ثمة ما يستوجب التأمل في شعار \”لا لتقاعد البرلمانيين\”، الشعار قد يكون من بعض الوجوه ضعيفا، لا تبالغوا في تكراره، أو تأخذكم النغمة، فتعتقدون انه قابل للتكرار بلا توقف، أحيانا يجد المرء نفسه مجبرا على ملء فمه، وربما عقله وأحاسيسه بكلمة، لم تهيئ له الأشياء وتصاريف الحياة الفرصة، كي ينطق بغيرها: أنا من وجهة نظري أوافق على هذا الشعار \”الناقص\”، أؤيده وادعمه، لأنه صحيح و\”كامل\” في لحظته، غير أنني أصرح أيضا في الدوائر القريبة والمحيطة، بان هذا الشعار مضحك، حين يفحص بضوء المطلوب فعلا، يجب في مثل هذه الحالة، أن نبحث عن الأسئلة التي حين تتسلسل، نصل إلى الخلاصة المنطقية: البرلمانيون لصوص، بلا حيثية وطنية، بلا ماض، بلا أي مؤهل تاريخي أو نضالي، يسرقون الناس، يتقاضون عن موقع مسروق، وليس عن عمل، ما لا يمكن تخيله، لقاء تمثيل قام على أسس، خاطئة، استثنائية، شاذة، لا تنطوي على أي نصاب اجتماعي أو سياسي مقبول، أو يعبر عن السوية والتراتبية السياسية والوطنية، هؤلاء برلمانيو فراغ تاريخي طارئ، هم إذن عابرون وراحلون.
وبما أن الافتراضات، أو السياقات المنهجية، تطرح أمام المحاكمة العقلية مقارنات قد لا تكون في كل الأحوال موافقة لميلنا، هذا إذا لم تنزع إلى الاستقلال، مختبرة قدرتنا على التجرد، فأنا لا أستطيع أن لا أوافق في مكان ما، من يقولون بضرورة حرمان البرلمانيين الطارئين من التقاعد، إنما أميل لمطالبتهم وهم يرفضون هذا الإجراء، بالانتباه للتناقض المهيمن على هذا الخطاب أو الشعار، والسؤال المشاغب الذي يطل برأسه علينا في مثل هذه الحالة هو: لماذا تفترضون أن هؤلاء الأشخاص باقون في مناصبهم؟ ألا تشعرون بأن نقصا خطيرا قد داخل أصلا التصور، والبناء الذي أرسي عليه شعار \”لا لتقاعد البرلمانيين\”؟..وان مثل هذا النقص إذا كان لا يمنع تكتل الساخطين أو يحد من اندفاعتهم، من دون أن تنتفي عنه صفة عدم التناسق، فالمراقب المدقق يمكن أن يتبنى بدله على سبيل المثال شعارا من قبيل: \”لن يحصلوا على رواتب التقاعد، لأننا سنسقطهم عبر صناديق الاقتراع\” ووقتها فقط يكون الموقف قد اتخذ معنى آخر.
لا بل إن التحرك كله يكون قد اختلف معناه ودلالته، ونحن لا نزال إلى اليوم وبعد عشر سنين وأكثر، نعاني من قلة، أو انعدام التمييز أو الفصل، بين \” العملية السياسية الطائفية\” ومناخاتها وخطابها وقواعد عملها ومنهجيتها، وبين ضرورات ومفهوم \”العملية السياسية الوطنية\”. وكلنا نعرف أن من بين المنتفضين الحاليين، لا بل وأشدهم حماسا، عدد كبير ممن كانوا يصدقون وصدقوا، لفترات غير قصيرة، بان هذه \”العملية السياسية\”، هي المدخل الصالح لقيام الحياة الديمقراطية، ووقتها لم يكن هؤلاء اقل حماسا مما هم عليه اليوم، وان بالاتجاه المعاكس، فإذا كان هؤلاء يمتلئون الآن سخطا وتذمرا، إلا أنهم هم وغيرهم لم يبلغوا درجة بلورة موقف مستقل ومتكامل، يفصلهم كليا، عن خيمة وعن شباك \”العملية السياسية الطائفية\”.
