يؤكد الكثير من النقاد المتخصصين في الدراما “المسرحية” أن “ويليام شكسبير” هو أفضل كاتب مسرحي انكليزي على الإطلاق، بل الافضل عالميا مما دفع للاهتمام الكبير في دراسة اعماله وترجمتها الى كل لغات العالم، وتجديد عرضها على المسارح العالمية على اعتبار ان المسرحية تكتب لتمثل أمام الجمهور لا ان تقرأ. ولازالت الاحتفالات بذكراه تقام كمهرجانات عالمية في يوم ولادته او بالأحرى تعميده في 26 أبريل 1564 “كون يوم ولادته غير معروف على وجه الدقة” او في ذكرى رحيله سنة 1613 بعد ان قدم37 عملا مسرحيا بدأها في عام 1590 الى رحيله عام 1613، لكن تبقى العديد من التساؤلات لدى البعض تتكرر: لماذا كل هذا الاهتمام بشكسبير وقد مضى اكثر من اربعة قرون على رحيله؟! والحقيقة للاجابة على مثل هذه التساؤلات تقتضي بحثا واسعا يحتاج ملفا كبيرا لتغطية تفاصيل اثر شكسبير على الادب والثقافة والمسرح العالمي والادب ألانساني، يمكن التطرق الى جزء منها وخصوصا ما يمكن فهمه في الثقافة العربية بعيدا عن اثره في اللغة والادب الانكليزي.
عاش شكسبير في قمة ذروة انتعاش عصر النهضة حين انتقلت البشرية من ثقافة القرون الوسطى الى العهد التنويري، الذي تجددت فيه جميع القيم والعلوم الانسانية حيث اثر ذلك التحرر الفكري الى الانقلاب على الثوابت والبديهيات الكلاسيكية التي قيدت الابداع في العلوم والفكر الانساني ومنها الثقافة والفنون. كان شكسبير من أوائل الذين ترجموا القّيم الجديدة لعصر النهضة إلى المسرح بروحية معاصرة، حيث مكن ذلك التحديث من جذب عدد اوسع من الجمهور على اختلاف تكوينهم الاجتماعي والثقافي، لم يتمكن أي كاتب مسرحي قبله أن يستقطب جمهورعامة الناس بعد ان اقتصر الحضور على طبقة الاثرياء والمثقفين ورجال الدين، فمع ظهور مسرحيات شكسبير جاءت الحكايات التي تبهر عامة الناس بلغة ثقافية بليغة وراقية يتفهما الجميع على اختلاف خلفياتهم الثاقفية فأسس تيار مسرح جماهيري كبير ، الا انه كان يحدث تغييرا بسيطا على اعماله ولغته الادبية عندما يقدم اعماله المسرحية ذاتها في عروض البلاطات الملكية. لقد عد ذلك الجذب الجماهيري تطورا تأريخيا في عالم المسرح: ان ترى جمهور من عامة الناس يتفاعلون مع احداث المسرحية وبشكل صاخب احيانا بعد ان دفعوا قرشا واحدا بالكامل ثمنا لتذكرة الدخول لمتابعة الدراما في الصفوف الخلفية من الطابق الاول لمسرح “كلوب” الشهير الذي قدمت عليه معظم اعماله المسرحية، علما ان القرش الواحد كان يحصل عليه المشاهد ثمنا عن اجرة كدحه ليوم كامل.. فما الذي فعله شكسبير للمسرح كي ينتعش جماهيريا بعد ان سرقت نزالات حلبة مصارعة الدببة اغلب رواد المسرح مثلما تفعل مباريات كرة القدم العالمية في يومنا هذا!
ما الذي فعله وجعله ينجح في استقطاب جمهور شعبي واسع من دباغين، جزارين، عمال حديد و مطاحن، وبحارة السفن الراسية على نهر التايمز، البقالين، الخدم، أصحاب المتاجر، الخبازين، وغيرهم من التجار وأسرهم جعلهم يحضرون لمشاهدة الاعمال المسرحية.
