عن رواية \”مخيم المواركة\” لجابر خليفة جابر
لا أدري لماذا قفزت إلى ذهني، وأنا أطالع غلاف رواية مخيم المواركة، خيمة سفوان التي أعقبت حرب الخليج الثانية وانسحاب الجيش العراقيّ من الكويت وما فُرض على العراق من شروط استسلام قاسية، وخيمة الناصرية بعد حرب الخليج الثالثة واجتماع قادة المعارضة القادمين مع الغزاة بالغزاة أنفسهم وكنّا ننتظر بشوق كبير حقبة ما بعد الدكتاتور، الجديدة الزاهية الألوان والمعالم والتفاصيل التي تشيع فيها قيم الديمقراطية والمدنية والسلام والرخاء والبناء لنُفاجأ بإعلان الإحتلال الأمريكي للعراق وإعلانه دولة محتلة.. لا أدري لماذا؟ ألأن كاتبها كان أحد أعضاء البرلمان العراقيّ، وشخصية من شخصيات الأحزاب الدينية الفاعلة سياسياً واجتماعياً؟ أم لأنه من باب تداعي أفكار عراقيّ عاش أمرّ الحقب والحروب وصار ينتظر دوماً انتهاء مرحلة وبداية اخرى انطلاقاً من خيمة؟
على أية حال لقد قرأت الرواية وكنت أنوي عدم الكتابة عنها دفعاً للشبهات، فأن تحتفي بسياسيّ في هذا الوقت أمر سيُحسب على تاريخك النقديّ. أليس كذلك؟ لستُ بحاجة للرجوع إلى أصدقائي من المثقفين لأعرف! ولكنّ الذي حصل هو أنني لم أقاوم إغراء الكتابة عن الرواية، فهي متفوقة حقّاً، ومتقدمة إذا ما وضعناها في سياق الرواية العراقية التي تُكتب في هذه الفترة. فلغتها السردية متماسكة ومنسابة. وتقنياً هي تحفر سردياً وعبر مجموعة لا منتهية من الرواة وبذكاء حول حوداث محددة. والسارد لا يتوقف عن تذكيرنا بأنه ينقل عن رواة متعددين للحدث الواحد. وعن تذكيرنا بأن التاريخ ما هو إلا حكيّ في حكيّ، لا صدقية وراءه. فلا وجود للحادثة. وإن وُجدت فما هي إلا شبح ضئيل يتم استدعاؤه لغايات لا أخلاقية تتصل ببناء صورة وهمية عن الجماعة وعن المذهب وعن الدين وعن الهوية وعن زعم ما أيّاً كان. ولذا فليس علينا أن نصدق التاريخ فضلاً عن أن نموت ونقتتل من أجله.
المهم.. لم أقاوم إغراء الكتابة، ولكنّي ترددت في نشر المادة لأنها كما قلت لكم عن أديب ملتبس بالسياسيّ. فما كان منّي إلا العودة إلى ما كُتب عنها. وخلافاً لما توقعت فقد وجدت عدداً كبيراً من المقالات والمتابعات النقدية عن الرواية غير مسبوق بالنسبة لأية رواية عراقية أخرى كتبها أدباء صافون من أيّة شبهة. والأغرب من ذلك أني وجدت من بين الكتّاب عن الرواية اسم الأستاذ الكبير محمد خضير. ووجدت أنّ الكتّاب عن الرواية قد انقسموا إلى مخيمين بلغة الرواية؛ مخيم مع الرواية وفيه أكثر الكتّاب، ومخيم ضدها وفيه كاتب واحد.
لقد رأى المخيم الأول، وسأركز على قراءة الأستاذ محمد خضير، أن قيمة الرواية تكمن في حداثة الشكل الروائي المستعار من نظام الروابط التشعبية في الإنترنيت فـ(مخيم المواركة) تقيم مواقع افتراضية لها، وتُشرك في رواية حوادثها رواةً متعددين، ينتهي نسبهم بالراوي الأخير (عمارإشبيليو)، للتغلب على صعوبة الإتصال الفعلي بشخصيات التاريخ الأصلية، وتقترح الرواية الافتراضية أشكال اتصال تفاعلية وترابطية (هايبرية) تشبك نصوص التاريخ وحياة شخصياته بشبكة الموقع الأخير للرواية. وإذ تداولت (مخيم المواركة) حقائق التاريخ باعتبارها تبادلات نصية بين مواقع متجاورة أو متباعدة، فقد كسرت بهذا احتكارالمعلومة وثبوتيتها التدوينية. ومن ميزات الرواية الأخرى الكبرى في نظر الكاتب أنها بتشكيكها بالمؤلف أعطت مساحة مميزة لتدخل القارئ المحمود الذي يُعدّ ميزة من ميزات رواية ما بعد التغيير العراقية. وأخيراً: انّ (مخيم المواركة) استطاعت عبور (الوادي الكبير) على جسر افتراضيّ مبتكر، إلى ضفة ناجية من زوابع الشكوك السردية والأيديولوجية التي تحيط برؤيتها الخاصة الكاشفة لمخيمات التاريخ المختفية في ظلّ سردياته الكبرى.
