مع أن الاتجاهات الحالية يمكن أن تستمر في المستقبل، فإن من الممكن بنفس المقدار أن يواجه العالم عند نقطة ما “حادثة غريبة” غير متوقعة ومدمرة بشكل كبير. ربما يزداد طول العمر البشري إلى درجة تفسد أطر عمل الحكومات. وربما يخلق التغير المناخي الملايين من لاجئي الكوارث المناخية. وربما يقلب الذكاء الاصطناعي أحوال قوة العمل البشرية. وقد تغير الجينومات تكوين جسم الإنسان نفسه. وربما يصبح تمييز الفرق بين المعلومات الحقيقية والمزيفة أكثر صعوبة، مما يجعل عمل المحاكم والإعلام مختلاً وظيفياً.
* * *
يبدو أن الطلب على التنبؤ بالمستقبل يتصاعد بسرعة في أوقات الأزمة. وفي الوقت الراهن، تظهر التنبؤات الربعية بعيدة المدى كل ثلاثة أشهر من السنة. وأود أن أدمج هنا بعضاً من هذه التوقعات وأن أغامر بعرض توقعاتي الخاصة لما قد يبدو عليه العالم في العام 2050 –بشكل أساسي من وجهة نظر السلطة.
سوف يكون لاتجاهات السكان والناتج المحلي الإجمالي التأثير الأكثر مباشرة على القوة الوطنية. وبالقياس على “مراجعة الأمم المتحدة لتوقعات السكان العالمية” للعام 2017، يبدو أن الهند، والصين ونيجيريا والولايات المتحدة وإندونيسيا والبرازيل، هي المهيأة لتكون الدول السبع الكبار في العالم من حيث عدد السكان في العام 2050.
في الأثناء، ووفقاً لتوقعات وحدة الاستخبارات الشقيقة لمجلة الإيكونوميست التي صدرت في العام 2015 للاقتصاد الكلي على المدى الطويل، فإن قوى العالم الاقتصادية الرئيسية في العام 2050 ستكون الصين، والولايات المتحدة، وإندونيسيا، واليابان وألمانيا والبرازيل، بهذا الترتيب.
بحلول ذلك الوقت، سوف تكون الصين، والولايات المتحدة والهند قد برزت باعتبارها القوى العظمى الثلاث الجديدة في العالم –ولو أن الولايات المتحدة ستحتفظ بتفوق استراتيجي وعسكري على الصين والهند. ومع ذلك، في عين العالم، يحتمل كثيراً أن تكون الولايات المتحدة قد تحولت من “عامل إضفاء استقرار متوقع” إلى “متغير غير مؤكد”، بل وحتى “قوة تخريب”. وسوف تأتي أعظم التهديدات الموجهة إلى القوة الأميركية من الداخل.
سوف ينطبق الشيء نفسه على الصين. ففي ثلاثينيات القرن الحالي، يحتمل أن تعيد الحكومة الصينية توجيه مسار سياسات شي جين بينغ لتعزيز الهيمنة الخارجية والأوتوقراطية الداخلية. وسوف تؤدي الديون وتراجع السكان إلى سحب بساط النمو الاقتصادي الصيني من تحت أقدام البلد، وربما يتبين أن الحكومة لن تعود قادرة على وقف خروج النخب الصينية إلى الخارج.
بحلول ذلك الوقت، ربما تكون المزيد من الدول قد اختارت أن تكون في داخل نظام التحالفات الأميركي وتركزت فيه. وربما تقيم الولايات المتحدة والهند ما يشبه التحالف من أجل مواجهة الصين، ولو أنه يبدو الآن وكأن دونالد ترامب يُضطر الهند إلى النأي بنفسها عن الولايات المتحدة.
سوف ينمو عدد الهنود والصينيين الذين يعيشون في الخارج بشكل كبير. وسوف يشكل كل من مضيق ملقا ومضيق هرمز معضلة للصين والهند على التوالي. وبالنظر إلى هشاشة إمدادات الطاقة لديهما والحضور المتزايد للأعمال التجارية الدولية، سوف تعمد كل من الصين والهند إلى تقوية مواقفهما العدوانية ونزوع الهيمنة تجاه بقية العالم. وسوف تحل التوترات البحرية في المحيطين الهندي والهادي محل النزاعات البرية في منطقة الهيمالايا باعتبارها النقطة المحورية للعلاقات الصينية-الهندية.
سوف تكون كل القوى الثلاث العظمى في العام 2050 دولاً مالكة للأسلحة النووية. ومع ذلك، بحلول ذلك الوقت أعتقد أن المنفعة والتميز المرتبطين بكون الدولة المعنية قوة نووية سيكونان قد تضاءلا، حيث سيكون الانتشار المتواصل للأسلحة النووية قد قوض قدرة هذه الأسلحة على العمل كشكل موثوق من أدوات الردع. وبالإضافة إلى ذلك، وفي حال أصبح الاتجاه نحو حظر استخدام الأسلحة النووية أكثر قوة بمرور الوقت، فإن الأسلحة النووية ستفقد قوة الردع حينما تصبح أقل قابلية للاستعمال باطراد. كما أن الذكاء الاصطناعي يلغي أيضاً قوة الردع المرتبطة بالأسلحة النووية من خلال جعل مواقع تواجدها وحركتها شفافين وقابلين للاكتشاف.
