كيف نفهم هادي العلوي؟

لم يبتعد هادي العلوي حتى تأريخ وفاته في دمشق (27/9/1998) عن المؤثرات الأولى لنشأته الدينية التي تداخلت فيما بعد مع الشيوعية فأثمرت شيوعية صوفية أو صوفية شيوعية تنبع من القلب ومن تراث الشرق.

هذا الشرق الذي فضل أن يقدمه العلوي على باقي المصادر ذات المنشأ الغربي، فالدين حاضر في شيوعية هادي العلوي، والشيوعية حاضرة في تدينه، وهو تدين ليس بالمعنى التقليدي المتعارف عليه وإنما تدين يرتبط بالإنسان وبالأرض كمدخل للارتباط بالسماء ربما، ولذا فهو يستشهد في مناسبات عديدة بدعوة المسيح إلى أن “تؤدي لأخيك ماله عليك قبل أن تقدم قربانك الى السماء”. 

لقد كان العلوي زاهداً ومتقشفاً وصادقاً يتطابق عنده النظر والعمل إلى حد غير طبيعي، فهو مثلاً يرفض رفضاً قاطعاً أن يأخذ أية مكافأة لقاء ما ينشره، كما أنه أصبح نباتياً آخر عمره ولم يأكل اللحم اطلاقاً، ربما جرياً على طريقة أبي العلاء. العلوي لم يكن بعيداً عن الله لأنه كان قريباً جداً من البشر، وسلوكه في دمشق تجاه العراقيين من المنفيين والمسفرين والمهاجرين قسراً شاهداً على ذلك إلى الحد الذي، شوهد وهو يرتدي الدشداشة العراقية في مدخل اتحاد الكتاب في دمشق ينشط في جمع الأموال لمساعدتهم.

لقد كان ماركسياً منفتحاً على الفكر العالمي لكنه يمتلك ثوابت متأصلة تكاد ترجع  في أصولها الى النبع الأول الحاضر دائماً رغم تقلب الأحوال، وما إبحاره فيما بعد في مجال البحث التراثي والتأريخي والفلسفي إلا وسيلة جاءت لتؤكد هذه الثوابت، لا لتلغيها أو حتى لتعدلها أدنى تعديل، وربما هو هنا كان صاحب نموذج قبلي مسبق يجعل منه مفكراً مثالياً روحاني النزعة، أخلاقي الموقف، رغم أدواته المنهجية ذات الطابع المادي الجدلي.

تكمن أهمية هادي العلوي كمفكر إلى أنه حول التراث العربي والإسلامي الذي كان مُهملاً في أقل الأحوال أو منبوذاً عند التيار اليساري إلى مادة مقروءة وذات أهمية ويمكن استخدامها كسلاح مهم في الصراع الفكري والسياسي مع التيارات الأخرى.

بالرغم من أن البدايات الحقيقية لكتابات هادي العلوي ترجع إلى ستينيات القرن الماضي، إلا أن بزوغ نجمه كان في منتصف السبعينات حين أصدر كراساً لم يحمل اسمه تحت عنوان (الحزب الشيوعي والتراث)، وحين خصصت جريدة طريق الشعب صفحة خاصة في يوم الثلاثاء من كل أسبوع، إضافة إلى صفحات مجلة الثقافة الجديدة الشهرية، لتُعنى بملف التراث العربي والإسلامي بهدف صياغة موقف خاص لكيفية تعامل اليسار العربي والعراقي مع هذا التراث، بعد أن كان مُهملاً لفترة طويلة من قبل مثقفي ومفكري هذا اليسار المتغربن والمنقطع عن الجذور التأريخية والمحلية لمجتمعه، في محاولة لتأصيله بنماذج تأريخية ومحلية من الحركات الفكرية والاجتماعية في الإسلام كمرحلة حضارية ساهمت فيها مختلف الطوائف وامتدت لقرون. 

من المعروف أن الموقف من التراث بحسب العلوي شمل ثلاثة تيارات:

التيار الأول: تعامل مع التراث كعقيدة وهو التيار الأصولي.

التيار الثاني: رجع إلى التراث لمحاربته باعتباره قاعدة الأصولية، وهذا النمط مرتبط بالحملة الغربية القائمة على الإسلام.

التيار الثالث: ويرجع إلى التراث لتأصيل الثقافة الوطنية، وهو ما يمثله المفكر اللبناني حسين مروة، بالاإضافة إلى العلوي نفسه، الذي يعلن أنه ليس علمانياً وليس اصولياً، فهو يتحرك في فضاء أوسع من الماركسية، وهذا ما يميزه عن اليسار، ويمكن أن نميز هذا الموقف من خلال:

النظرة إلى الغرب

يعتبر العلوي أن الغربيين هم الحاكمون الفعليون للعالم العربي وإليهم يرجع الخراب الذي يعم هذا العالم ويمنعه من النهوض، وهم متحدون رغم اختلافاتهم أمام هذا العالم الذي يشكل لهم خطراً خارجياً يتحدى مركزية الثقافة الغربية والاستعمار، وبناءً عليه فهو يستهجن تبعية المثقف الشرقي سواءً كان عربيا،ً هندياً، صينياً، افريقياً، للغرب معتبراً ان ذلك نوعاً من الدونية الثقافية.

