استيقظت ذاكرتي المحنطة وغادرت سباتها متحركة نحو رفوفها العالية الموغلة في القِدم ولم تجد امامها الا اكوام من صور الماضي يطغو عليها اللونين الاسود والابيض. ولم تفاجئن سوى صورة يعود تاريخها الى الثالث من مايس 1950 برز من خلالها الامير فيصل الثاني وهو في قاعة دراسية بمدرستة في انكلترا والصورة التقطت قبل عامين من تسنمه عرش العراق والى يمينهِ الامير المهزوم كارم من عائلة هندية اسمها نظام الملك الذي فقدت اسرته امارة حيدر اباد الدكن قبل عامين من ذلك التاريخ، بعد ان استولت الهند على تلك الامارة في حرب خاطفة سميت( بعملية بولو) الشهيرة وانتهت فيها اسرة نظام الملك الحاكمة في تلك الامارة . فعندما كان العراق يزدهر في ذلك الوقت بتعاظم عوائد ثرواته النفطية ، كانت امارة حيدر اباد تزدهر بثروة طبيعية قوامها مناجم الماس وان اكبر جوهرة جلست في مقدمة التاج البريطاني والتي سميت ( كوهان نور) كانت هدية من اسرة نظام الملك في حيدر اباد الى ملك بريطانيا لتوضع في مقدمة التاج الملكي.
كان الامير فيصل الثاني والاميركارم يتلقان تعليمهما الارستقراطي في ( مدرسة هارو) في انكلترا وهي مدرسة خاصة بابناء الملوك والقادة والامراء ، الذين اعتادوا على تربية ابنائهم في هكذا مؤسسات خاصة .وتذكرت رحيل عائلة نظام الملك عند تفقدي لمقبرة العائلة المالكة في حيدر اباد التي زرتها في مطلع الالفية الثالثة في حين لم تفارقنِ صورة مقبرة العائلة المالكة العراقية التي كانت تجاور مدرستي في بغداد في صغري وكلتا المقبرتين ضمتا رفاة عائلتين انقرضتا حقا في تطور اسيا السياسي منذ بدايات الحرب الباردة.
واللافت ان ثمة مفارقة حادة في حياتي الشخصية التصقت بشكل او باخربلعنة اسمها لعنة الملك.
ففي مسارات ذاكرتي سواء المحنط منها او المتحرك، ظلت حياتي الشخصية شديدة الارتباط بتلك اللعنة ولم اتخلص منها على الرغم من براءتي من تبعاتها التي صار لها ضحايا وابرياء على مدار العمر السياسي للعراق الجمهوري . ففي تموز 1958 قُتل الملك في ثورة العراق وكنت في عمر العاشرة عندما زرت قصر الملك ( قصر الرحاب ) لأتطلع على معالمهِ في الايام اللاحقة للثورة مباشرة ، ووجدته قصرا متواضعاً مبعثراً لا يعبر عن طغيان وشراسة وغطرسة الملوك والاباطرة. فمعالمه كانت في غاية البساطة و بنائه بمواد بناء عادية جدا و ما تبقى من اثاثه لايستحق النظر، الا انه بالرغم من ذلك لم يفقد هيبته الملكية، والذي فاجئني في تلك الزيارة العفوية، ان ثمة نسوة من طبقات مسحوقة كن يحملن غرابيل الطحين وهن يغربلن ركام القصر فعسى ان يعثرن على ماسة تماثل جوهرة كوهان نور او اكبر! ،فبعد ان افترشن الارض بحثا عن الكنز دخلن فجاة في اشتباك وقع بينهن وهن يؤشرن في تلك اللحظة نذيرا غامضا يزحف بين ايدهن مههدا بالخراب المقبل ! كانت حصيلة انقضاضهم العثور على درهم وجدنهن بين الانقاض وهو الدرهم الفضي اللون والذي حفرت عليه صورة الملك فيصل الثاني الذي اصيب في ذات القصر عند قيام الثورة ومات بطريقة مؤلمة عبرت عنها ابتسامتهِ الحزينهَ ولاسيما في تلك الصورة في مدرسة هارو التي عثرت عليها في رفوف ذاكرتي العالية .
لم افلت من لعنة الملك إذ اصبح قصر الرحاب او القصر الملكي سجنا رهيباً لاحرار العراق سُمي بقصر النهاية الذي انتهيت اليه شخصيا كسجين رأي في واحدة من دهاليزهِ في اوائل سبعينيات القرن الماضي اي بعد انقضاء ثلاثة عشر سنة من زيارة ذلك القصر في تموز 1958 . وعند دخولي باحات القصر ثانية كسجين وليس متفرج تذكرتُ لعنة الملك وفي ذاكرتي المنفلتة التي غادرت تحنيطها، تذكرت تلك النسوة اللواتي يبحثن عن الكنز المفقود الذي قوامه درهم الملك ليس الا في ذلك الركام الدامي كي ادفع ثمنه غاليا في مستهل سبعينيات القرن الماضي مع من فقد اوقتل من الاحرار في قصر النهاية على يد جلاد لايعرف الشفقة في هذه الموجة المستهترة من تاريخ العراق السياسي!
