمر فيه رمزية واضحة ودلالة على ما عاناه العراقي من كثرة رؤيته في الحروب ودكتاتورية السلطة التي مارست شتى أنواع القهر بحق هذا الشعب الذي لا زال يستسهل ويبخس قادته سفك الدم العراقي. على ما بين كريم سعدون ومحمود شُبر من اختلاف في الأسلوب والخامات والفكرة إلا أنني وجدتهما يشتركان في ثيمة أساسية ألا وهي توظيف الكلام داخل اللوحة تارة نراه وكأنه جزء أصيل فيها، وأخرى نراه لقصد وغاية يرومها منتج العمل الفني أو مبدعه.
أختم لأقول أن نتاج كريم سعدون بكل المعارض التشكيلية التي شارك فيها في العراق والدول العربية والغربية إنما يُزيدنا ثقة بالفن االتشكيلي العراقي الذي ظل مثار تقدير واهتمام عالمي منذ أواسط القرن الماضي مع جيل الرواد وما تلاهم من طلبة زرعوا فيهم بذرة الإبداع وفي مقدمتهم كريم سعدون.