كان نمط وقوانين المسرح الكلاسيكي بمفردات لغته الدرامية الثابتة، تشكل قيودا على تحديث المسرح، احتاج تغييرها الى شخصية جريئة تفككها وتعيد بناءها بشكل معاصر. وقد امتازت معظم الاعمال المسرحية الكلاسيكية بوحدة المكان والزمان والاكثر من ذلك وحدة الحدث فكانت احداث المسرحيات الكلاسيكية تجري في زمان محدد ما يسمى “وحدة الزمان” كأن يكون في المساء او الظهيرة او منتصف نهار يوم واحد وفي مكان واحد “وحدة المكان” كأن يكون في قاعة في قصر او ساحة عامة وسط مدينة او في داخل كنيسة اما احداث القصة فهي كلها تدور في موضوع واحد فقط اطلق عليها ب “وحدة الحدث” قد يتفرع عنها موضوع آخر صغير احيانا. فوحدة الزمان والمكان والحدث هي الطابع الممييز للدراما الكلاسيكية. ولاتزال بعض المسارح العربية تمارس نفس النمط المسرحي بدرجة مقاربة كما نشاهده في معظم المسرحيات المصرية على سبيل المثال.
فما قدمه شكسبير من اعمال تعد تحررا من تلك القيود، فمسرحياته كانت تدور في اوقات مختلفة قد تطول الى عدة ايام او اشهر، ففي المسرحية الواحدة يمكن ان نرى احداثاً نهارية ومسائية وليلية ومنها تحدث خلال اكثر من فصل من فصول السنة واصبح بالامكان ان يجتمع فيها مشهد فيه عاصفه واخر في اجواء صحو مشمسة، واختلفت كذلك الامكنة في نفس المسرحية، مما نوع المناظر المسرحية فمنها من اتخذت بعض مشاهدها منبالكونة مكانا او صالة صغيرة او قاعة محاكمة او حديقة. وقد تجري الاحداث قرب البحر ما يتطلب ذلك تحركا سريعا للتنقل بين مشاهد وفصول المسرحية فقد يأتي مشهدا تجري احداثه في بلاط الملك، ثم نعود الى مشهد اخر من نفس المسرحية في مكان عام صغير اوسوقاوغرفة نوم جلست فيه بطلة المسرحية تصفف شعرها، فهذا التنوع في مناظر المشاهد، رغم فقر الديكورات التي كانت رمزية جدا في اغلبها لكنها اضفت خيالا دراميا غذت ذائقة المشاهد ومتعته، وسهلت مهمة كتاب الدراما في الابحار في خيالهم الخصب دون قيود وقد مكن ذلك تقديم قصص واحداث ماكانبالامكان تحويلها الى دراما يشاهدها الجمهور على خشبة المسرح.
أما في مجال وحدة الموضوع او وحدة القصة، فكان الانتصار الاكبر لشكسبير في كسر النمطية، حيث استطاع ان يقدم في اي عمل مسرحي مجموعة من القصص المختلفة، التي لاترتبط فيما بينها فيشبكها بظفيرة متماسكة محبوكة بشكل تتداخل الشخصيات مع بعضها، بربطها عن طريق سلسلة من العلاقات الاجتماعية منها الصداقة او القرابة او بحكم المهنة، مما زاد عدد شخصيات المسرحية بينما كانت المسرحيات الكلاسيكية تتشكل من عدد محدود من الشخصيات لايزيد على عدد اصابع اليد الواحدة في معظم الاعمال قد تشاركهم الجوقة في الاداء بين فصولها لتروي احداثا عجز الكاتب عن تقديمها دراميا، وذلك بعد ان ينهي الممثولون حوارهم مما كان يعد ضعفا في البناء الدرامي فما جاء به شكسبير شكل انتصارا كبيرا للمسرح العالمي، حيث اصبح اكثر تنوعا مكن المشاهد التمتع بمشاهدة عدد من القصص المتنوعة في عمل واحد دون ان تضيع عليه الثيمة الكبرى للمسرحية، وابعدت عنه الملل.