أما المخيم الثاني فقد رأى أنّ كلّ من في المخيم المقابل هو أما مصنوع أو مجامل أو خائف من سلاح الميليشيا التي يقودها المؤلف.. وإلا فليس في الرواية سوى محاولة من المؤلف لابتعاث التاريخ المذهبيّ والفِتنيّ الميت لإثارة مشكلات جديدة أو تغذية المشكلات الراهنة فالمؤلف بعث الضغائن والأحقاد الدينية لتي تتمظهر الآن بوسائل شتى ستكون النصوص المجنّسة أحداها. كما إنه نمّط شخصية الآخر ليزيد بشاعتها في عين المسلمين فالمرأة الغربية قذرة وهم عموماً متعصبون دينيا وقتلة للمسلمين. دون أن ينسى تجميل صورة الذات، فالمسلمة محتشمة والمسلم عامة لا يقتل إلا دفاعاً عن النفس ورداً للظلم وبالنتيجة: ((إن الرواية سقطت في فخ الحكاية الذرائعية، وهو أسوأ ما يمكن أن يصيب الرواية ويدفعها لكي يجري تصنيفها ضمن سلّة الروايات التقليدية أو المغرقة بالتقليدية، حتى لو لجأت إلى أشكال مبتكرة للقص)).
يبدو الموقف بين المخيمين متبايناً على أساس موقف عام من النص. فهل نعزل النص عن المؤلف؟ أم إننا نرى إلى المؤلف أولاً، أو ننظر إلى النص من خلال المؤلف؟ هي جدلية قديمة. فمن يرى أن النص هو الحاكم يتحدث عن البنية السردية وطريقة تمثيلها للعالم وللأفكار والمواقف، ويرى في مخيم المواركة فتحاً سردياً عراقياً. أما من ينظر إلى المؤلف فإنه سيجد أن النص ليس سوى وسيلة متخفية من وسائل البطش ونشر الإضطراب الفكريّ والدينيّ والخلافيّ الذي يغذي الصراع المتأجج مع الغرب ومع الآخر عموماً.
وكما ذكرت فزاويتا النظر إلى النص قائمتان منذ القديم، ولكنّ المشكلة تتمثل في البعد النفسيّ للتعامل النقدي الذي من شأنه أن يؤثر على النقد أردنا أم أبينا. فالمخيم الأول يسعى بكلّ جهده وبمبالغة لإثبات تفوق الرواية، مع انها قد لا تصل إلى مدى التوصيف النقديّ المذكور،لإبعاد شبهة التواطؤ مع المؤلف الملتبس وهو ما وجدته في مقال محمد خضير. وبالمثل يسعى المخيم الثاني إلى المبالغة في تجريد النص من أيّة أهمية بنيوية سردية متجهاً إلى استعراض المعنى الذي يعرف أي متعامل مع النص إنه ليس بشيء في الرواية الحديثة، ليقول انه يقصد المؤلف ولا تعنيه حِرَفيَة النص، لأن هذه لا تعدو كونها تجميلا لقبح عظيم.
إنّها عقدة الوضع العراقيّ الراهن الملتبس كلياً وما جابر خليفة جابر إلا مثاله في حقل الأدب والنقد. فنحن متوزعون نفسياً بين واجبنا النقديّ الذي ينزه الشكل الفنيّ عما عداه، وبين واجبنا الإنسانيّ الذي يرى أن الأديب والكاتب يجب أن يكون منزه التاريخ الشخصيّ من أية أقذار حزبية أو سياسية أو مذهبية وإلا فلا يجب أن يُقام أي وزن أو احتفاء بعمله.
أما أنا فقد أغواني النص واستجبت له مع شعوري بعد أن انتهيت من الكتابة عن الرواية بذنب من نوع ما، يبدو أن سببه توجسي العام مما تأتي به الخيم لنا.