لا يترك الأمريكيون، ساسة ومحللين ووسائل إعلام، مناسبة إلا ويذكـّروا بـ\”النجاح الكبير\” الذي حققه قائد القوات الأمريكية السابق ديفيد بترايوس في أواخر عام 2007 في وقف الحرب الطائفية في العراق وتقليل معدّل العنف بشكل ملحوظ. سرّ ذلك النجاح – بحسب المروجين له – هو الخطة العبقرية لهذا الأمريكي بكسب العشائر السنية إلى جانب الجهود الأمريكية والعراقية لمقاتلة القاعدة، وعزل \”المعتدلين\” السنة عن متطرفي القاعدة.
وبالطبع يكرر الساسة والمحللون الأمريكيون، ويتبعهم كثير من العراقيين، أن سبب الانهيار الأمني الحالي في العراق هو تفريط حكومة المالكي بتلك النجاحات، بسبب عدم مواصلته السياسات التي انتهجها \”بترايوس\”، وتخليه عن العشائر التي كسبها الأمريكان، ما دفعهم مجدداً إلى أحضان القاعدة وخليفتها \”داعش\”.
حقائق وأوهام
في المزاعم أعلاه شيء من الحقيقة وكثير من التدليس وخلط الأوراق. ولأن السياسة الأمريكية الحالية تسعى إلى تكرار تجربة \”بترايوس\” بشكل أوسع وأكثر تنظيماً بحجة أن هذه هي الطريقة الوحيدة لعزل \”داعش\” عن محيطها السنيّ تمهيداً للقضاء عليها، لذلك لابدّ من فرز الحقائق عن الأوهام في ما يخص \”معجزة بترايوس\” المزعومة. وأعتقد أن نظرة مدققة لتلك التجربة ستوصلنا إلى نتيجة تناقض تماماً مزاعم المتشبثين بها، وهي أن \”خطة بترايوس\” بسبب الخلل البنيوي فيها كانت تحمل معها أسباب فشلها اللاحق، وهي بالتالي أحد العوامل التي أدّت – إلى جانب عوامل أخرى – إلى الانهيار الأمني والعسكري الذي بلغ ذروته بسقوط مدن كبرى بيد تنظيم \”داعش\” الإرهابيّ.
هنا بعض الحقائق لتصحيح الوهم الذي يروّج له الأمريكيون، ومن يصدقهم من العراقيين، عن المعجزة المزعومة:
الصحوات الأولى 2005
لم تكن فكرة إنشاء \”الصحوات\” من العشائر العربية في المناطق السنية ودعمها وتسليحها لمواجهة القاعدة، من بنات أفكار بترايوس، بل بدأ العمل بها بوقت طويل قبل قدوم \”بترايوس\” إلى العراق قائداً للقوات الأمريكية في كانون الثاني (يناير) 2007. بدأت فكرة \”الصحوات\” في وقت مبكر بمبادرة عراقية من شيوخ عشائر من الأنبار ومن حكومة إبراهيم الجعفري، وقد تأسس أول مجلس للصحوة برئاسة الشيخ أسامة الجدعان، من شيوخ عشيرة الكرابلة، في خريف 2005، وقد قاتلت العشائر المنضوية في ذلك المجلس ضد \”القاعدة\” والمتحالفين معها، وتمكنت من طردهم من مناطق أعالي الفرات، ودفع الشيخ الجدعان حياته ثمناً لهذا الموقف حيث أغتيل أمام منزله في حيّ المنصور ببغداد في شباط 2006، قبل أيام من جريمة تفجير سامراء. وواصل عدد من الزعماء القبليين في الأنبار وصلاح الدين مسيرة الشيخ الجدعان، وكان أبرزهم الشيخ عبد الستار أبو ريشة، الذي قـُـتل لاحقاً بعبوة ناسفة فجرت سيارته في الأنبار. وقد حققت هذه \”الصحوات\” نجاحات لا بأس بها في تطهير أجزاء كبيرة من أراضي محافظة الأنبار من مسلحي \”القاعدة\” دون أن تتمكن من دحرها نهائياً. كل هذا قبل أن يأتي \”بترايوس\” للعراق.
زيادة القوات
في مطلع 2007 وبعد أن بلغت أحداث العنف الإرهابيّ القاعدي، والطائفيّ المتبادل، معدلات فظيعة، وهيمنت على البلاد حالة من اليأس من إمكانية الخروج من تلك الدوّامة؛ قررت إدارة الرئيس بوش، على عكس توصيات اللجنة المشتركة من الحزبين الأمريكيين، زيادة قواتها في العراق وتعيين بترايوس قائداً للقوات بدلاً من الجنرال جون كايسي. أسهمت زيادة القوات، إضافة إلى تشكيل عمليات بغداد العراقية لتنسيق عمل الجيش والشرطة العراقيين مع الجهود الأمريكية، ومواصلة دعم العشائر العربية الرافضة للإرهاب، في تشديد الضغط على التنظيمات الإرهابية، وعلى الميليشيات الطائفية المتقاتلة، دون أن يكون ذلك كافياً لتحقيق نصر حاسم.