استمر ما احدثه شكسبيرمن اسس درامية على كتاب الدراما لهذا العصر فمعظمهم يستنبطون التقاليد الشكسبيرية في الحبكة والبناء الدرامي مدينين له بالفضل في ذلك. كذلك فيما يخص الثيمة التي تهدف اليها المسرحية فقد اصبحت هنالك ثيمة عليا للمسرحية تتفرع منها عدة ثيمات بشكل لاتتضاربولاتتناقض مع بعضها البعض.
إضافة الى قدرته الابداعية في كتابة الكوميديا أوالاعمال التراجيدية والتأريخية، يعزى الى شكسبير انه خلط بأتقان بين التراجديا والكوميديا بدراما واحدة، فتجد مسرحية تنتهي نهاية مأساوية بينما تتخللها مشاهد كوميدية وظفها بشكل درامي بمهارة وتكتيك عاليين، فالمشهد الساخر لخادم عائلة “جوليت” وهو يسخر من نفسه كونه كلف بتبليغ المدعوين لحضور الحفلة ضمن قائمة سلمت اليه وهو لايعرف القراءة، ففي الوقت الذي كان المشهد تكتيكيا فرصة لتغيير مناخ المسرحية لامتاع المشاهد بعد سلسلة الحوارات العنيفة الصاخبة التي قد تثقل على المشاهد، فقد لعب المشهد دورا في تغيير نفسية المشاهد ولكن في نفس الوقت كان المشهد ضروريا للبناء الدرامي وسياق الاحداث وليس اضافة اعتباطية مجردة للاضحاك فقط ، فلو حذف هذا المشهد لانقطعت سلسلة الاحداث ولانتهت المسرحية عند ذلك، لان سبب جهل الخادم للقراءة، اضطر لان يستعين بالمارة كي يقرؤا له الاسماء فيطلع عليها “روميو” الذي كان مع صديقه من بين المارة ليكتشف ان عائلة عشيقته الأولى “روزالين” من بين المدعوين في بيت الاعداء التقليدين لعائلته، يأتي ذلك بعد ان شاهد الجمهور حدت الصراع التاريخي بين العائلتين في المشاهد السابقة، لكن روميو ذلك الفتى المراهق يصر على ركوب المخاطر ويقرر الذهاب الى حفلة، ليس مدعوا لها في بيت عائلة معادية لعائلته ساعده شكسبير في الدخول الى الحفلة بان جعلها حفلة تنكرية لايمكن لاحد من اعداءه ان يكتشفه وهنالك تبدأ قصة الحب الحقيقية بعد ان يلتقي بابنتهم جولييت لاول مرة فيتحول حبه الى جولييت بدلا من روزالين التي رفضت الارتباط به كونها وهبت نفسها الى الكنيسة .
ان تنوع المناخ الدرامي في اعمال شكسبير وبلاغته اللغوية والاسلوب الشاعري احيانا جعل المشاهد الاليزابيثي يتكيف مع مايشاهده وينسجم معه ويتابعه دون ملل او كلفة، فالأحداث تجري بشكل مقنع لها اسبابها المنطقية معروضة بشكل تلقائي مبسط رغم فخامته..