لقد نظر العلوي الى علاقة الغرب بالشرق من زاوية الصراع السياسي والثقافي. ولقد كان يكره الغرب المستعمر المستبد المتعصب والشاعر بالتفوق. وفي الوقت نفسه يبني علاقة حميمة بتراثه الشرقي وهو انتقائي في ابراز مايؤكد هدفه في تأصيل ماهو ايجابي في هذا التراث لخدمة الانسان. ولهذا فإنه يحتقر المتثورين، ولا ينظر اليهم الا بوصفهم عدميين تجاه هويتهم الثقافية، لذلك كان موقفه مناهضاً لصادق جلال العظم في دفاعه عن سلمان رشدي وروايته آيات شيطانية، لأنه كان يمس شخصيات اسلامية يكن لها العلوي كل الحب والاحترام.

النظرة إلى السلطة

يذكر الفيلسلوف الفلسطيني أحمد البرقاوي “أننا في لقاء مع نايف حواتمة (أمين عام الجبهة الديمقراطية) كان الدكتور صادق العظم موجوداً معنا، وكان هادي العلوي يجلس الى جانبي. وبعد فترة طويلة من النقاش قدمت لنا بعض الفواكه، غير أن هادي، لم يمد يده إطلاقاً لتناول ولو برتقالة، فلفت ذلك نظري، إذ قدمت له جزءاً من الصحن الموجود أمامنا فرفض العرض رفضاً شديداً، وعندما سألته عن السبب أجاب: أنا لا أكل على موائد الملوك”.

النظرة الى المثقف 

موقف العلوي من المثقف يكاد يكون سلبياً فهو من الأغيار الأربعة (الحكام، المثقفون، الرأسمالية، الاستعمار)، إلا إذا كان لديه موقفاً اجتماعياً ايجابياً تجاه قضايا شعبه، لكنه يشير الى أن السلطة غالباً ما تلجأ الى المكيدة والإغراء لإسقاط هذا المثقف في أحابيلها  والطلب منه أن يعارضها بعد أن يأخذ منها الإذن فيصبح “مأذونًا لا آذناً ومكتوباً لا كاتباً ومخلقاً لا خالقاً”. 

ويعتبر العلوي ان من العيب ان ينتظر المثقف الإذن من السلطة لكي يعارضها. وبهذا الصدد يذكر ان احدى القوى الكردستانية المتطاحنة في التسعينات قالت له انها ترحب به ليأتي ويشتمها في التلفزيون. فأجابهم انه لا يشتمهم بإذن منهم بل يشتمهم رغماً عنهم وبوسائله الخاصة لا بوسائلهم.

اشتراكية العلوي وإشكالية مشروعه المشاعي

بقيت الاشتراكية بالنسبة للعلوي نوعاً ما أشبه باشتراكية الحروب الإسلامية حيث يتقاسم المحاربون الفقراء لقمتهم في الصحراء بعيداً عن التجارة والنقود، كما يشير الى ذلك زهير الجزائري. 

وينتقد العلوي ما يسميه بشيوعية الأفندية الذين لا يعنيهم “مشكلة الفقر والجوع بحكم أنهم من الشبعانين في الأصل، وحالات الانسلاخ من الأصل الطبقي نادرة وهي لا تقع إلا مع المفكرين من ذوي النزعة المشاعية العميقة مثل أبي العلاء المعري قديما وتولستوي حديثا، أما حالة المثقفين الشائعة والعادية فلا يحصل عندها مثل هذا التحول الشديد العميق”.

لقد كان المشروع المشاعي الذي صاغه العلوي في آخر حياته انتكاسة ففي حين تؤكد الماركسية أن الشيوعية مرحلة سيصل إليها المجتمع البشري نتيجة التطور التأريخي الذي لا علاقة له بالعواطف يرى هادي العلوي أن مشروعه المشاعي يجب أن يعتمد على اصحاب العواطف النبيلة والنوايا الحسنة من مختلف الطبقات، وهذا نوع من المثالية يتعارض مع المفهوم الماركسي للتأريخ، وهو ما يشير إلى مدى استعصاء الثورة بعد انهيار الشيوعية في العالم.