مرت السنين ولم تغادرنِ اللعنة الملكية هذه المرة التي اخذت طورا اخر في نهايات حياتي. فبعد مروراكثر من خمس وخمسين عاماً ، التقيت في لندن في خريف العام الماضي ،و بحكم عملي الوظيفي في السلطة النقدية، بممثلي دار السك الملكية البريطانية واستمعت منهم في ذلك اللقاء نبذة حول التاريخ النقودي للعراق و عن دور تلك الدار العريقة في سك عملة العراق او التي تداولها العراق منذ مئة عام. هنا بدا دخولي حقا
مجال جاذبية لعنة الملك وللمرة ثانية لاتمتع بآلامها الحقيقية كرة اخرى بعد ان بلغت من العمر عتيا .فبعد ان قدمت دار السك الملكية البريطانية تاريخها في العراق قامت من فورها لتطلعني على نموذج من ذلك الدرهم نفسه والمحفوظ في متاحفها قرب العاصمة لندن وهو الدرهم ذاته الذي يحمل صورة الملك فيصل الثاني ،فوجئت وتحنطت ذاكرتي و اقشعر بدني ومخيلتي تقول ان هذا الدرهم هو نفسه عندما تهافتن النسوة عليه في تموز 1958 وهن يبحثن في الركام عن الثروة والكنز المفقود في قصر النهاية او قصر الرحاب .
حقا انه الدرهم الذي قادني في عز شبابي وقمة تطلعي للحياة لاكون سجين راي للعنة الملك في القصر نفسه والذي زرته طفلا وكان اسمه قصر الرحاب ودخلته سجينا سياسيا بعد ثلاثة عشر عاماً ضمن ضحايا البلاد السياسية واسمه سجن قصر النهاية!
تقبلت النظر الى الدرهم الملكي مع وفد دار السك الملكية البريطانية وقلبته اضطرارا وانا ارتجف خشية لعنتة، و لابد من ان استمع الى قصة تصميم وسك ذلك الدرهم المشؤم من ممثلي دار السك في انكلترا بكل سعادة وبرود اعصاب وعلى وفق طبيعة الشعب البريطاني وخلاصة القصة هي:
في العام 1950 توجه السيد (هامبري بجت) الى مدير مدرسة (هارو)للامراء قرب لندن وطلب من المدير ان يلتقي بالملك الصغير فيصل الثاني ليرسم له صورة تكون رمزاً موضوعاَ على ذلك الدرهم ،درهم المملكة العراقية ، وهذا ماتحقق فعلاً ،حيث رسمت العملة العراقية في العهد الملكي و سكت في تلك الدار الشهيرة وزينت بصورة الملك فيصل الثاني.
تسائلت ذاكرتي بعد ان فلتت من تحنيطها دهورا وعادت متحنطة تارة اخرى وانا اراقب تصرفاتها بحذر !هل ستحل بي لعنة الملك ثانيةً!! ، وكان الجواب نعم! ، ستحل بك للمرة الثانية قريبا جدا وفي ليالي حالكة قادمة بعد ان غادرتك الشمس على الرغم من برائتك ، لتكون ممثلاً للامة في هذه المرة لتحمل لعنة الملك في القرن الحادي والعشرين لانك البري وبرائتك بعمر الدينصور في بلاد الرافدين وتقبل لعنة الملك لكونهِ قُتل بلا ذنب يعرف و عاش يتيما ومات بريئا.
حقاً دالت دولة الايام فبدلاً من ثلاثة عشر عاماً من زيارة قصر الرحاب بعد سقوط الملكية في العراق والتي انتهيت فيها في القصر نفسه كسجين رأي و تحت مسمى قصر النهاية ، حيث كان عدد جلاديه يفوق عدد مسجونيه! انتهيت هذه المرة وبعد اكثر من اربعين عاما بنهاية مأساوية والقيت في سجن اخر اصغر حجماً وان التهم مازالت نفسها تدور عمن اصابتهم اللعنة من الابرياء، وحول من لمس الدرهم الضائع من ركام قصر النهاية وهو الدرهم الذي لمسته النسوة بعدما قتل الملك !.
لاتحزنوا عليّ في كهولتي فأنها لعنة الملك وينبغي ان اتقبلها! انها ابتدات مسارها معي حقا بالدرهم الذي تهالكت عليه النسوة في ركام قصر الرحاب الملكي او قصر النهاية الجمهوري ،ذلك الدرهم الملعون الذي امتزج بالدم في قصة اسمها بين القصرين ولكن في حقيقته هو قصر واحد وٌلد لنا سجنا رهيبا ومر في زنزاناته الانفرادية احرار العراق اذ هدرت دماء اكثرهم، وهم من اقصى اليسار العراقي حتى اقصى يمينه ولاربعين عاما متصلة او متقطعة، ولكن انتهيت في هذه المرة بلعنة الملك ثانية .
ختاما: فاذا كان تلمسي لانموذج الدرهم نفسه ، الذي سبق وان انتجته دار السك الملكية البريطانية واحتفظت به في متحفحها و شاهدته في خريف العام 2012 في لندن وانا ارتجف لاختم قصتي التي لازمتها لعنة الملك كرة آخرى. فعلى الكل ان يبحث فيه عن درهم العراق المفقود ! وان يكتب قصته في الحزن الانساني بعد ان يسمي عنوانها: ثروة العراق لمن والى اين!
*خبير اقتصادي