عمليات التهجير الطائفي هي أضعف وأسوأ وآخر الأسلحة التي تراهن عليها الميلشيات الطائفية في العراق بعد أن فشلت وسائلها الأخرى من تفجير وقتل في تحقيق ما كانت تصبو إليه بإشعال الحرب الأهلية. وهي تدرك جيداً أن سياسة التهجير ستُدخِل المجتمع في مَتاهة مُهلكةٍ قد يطول عذابها ومحنتها كل مكوناته دون استثناء، وهذا هو غاية ما ترجوه، عند ذاك ستنعدم الثقة بين الجميع، وبدلا عنها ستحلُّ هواجس الشك والخوف والتخوين.
بطبيعة الحال في مثل هذا المشهد الفوضوي سيكون من السَّهل أمام الميليشيات العمل المشترك، بينها وبين حفنة اللصوص والفاسدين من الساسة، خاصة ذوي الجنسيات المزدوجة، أولئك الذين لا هم لهم سوى البقاء أطول فترة ممكنة في الحكم حتى يتمكنوا من نهب أكبر قدر ممكن من ثروات البلاد.
الصَّمتُ المشبوه الذي غلّف الأجهزة المسؤولة، في الحكومة العراقية، إزاء ما يتم ارتكابه من جريمة تهجير طائفي منظم في محافظتي الناصرية والبصرة ضد عشيرة السعدون العربية تورّطت بها ميليشيات طائفية، هويتها ومرجعيتها السياسية مشكوك بعراقيتها، يشير إلى توسّع خطير في سلطة تلك الميلشيات وهيمنتها على الحياة العامة، كما يعني أيضا هذا الصمت إقرارا صريحا بعجز الحكومة ممثلة بأجهزتها الأمنية على مواجهتها، خاصة بعد أن غادرت مخابئها ومقراتها السريّة، داخل وخارج العراق، وباتت تستعرض قواتها وقدراتها تحت حراسة وحماية القوات الحكومية، في مهرجانات علنية، دونما حذر ولا خوف من سلطة الدولة، بل على العكس أضفت عليها طابعاً شبه رسمي عندما حضرتها شخصيات برلمانية، وتم تغطيتها من قبل الإعلام الرسمي.
هذا التحول النوعي في آلية عملها، من السر إلى العَلن، جاء على أثر التداعيات التي شهدتها بعض دول الجوار منذ بدء العام 2011. فوجدت تلك الميلشيات أنَّ الوقت قد حان، وأنَّ أرض العراق باتت خصبة ومهيّأة لإنعاش آمالها الطائفية، وتنفيذ ما بجعبتها من أجندة هي في تحصيلها الحاصل تعدُّ تدخلاً في شؤون إقليميةٍ تعود بالضرر الكبير على علاقات العراق مع محيطه العربي، كما تشكل تهديداً للسلم والأمَان داخل المجتمع العراقي. وقد تم الإعلان عنها في أكثر من مناسبة وتصريح وعلى لسان أبرز قادتها.
بطبيعة الحال لم تكن تتجرأ على اتخاذ مثل هذه المواقف الصريحة إلا بعد أن توفرت لها فرصة عقد صفقات سرية ذات منافع متبادلة مع شخصيات وأحزاب عراقية متنفذة تملك مفاتيح السياسة في العراق، وهذا الأمر لم يعد خافيا ولا مثيرا للدهشة طالما نقرأ ونسمع يوميا عديد الأخبار التي تتناقلها وكالات الأنباء عن فساد الساسة في العراق، وإلاّ ما معنى بقاء تلك الرموز الميلشياوية حرة طليقة رغم صدور أوامر حكومية بالقبض عليها!
أيضا صَمْت الحكومة هذا قد يعكس قناعة وقبولاً بما يجري على الأرض، من تدميرٍ مُمَنهج لبنية اجتماعية ظلت متماسكة بكل مكوناتها إلى حد كبير طوال عقود من الزمن، رغم ما واجهها من أحداث جِسامٍ سببها قوى وجيوش الاحتلال التي مرّت عليها خلال القرون الماضية، إلاّ أنّها تمكنت من الحفاظ على القدر الأكبر من عناصر الوحدة والبقاء. والفضل في ذلك يعود إلى سلامة وصحة قيم اجتماعية وأخلاقية تجمعها، فتسامت بفطرتها الإنسانية فوق الاختلاف الديني والطائفي.
إنَّ نتائج جريمة التهجير التي ترتكب من طرف ما ستفضي بلا أدنى شك إلى جريمة أخرى ستنفذها ميلشيات طائفية محسوبة على الطائفة الأخرى، تحكمها نفس العقلية المتطرفة وبنفس آليات التنفيذ. وهكذا ستدور رحى الحرب، لتطحن الجميع، ولن يكون هنالك ناجٍ منها. حربٌ لا شجاعةَ ولا شجعانَ فيها. حربٌ بلا فرسان. حربٌ قذرة، وقودها أناس ضعفاء، سيكتشفون بعد فوات الأوان أن الكل خاسرٌ فيها إلاّ رموز الفتنة هم الرابحون.
* كاتب وشاعر عراقي
لا فرسان لهذه الحرب..
2013-09-17 - دولي