وعلى سبيل المثال، وبمناسبة التجربة الأخيرة، من المفيد أن نذكر بأن شعار \”إلغاء تقاعد البرلمانيين\”، هو شعار مؤسس على رؤية وعلى مفهوم ومنهجية، مستمدة من ترسانة \”العملية السياسية الطائفية\”، وتدل على خضوع واضح لمفاهيمها، فالمشكلة في العراق اليوم ليست في \”رواتب تقاعد البرلمانيين\”، بقدر ما هي وأساسا في \”وجود\” هذا النوع، أو النمط من البرلمانيين، أو وجود هكذا برلمان. والشعار المناسب والديمقراطي في هذه الحالة، الشعار الذي يحتاجه العمل التغييري المنسجم مع هدف الدولة المدنية والديمقراطية، يجب أن يكون: \”لن يصلوا مرة أخرى\”، و\”لا برلمان لصوص\”، و\”لن نجعلهم يصعدون على أكتافنا من جديد\”، هكذا نكون قد بدأنا رسم الصورة والخيار المقابل، ووقتها نكون قد عينا أفق الخروج من، وعلى عملية سياسية معادية للديمقراطية، لا تنتج إلا تحكم المليشيات والسرّاق وأعداء الشعب.
يحاول عتاة \”العملية السياسية الطائفية\” تكريسا لدكتاتورية المليشيات، أن يساووا بين رفض عمليتهم من قبل الديمقراطيين، وبين الإرهاب، أو البعث، أو أي شكل من أشكال المروق، على نظام يعتبرونه مستقرا وشرعيا، جاء عن طريق صناديق الاقتراع. ما يضفي على المعركة مع هؤلاء كمزورين للديمقراطية، طابعا خاصا معقدا بالقياس للتجربة الديمقراطية، وضعف الممارسة الشعبية العراقية للديمقراطية، وتدني أو تشتت وعي النخبة الضرورية، وحيثما يروج هؤلاء لفكرة مضللة، تقول بان صناديق الاقتراع لا يمكن أن تأتي إلا باللصوص والطائفيين والسراق، وان هؤلاء هم من يستحقهم الشعب العراقي، وهو الذي انتخبهم، يغدو التحدي الكبير مركزا عند هذه الوسيلة المحايدة، أي \”الصندوق\” وما يجب أن ينتج، بينما تغدو المعركة الدائرة حوله شاملة وجذرية، نحن متمسكون بـ\”الصندوق\”، ولا نؤمن إطلاقا بأية وسائل أخرى غيره، نؤمن بنزاهته وحياده، ونعتقد بأنه يمكن أن ينتج ممثلين للشعب، يتحلون بالنزاهة والحرص على المصالح الوطنية، وعلى ثروات البلاد ونهضتها.
إذن فالمعركة تتركز هنا، على اليد التي تمتد إلى الصندوق، كيف نجعلها تعطي صوتها لنمط من الممثلين عنها، وتحرمه أو تمنعه عن نمط آخر، ثبت انه يمتهن اللصوصية والسرقة والفساد، والاستهتار بالمصالح الوطنية والشعبية، وهو ما لن يحصل إذا لم يغدُ جمهور الناخبين قادرا على التمييز، بعد أن يكون قد تجسد أمامه نموذج ومفاهيم وسبل عمل وطنية أخرى، يجدها قابلة للتحقيق، ويمكن أن تتحول إلى \”جبهة\” واسعة، هدفها الانتقال بالبلاد من \”العملية السياسية الطائفية\” إلى \”العملية السياسية الوطنية\”.
حسن أن تتصاعد الأصوات المطالبة بإلغاء رواتب البرلمانيين، فمثل هذا التحرك سيكون له وقع تنويري، وهو يفضح جانبا من مساوئ \”العملية السياسية الطائفية الفاضحة\”، إلا أن هذا النوع من الاحتجاج وما نم عنه من احتقان واسع على مستوى العراق، واستعداد كبير على المواجهة، ينبغي أن يذهب ابعد، وان يصير مركزا في رفض وجود هذا النمط من \”البرلمانيين\”، وصولا لإخراجهم من التداول، لصالح نمط آخر من ممثلي الشعب، يكونون خدامه، والحريصين على تأمين سعادته.
* سياسي وكاتب عراقي