انشقاقات بين الإرهابيين
في صيف 2007 حدثت خلافات حادة بين تنظيم القاعدة والمنضوين معه تحت مسمى \”دولة العراق الإسلامية\” وبين حلفائهم من الفصائل الإرهابية العراقية المحلية مثل \”النقشبندية، و\”جيش محمد\”، و\”كتائب ثورة العشرين\”، و\”فيلق عمر\”، وغيرها من الفصائل الطائفية المسلحة. كانت الخلافات متوقعة، بسبب الاختلاف في الايديولوجيا والأهداف بين التيارين، رغم ما يجمعهمها من عمل عسكري وإرهابي منسق وأهداف آنية مشتركة. وصلت الخلافات إلى درجة المواجهة العسكرية في بغداد وصلاح الدين وديالى. وهنا جاء بترايوس ليقطف \”الثمرة الناضجة\”، ثمرة الفصائل السنية التي تسعى للتخلص من عبء القاعدة، وقد وجدت هذه الفصائل نفسها في موقف لا طاقة لها به، إذ كان عليها أن تقاتل على ثلاث جبهات في وقت واحد: القوات الأمريكية والعراقية، والميليشيات الشيعية المنخرطة في الصراع الطائفي، وأخيراً تنظيم \”الدولة الإسلامية في العراق\” المتفوق عليها تنظيما وشراسة والعارف بخباياها. لذلك لم تجد بداً من التوقف \”مؤقتاً\” عن القتال والاستجابة لخطط بترايوس الهادفة إلى تحييد هذه الفصائل وكسبها لجانبه. وهذا ما حصل. وهذا هو الحدث الحاسم الذي مهـّد تدريجياً لانحسار العنف، إلى جانب عوامل أخرى، منها \”صولة الفرسان\”، وقرار تجميد \”جيش المهدي\”.
صحوات وصحوات
استمر الإعلاميون والمحللون باستخدام مصطلح \”الصحوات\” لوصف الظاهرة الجديدة، وقرر الامريكيون تحويل الفصائل التي غيرت ولاءها مجبرة من دعم القاعدة إلى التحالف مع الأمريكان، إلى \”مجالس صحوات\” مستثمرين المصطلح الموجود أصلاً ليسبغوه على ظاهرة مختلفة جوهرياً عن ظاهرة \”الصحوة\” الأصلية.
نحن هنا إذن أمام حالتين مختلفتين جوهرياً؛ الأولى: عشائر وجماعات أهلية لم تنخرط أصلاً في العمل الإرهابي، رفضت وجود \”القاعدة\” وحلفائها على أراضيها فانضمت إلى الجهود الحكومية العراقية لمحاربة الإرهاب، وحققت نجاحات مهمة. والثانية: فصائل تحالفت مع القاعدة طويلاً، وتورطت في عمليات إرهابية وطائفية لا تقل سوءاً ووحشية عن أعمال القاعدة، إن لم تكن أسوأ بكثير، قررت مضطرة التحالف مع الأمريكان، بعد أن أصبحت هي نفسها مستهدفة من القاعدة. وكان المفروض استثمار لحظة الضعف التي كانت تلك الفصائل الإرهابية تمرّ بها لفرض شروط استسلام عليها، مثل تسليم كبار قادتها للعدالة، وتخليها عن السلاح. لكن ما فعله بترايوس هو عكس ذلك: قرر تحويل هذه الفصائل الإرهابية إلى \”فصائل منظمة\” وبدأت الضغوط على حكومة المالكي لاستيعابها ضمن تشكيلات الدولة العسكرية والأمنية والمدنية ومكافأتها برواتب ومواقع في الأجهزة الحساسة.
