لماذا تحتفل نادية العزاوي بأساتذتها؟

حول كتاب من تجليات الذاكرة للدكتورة نادية العزاوي.

ثمة أجيال في التعلم، ومنذ القدم. وكلنا يتذكر التراتبية الشهيرة في كتب التراجم والأدب. إذْ يذكرون للعالم شيوخه، وتلامذته فيما بعد. وكانت هي سلسلة مقدسة، ومعتمدة في اعتبار الرجل أستاذاً في مجاله، لأن العلم، كما نعرف، كان، قبل أيّ شيء، مشافهةً. ولا يكاد يعترف أحد من المتعلمين، قديماً، بأستاذ يأخذ علمه عن الكتب، أو الصحائف، كما يسمونها، على عكسنا اليوم. غير أننا، ثقافياً، لا زلنا نُقدّر الباحث الذي التقى بأساتذة كبار، وتعلم منهم، فنقول، معجبين بالرجل: درسّه عليّ جواد الطاهر أو شجاع العاني. رغم أنّ التعلم صار كلّه من الكتب والمكتبات. وكثيراً ما انطويتُ أسفاً لأني لم أحظ بفلان أستاذاً، في حين تطاولتُ فخراً لأن فلاناً درّسني، مع أنّ تلقي أفكار الأستاذ من مؤلفاته قد يكون أكثر أثراً وأشدّ مفعولاً من اللقاء المباشر به وسماعه ورؤيته والجلوس بين يديه. فلقد أطلق النقاد على مُتبعي طريقة الناقد الروسي بروب، على اختلاف جنسياتهم وأزمانهم، ذريةَ بروب، وكأنّ ما فعلته أفكار بروب في عالم النقد كان التكاثر والتفاعل والتوالد والتطور المستمر. في حين لم نكن في حالة التلقي الشفاهيّ سوى نقلة للعلم، محافظين عليه، نستلمه فنسلمه كما هو دون تغيير أو زيادة أو نقصان.

لماذا هم (ذرية) في حين نحن (تراتبية) تاريخية؟ لماذا لم توجد عندنا ذرية عليّ جواد الطاهر أو غيره. بل أعرف كثيراً من الأكاديميين الجدد لا يقرون بأيّة أهمية لعليّ جواد الطاهر. فهو ناقد انطباعيّ، في نظرهم، لا يتّبع أيّ منهج حديث، ولا يخرج نقده عن الأحكام والمواقف والشرح. ولذا ليس أمام غيرهم سوى تنشيط الذاكرة لمقاومة النسيان الذي بدأ يلف طبقة من الأكاديميين العراقيين الأوائل الذين كان لهم فضل إرساء بعض أهم القواعد البحثية والأكاديمية التي تتصل بالبحث العلميّ من جهة، وبصورة الأستاذ الجامعيّ من جهة أخرى، تلك الصورة التي بدأت تتعرض لكثير من الاهتزاز في حقب زمنية لاحقة. وهي مهمة جديرة بالاعتبار في رأي الدكتورة نادية العزاوي التي تخصص قسماَ من كتابها (من تجليات الذاكرة) لاستذكار أساتذة كبار كعليّ جواد الطاهر ومحسن غياض وهادي الحمدانيّ وإبراهيم السامرائيّ، ومراجعة منهجم النقديّ والعلميّ وطريقتهم في النظر والتقييم، بما يُكوّن صورة إنسانية وعلمية فذة يتوجب أن يُعاد إحياؤها والتنبيه إليها.

إذا تأملنا واقعنا الأكاديمي العراقي الذي لا يتجاوز عمره ربّما العقود الستة، فسنكون أمام عدد محدد من الأجيال؛ أولهم جيل المؤسسين، وكان متذبذباً بين شروط البحث الأكاديمي ومتطلباته كما تلقاه، وبين التأثير في المجتمع، كما كان قد تعرف عليه من خلال التأثر باللبرالية المصرية وبأعلامها من الأكاديميين كطه حسين. ولذا مال هذا الجيل إلى التبسيط النقديّ وإلى شرح النصوص وتقييمها.

الجيل الثاني، وكان يميل أكثر إلى الانكفاء الأكاديميّ والاعتزال خلف أسوار الجامعات، فقد تزامن هذا الجيل مع بلوغ الأنظمة الشمولية، وفي العراق تحديداً، أوج قوتها وتسلطها. وبذا مال هؤلاء إلى الأكاديمية القاسية في متطلبات البحث ولغته وموضوعاته. فلم يخرجوا عن الكتابة في التراث (وحصراً فيما انتقت الدكتورة العزاوي من الأسماء الأكاديمية التي اعتنت بالتراث) أو إلى العناية بالظواهر الشعرية والإبداعية لذاتها دون الخوض كثيراً في سياقاتها الاجتماعية والسياسية.

الجيل الثالث انطلق إلى آفاق النظرية وطلبها لذاتها بعيداً عن سياقه الأكاديميّ، وهذا الجيل زاد من هروبيته بالاعتماد على استغلاق الخطاب النقديّ بتأثير فوضى الترجمة وتنوع الأصول النظرية الغربية. وكان في ذلك رافضاً صنيع الأجيال الأكاديمية الأولى، ورافضاً بطريقة ذهنية الانتماء إلى الجامعة العراقية. فهي في نظره مجرد أسوار فرّغتها الأنظمة السياسية من مضمونها وأدوارها وبتواطؤ غير مُصرح به مع أكاديميين كبار، فلم تعد سوى مكان للارتزاق.

وبالطبع فهذا الجيل الأخير لا يمكن أن يكون من ذرية أحد (لا بروب ولا غيره) كما لا يمكن أن يكون مُصنَفاً ضمن تراتبية تقليدية.

ولم تبق غير الذاكرة بوصفها وسيلة من وسائل إقامة الصورة التي لم تعد قائمة في أذهان الكثيرين عن الجامعة العراقية وأساتذتها من الأجيال الأولى المُؤَسِسَة والرائدة. ولكنها ذاكرة (أنثى) تستطيع وحدها، ودون أن تشعر بالحرج، الإشادة بجهود لم يعد أحد يفخر بالتعبير عن الانتماء إليها كتابياً، وان كان ثقافياً وشفاهياً يفتخر بذلك. وتستطيع وحدها أن تقيم التراتبية (التعليمية) الثقافية. وعندها سيشعر القارئ بنوع من الرضا، فهو يطّلع على تجربة شخصية إلى حد ما، تشبه ما تنطوي عليه الرواية النسوية. كما انه وفي الوقت ذاته يطمئن إلى استمرار التراتبية تلك التي ينتمي إليها ثقافياً ويتعالى عليها كتابياً.

إقرأ أيضا