بقيت مغامرة هادي العلوي الفكرية في حدود الحلم الذي يداعب أصحاب النوايا الطيبة والعواطف النبيلة ممن يمتلكون حساً اخلاقياً عالياً ونزعة طهرانية يمتاز بها المتدينون الحقيقيون، وما مشروعه المشاعي غير المتحقق سوى محاولة لإحياء وتأكيد التراث المندثر الذي يصب في مجال الحلم الشيوعي الذي طبقه وإن بشكل مجتزء ومحدود بعض المصلحين الاجتماعيين وإن تلبسوا بلبوس الدين عبر التأريخ. لقد بقي الدين حاضنة مخفية للاأديولوجيا الشيوعية التي فصلها العلوي على مقاسه ومن خامة التراث اللقاحي لشعوب الشرق والغرب، كبديل عن وطن اتسم بالعنف والقسوة المفرطة، فهي وطنه وملاذه الرحيم. 

إن المتتبع لسيرة هادي العلوي يكتشف أن الرجل كان مؤمناً صادقاً أكثر منه ملحداً ناكراً، فهو في منابعه الأولى ديني النزعة، لكن عقلانيته منفلتة من ربقة اليقين الإيماني السائد الذي يستلزمه الالتزام الديني، وهو بهذه الإشكالية اختار الموقع الأخطر، وبهذا المعنى يؤكد زهير الجزائري “لم يكن جهله بالتكتيك هو الذي يدفعه لاختيار الموقع الأخطر، إنما البذرة الدينية داخل هذا المتطرف في شيوعيته، هي التي تدفعه لأن يختار الموقع الأكثر تعذيباً وقرباً للموت”.

إن الجذوة الدينية عند هادي العلوي واضحة وضوحاً بيناً وأن الالحاد عنده (في نصوص معينه) دائما ما ينطلق من نزعة إيمانية وروحانية عميقة. وهذا الرأي أقرب إلى الحقيقة من رأي فوزي كريم، حين يؤكد أن الجذوة الدينية عند هادي العلوي، هي من الخفاء بحيث لا تلتقطها براعة الحجج، ولا مهارة البراهين. لقد كان فوزي كريم موفقاً في تشبيه الستينين العراقيين بالستينيين الروس خصوصاً في تناوله لهادي العلوي كإنسان مأزوم.

يشير نيقولاس برديائيف في كتابه “منابع الشيوعية الروسية ومعناها” إلى أن منبع الالحاد الروسي في ستينيات القرن التاسع عشر، هي فكرة العدالة الالهية ومسألة تبرير فكرة الألم والرحمة بالإنسان، واستحالة القبول بفكرة الله مع وجود الشر والالم في الحياة، وهذا الالحاد غالباً ما ينبجس من دفق أخلاقي، أي من حب العدالة أو الخير، خصوصاً على مستوى الأنتلجنسيا المشبعة بفكر شعبوي، وأبطال روايات ديستوفيسكي من المفكرين القلقين والمأزومين خير شاهد تأريخي على هذا الرأي.

فرادة العلوي بالجمع بين الماركسية والتراث

لم يكن هادي العلوي من المشنعين على التراث والدين ولم تكن مواقفه عدمية، كما أنه لم يكن من المفكرين الذين ينظرون لغرض الاكتساب من السلطة، ولا هو من الذين يسايرون الموجات الجديدة لغرض إيجاد مكان له بين المتنافسين الذين يخاطبون النزعات الغريزية لبعض المثقفين ممن تقودهم النزعات العدمية المتغربنة والرافضة لكل ماهو شرقي وعربي واسلامي في تراثنا.

إن فرادة العلوي تكمن في أنه حفر في الصخر ونهل من التراث مباشرة ليصوغ رؤية جديدة في التراث تختلف عن كل من تناول هذا التراث بعيداً عن الرؤى التغريبية والعدمية التي ترفض هذا التراث وتشطب عليه بالجملة. ومن يراجع المجلات الثقافية في فترة السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي يرى الكم الهائل من المقالات التي كتبت ضد مقالات هادي العلوي، من قبل باحثين وكتاب قريبين من السلطة آنذاك، إضافة إلى صدامه مع العديد من المتزمتين في العراق وفي سوريا وفي لبنان.

لقد طغت سمتا الزهد والعقائدية على العالم في شخصية هادي العلوي واتسم بقدرة خاصة على تحمل الألم والمعاناة ونزعة تطهيرية تتطلع الى مستقبل تتحقق فيه مدينة فاضلة قائمة على العدل والمساواة والأخلاق الفاضلة، وهو ما تمثل في مشروعه المشاعي الذي تتلاشى فيه قوة الدولة لصالح قوى الشعب والفقراء، قوة المجتمع، وقوة الإنسان. وأخيراً يقول جبران خليل جبران “الحق يحتاج إلى رجلين: رجل ينطق به ورجل يفهمه”. 

  mustfa20002003@yahoo.com

إقرأ أيضا