في قصته المثيرة \”المغفلة \” يروي أنطون تشيكوف عن امرأة تعمل مربية أولاد في منزل أحد الأثرياء، الذي يقوم بابتزازها وخصم راتبها لشهرين، وفي كل مرة يبتدع حجة مسبقة تستدعي معاقبة تلك المربية المسكينة بأن يخصم منها قدراً من ذلك المرتب، حتى انتهى إلى أحد عشر روبلا من مجموع ثمانين. وكلما اعترضت هي ردّ عليها هو قائلاً (هذا مسجل عندي!) إلا أن ما أثار استغراب الرجل صاحب المنزل، أن تلك المرأة راحت تشكره على إعطائها ما تبقى من المبلغ: أحد عشر روبلاً، في حين كان عليها أن تشعر حيال تغطرسه وجشعه بالغضب، فسألها عن السبب الذي جعلها تشكره في النهاية، بينما هي تشعر بالرضا:
-يا للشيطان! ولكني نهبتك! سلبتك! لقد سرقت منك! فعلام تقولين merci؟
هنا قالت له المربية :
-في أماكن أخرى لم يعطوني شيئاً!
قصة هذه المرأة تحاكي كثيراً من الأمور والمماحكات غير المتوازنة، وبصور أخرى، في قصاصات الراتب الشهري، وما يرافقها من قوائم المبالغ المستقطعة، وأثناء الخدمة الإلزامية في النظام السابق، عندما لا يصل من البعير سوى ذيله وأمعائه. كما حدث ذلك بعد الحرب مع مفردات البطاقة التموينية، التي بدأت تُخصم تدريجياً حتى وصلت على ما هي عليه الآن، وفي الفترة الأخيرة تفضل رئيس الدولة وزاد عليها مشكوراً بـ(كَضبة عدس) بمناسبة حلول شهر رمضان!!. يوازي هذا كله شناعة هو ما يحصل في كواليس أبنية مجالس المحافظات، من بيع المشاريع وتنقلها بين الشركات، ومن مقاول إلى آخر، حتى انتهائها إلى أصغر مقاول وأقلهم خبرة، قد يبلط شارعاً هنا أو ينشئ بناء لمدرسة هناك بنصف ما انتهى إليه، وبمواصفات رديئة، يضطر المواطن إلى القبول بها، وفق مبدأ عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة، وهو يعرف جيداً أنه ليس برئياً من غفلته، كما هو الحال مع المربية المغفلة، لكنه عادة ما يتمنطق في هكذا حالات بمنطق الموافق على مضض على توفر الحد الأدنى والرديء من الخدمات، مع يقينه بأن ثمة من ينهبه، ويسلبه، ويسرقه، وعلى الرغم من ذلك هو يشكره، لأنه حصل على ذلك الحد الأدنى.
الرجل صاحب المنزل في قصة تشيكوف كان يمزح مع مربية أولاده، وقد أعطاها المبلغ كاملاً في النهاية، ملقناً إياها درساً قاسيا لكي لا تكون مغفلة، وهي تدافع عن حقوقها وتطالب بها. وقد رضيت بذلك واغتبطت. وأكاد أجزم أن مواطننا سيفعل ذلك ايضاً، إذا ما تبيّن له أن أرباب العمل وأصحاب رؤوس الأموال والتجار ومعهم المسؤول الحكومي، يمزحون بهذه الشأن.. لكنهم قطعاً لا يعرفون إلى هذا النوع من المزاح طريقاً.
إلا أنهم في الوقت نفسه، لا يكفون عن تلقيننا الدرس تلو الآخر، على نحو أقسى وأنكى من ذلك الذي تلقته المربية يوليا فاسيليفا، لكن دونما فائدة!.