استيعاب الإرهبيين \”التائبين\”
اضطر المالكي تحت الضغوط الأمريكية إلى القبول بذلك، مع شيء من المماطلة والمناورة اللتين يجيدهما بامتياز. وهذا هو المأخذ الأمريكي الأساسي على المالكي: عدم استيعاب الإرهابيين \”التائبين\” في أجهزة الدولة، رغم أن توبتهم لم تكن نصوحاً أبداً. وقد تبين لاحقاً أن بعضهم ممن حصل على مواقع في أجهزة الدولة استغل أبشع استغلال لتنفيذ عمليات إرهابية، بعد أن عادت حليمة إلى عادتها. وهكذا بدل أن تؤدي خطة \”بترايوس\” إلى عزل المتطرفين السنة عن المعتدلين أدت إلى جمعهم معاً تحت مسمى واحد لا يجمعهما فعلاً وهو \”الصحوات\”، وبدل أن تؤدي إلى خفض التوتر الطائفيّ واستعادة الثقة بين الطائفتين، أدّت إلى مزيد من انعدام الثقة، بعد أن تغلغل عتاة الإرهاب الطائفيّ في مؤسسات الدولة، تحت مسمّى \”إعادة التأهيل\”.
من بترايوس إلى أوباما
تقوم استراتيجية إدارة أوباما حالياً على تكرار تجربة \”بترايوس\” الفاشلة، رغم ما تم ترويجه كذباً عن نجاحها. يروج أوباما والمحللون الأمريكيون ووسائل الإعلام الأمريكية، ومعهم جمع كبير من العراقيين لفكرة دعم \”العشائر السنية\” وتقديم التنازلات لهم لكي يحاربوا \”داعش\” ويخرجوه من محافظاتهم. وهنا يتكرر الخلط المقصود بين \”العشائر السنية\” وبين \”الفصائل السنية المسلحة\”، مثلما تمّ سابقاً الخلط بين الصحوات الحقيقية التي أنشأها رجال مثل أسامة الجدعان وأبو ريشة وبين \”صحوات\” القتلة الملطخة أيديهم بدماء آلاف الضحايا العراقيين من أمثال عادل المشهداني وعزام التميمي، برعاية الهارب عن العدالة طارق الهاشمي. يتمّ الآن أيضاً الخلط بين العشائر والأهالي السنة ممن حاربوا المتطرفين في السابق ويحاربونهم الآن، أو على الأقل لم ينخرطوا يوماً في أنشطة الإرهاب، وبين فصائل ملطخة أيديها بالدماء، مثل النقشبندية، وجيش المجاهدين، بل تشير بعض الأنباء إلى أن جهود \”الصحوة الجديدة\” قد تشمل تنظيم القاعدة الأم (وهو التنظيم الأقوى في الفلوجة كما يبدو) باعتباره قد أصبح \”معتدلاً\” بالمقارنة مع \”داعش\”! وتذهب خطة أوباما أبعد باتجاه تأسيس \”جيش سنيّ\” من هذه الفصائل الإرهابية، لمحاربة \”داعش\”، ثم تمهيداً لإنشاء الإقليم السني برعاية ساسة انتهازيين لم يخفوا فرحهم بسقوط \”الموصل في أيدي داعش\” وعقدوا الآمال عليها لتحريرهم من \”الغرباء\” و\”إعادة البلاد إلى أهلها\”.
الإرهاب ليس \”داعش\” فقط
أخيراً: مثلما كان الاعتماد على \”توبة\” زائفة للفصائل السنية المتطرفة في عام 2007 لم ينتج سوى \”هدنة\” مؤقتة استغلتها هذه الفصائل لتنظيم نفسها والتغلغل في مفاصل الدولة تمهيداً لفصل جديد من العنف والإرهاب، فإن الاعتماد الآن على شعارات كاذبة تطرحها هذه الفصائل نفسها، لن يؤدي إلى حل مستديم لمشكلة العنف. نعم لابدّ من عزل المتطرفين السنة عن البيئة السنية العراقية، لكن يجب أن لا نقع في الخطأ نفسه. في الماضي تم اختزال هذا الهدف إلى عزل \”القاعدة\” عن بقية الفصائل التي توهم الأمريكيون أو زعموا أنه يمكن التحاور معها، واليوم يتكرر الخطأ بعزل \”داعش\” عن بقية الفصائل، بما فيها \”القاعدة\”!! بل يجب عزل جميع الفصائل السنية المتطرفة المتورطة بالعنف والدماء بكل مسمياتها، عن الجمهور السنيّ العريض الذي يضم عشائر قاتلت التطرف منذ البداية، أو نأت بنفسها عنه، ويضمّ شخصيات وقوى سياسية اختارت العمل السياسي السلميّ، ويضم غالبية صامتة من المدنيين السنة المغلوبين على أمرهم ممن يسعون إلى حياة آمنة كريمة ولا يريدون أن تتحول مدنهم إلى معاقل للعنف والفوضى والتطرف وأحكام القرون الوسطى، ولا يريدون أن يكونوا ألعوبة بيد سياسيين مستهترين انتهازيين يستقوون بالإرهاب لتحقيق مطامع شخصية وحزبية دنيئة.
* شعلان شريف: كاتب عراقي