مع أن الاتجاهات الحالية يمكن أن تستمر في المستقبل، فإن من الممكن بنفس المقدار أن يواجه العالم عند نقطة ما “حادثة غريبة” غير متوقعة ومدمرة بشكل كبير. ربما يزداد طول العمر البشري إلى درجة تفسد أطر عمل الحكومات. وربما يخلق التغير المناخي الملايين من لاجئي الكوارث المناخية. وربما يقلب الذكاء الاصطناعي أحوال قوة العمل البشرية. وقد تغير الجينومات تكوين جسم الإنسان نفسه. وربما يصبح تمييز الفرق بين المعلومات الحقيقية والمزيفة أكثر صعوبة، مما يجعل عمل المحاكم والإعلام مختلاً وظيفياً.
من بين هذه السيناريوهات المختلفة، تبقى المصادر الأكثر احتمالا لإحداث التغيير المفاجئ هي التغير المناخي و”الثورة الصناعية الرابعة”.
بحلول العام 2050، سوف يكون معظم جليد القطب الشمالي قد ذاب. وعندما يحدث ذلك، سوف يصبح المحيط المتجمد الشمالي واحداً من الطرق البحرية الرئيسية في العالم. كما تشكل المنطقة القطبية الشمالية أيضاً كنزاً للنفط والغاز واحتياطيات المعادن النادرة. وسوف يتكشف صراع على الهيمنة الإقليمية بين البلدان التي لها مياه ساحلية في القطب الشسمالي –روسيا، وكندا، والولايات المتحدة، والنرويج، والدنمارك، وفنلندا وآيسلندا- والصين، التي لا تجاور المنطقة القطبية الشمالية، وإنما تتطلع مع ذلك إلى أن تصبح “قوة قطبية” (على حد تعبير الرئيس الصيني شي جين بينغ) من خلال دمج المنطقة القطبية الشمالية في استراتيجية الصين التنموية “حزام واحد، طريق واحد”.
سوف تصبح روسيا وكندا أكبر الدول المنتجة للحبوب في العالم، ووفقاً لبعض التقديرات، فإن سكان المنطقة القطبية الشمالية، الذين يبلغ عددهم الآن نحو 4 ملايين نسمة، سوف يزدادون إلى 400 مليون بحلول نهاية القرن.
كما أن جليد هضبة التبت سيذوب أيضاً، مهدداً النظام البيئي عند منابع مياه بعض من أكبر أنهار آسيا. وبحلول العام 2035، سوف يواجه نصف سكان العالم نقصاً في المياه بسبب الجفاف أو عوامل أخرى، وسوف يكون هذا النقص حاداً بشكل خاص في الصين. وربما تعمد الحكومة الصينية في ذلك الحين إلى إطلاق مبادرات “هندسة جيولوجية” واسعة النطاق لتحويل تدفق الأنهار أو خفض درجات الحرارة عبر الأراضي الصينية من خلال استخدام الهباءات الكبريتية والستراتوسفيرية.
في الأثناء، بينما تستمر “الثورة الصناعية الرابعة” في التكشف، سوف يتمكن البشر، والمجتمع، والدول من مواكبة سرعة التغيرات في الإدراك، وعلم النفس والحكم. وقد حان الوقت لانتقال وادي السيلكيون إلى ما بعد أيديولوجيته المقننة الراهنة، في نهج “تسارعي” يحتفي بتوفير الوقت وينفي الحاجة إلى التقنين.
سوف يتطلب العالم “دولاً مرنة” يمكنها أن تتكيف مع الإيقاع المتسارع للتغيرات وتقليل التجاوزات المرتبطة بالفوضى التي تطلقها الجيوسياسة، والتغير المناخي و”الثورة الصناعية الرابعة”.
يجب أن تتم مقاومة دافع تقرير الأمور من لمحة واحدة، وأن يتم صقل القدرة على إلقاء نظرة ثانية على الأمور بطريقة انعكاسية قبل اتخاذ القرارات. وسوف يكون هذا –إلى جانب الحكمة والحكم الرشيد- أموراً أساسية.
كما ستكون القدرة على تقدير التنوع والاستماع بتسامح إلى المواقف المختلفة والآراء الثانية أمورا حاسمة أيضاً. وسوف يكون الاتصال، والمعلومات والاستخبارات هي المفاتيح الرئيسية للقوة الوطنية. ووسط سلسلة متراكبة من التغييرات المدمرة، سوف تعود القوة الناعمة إلى الدول التي تثبت قدرة على الاحتفاظ بشكل معتدل من السياسة، ومجتمع مفتوح ومتنوع.
المقال لـ(يويتشي فوناباشي) رئيس مبادرة آسيا والباسيفيكي، ورئيس تحرير سابق لـ”أشاي شيمبون” نشر في (جابان تايمز) تحت عنوان How the world will look at mid-century وترجمته “الغد” الاردنية.