كذلك ابعد شكسبير المسرح عن ثيمات الدين والبعد القومي اللذين سيطرا على الاعمال القديمة، وحل مقابلهما البعد الإنساني موضع احترام البشر وبالذات ذائقة النخب الثقافية من المشاهدين. وبقيت هذه القيم مفردات المسرح الراقي الى يومنا هذا، فقد كانت الاعمال الكلاسيكية تهتم بالبعد المقدس دينيا، لما يطرح على المسرح، وماعداه فقد اعتبر من التابوهاتالتي يصعب التطرق اليها بحرية، فما كان يعرض على المسرح يجب ان يستنبط من القيّم الروحية والاخلاقية السائدة، بينما مسرحيات شكسبير شملت ثيمات انسانية مبتعدة عن الطروحات الدينية، قد لا تعارضها، لكنها لم تكن المصدر الاساس المستحكم فيها، فقدم شخصيات انسانية عادية و معقدة في آن معا نراهم يتأملون، يتناقشون، يترددون، يتراجعون، يندمون، كذلك نرى الجانب الإنساني من الأشرار والجانب المظلم للأبطال ايضا في زمن كان يصنف فيه البشر اما شريرا او صالحا، بعيدا عن فهم المؤثرات الخارجية على سلوكه وانفعالاته ..فقدم رؤية فلسفية انسانية طورت الدور الثقافي للمسرح اثر في المجتمع الانساني بعد ان غاصت في عمق النفس والطبيعة البشرية ووسعت الرقعة الجغرافية لمجتمع ابطال القصص الدرامية لذلك كانت ولا تزال اعماله المسرحية تحظى باهتمام المشاهدين على مدى اكثر من اربعة قرون مضت نظرا لأوجه التشابه المذهلة بين البشر بغض النظر عن الزمان والمكان.فأعماله رغم انها حصلت في عهود خلت لم تعد موجودة بيننا لكنها تبقى متجددة بثيمتها الانسانية وهذا ما وصفه به “بن جونسون” حينما كتب مقدمته عن المجموعة المسرحية الاولى لأعمال”شكسبير” التي طبعت بعد وفاته بسبع سنين حيث صادف ان توسع اختراع الطباعة الى اصدار الانتاج الاول مما سهل حفظ اعماله الى يومنا هذا، فقد تنبأ “بن جونسون” في تلك المقدمة باستمرار العروض المسرحية الشكسبيرية مستقبلا: “لم يكن شكسبير فقط رجل عصره، بل كان كاتبا لكل العصور“.
وفي هذا المجال ايضا يمكن ان نضيف ان الاعمال الكلاسيكية كانت معظم القصص فيها مأخوذة دائما من أسطورة مألوفة محكية، او قصة كان قد اطلع عليها المشاهد في تعاليمه الدينية فكان دور المسرح في غالبيته مكملا للمواعظ الدينية ولم تسمح التقاليد المسرحية السائدة إلا بتقديم الشخصيات العظيمة حسب نظرتهم فشخصيات المسرحية كانت مأخوذة من بين الأبطال والملوك والأمراء والنبلاء، تقدم على خشبة المسرح بأسلوب منمق يصور الحياة مقتصرة عليهم في ابداعها الثقافي بينما اختلفت تقاليد المسرح بأعمال شكسبير بان اصبحت شخصياته من تكوينات اجتماعية مختلفة رغم ان اهم اعماله كانت تنحصر في اروقة البلاط والقصور الملكية، الا ان هنالك أبطالا، عاديين ايضا ظهروا على المسرح من عامة الناس ليحكوا قصصهم، لذا فمنذ تأريخ مسرح شكسبير اصبح العام كله خشبة مسرح، واصبح بالإمكان ان نرى شخصيات مختلفة من الجنسين، يجري اعادة احيائها في الدراما، بعد ان كان ذلك يعد ايضا من التابوهات التي خيمت على عقلية الثقافة المسرحية لقرون طويلة.. رغم ان الشخصيات الرئيسية في اعماله هي من الطبقة العليا الا انها نماذج بشرية عادية ممكن ان نراها في حياتنا اليومية على اختلاف الأزمنة ولو بالوان اخرى بأمكاننا في مسرحياته رؤية الأسوأ (ماكبث ، ليدي ماكبث ، إياجو) والأفضل (بانكو ، كينج دونكان ، أو كورديليا ، الابنة الصغرى للملك لير) في الطبيعة البشرية.
إن قدرة شكسبير على تلخيص مجموعة المشاعر الإنسانية في حوارات بسيطة لكنها بليغة، ربما تكون السبب الأكبر لشعبيته الدائمة فقد كان لدى شكسبير فهم عميق لنا نحن البشر: كيف وماذا نفكر، ما نشعر به، وكيف ولماذا نتصرف استطاع بمقدرة ان يترجم خوالج النفس البشرية بصورة يمكن للمشاهد ان يلتمسها
ومن المؤكد أن أعمال شكسبير رفعت أهمية النهج الإنساني في الأدب، كان مساهمة شكسبير في هذه الزمن اكثر من مساهمة الزمن في شكسبير.
بقيت شخصيات شكسبير شائعة بسبب تعقيدها ولهذا السبب تحظى اعماله بإعجاب كبير من قبل الممثلين، والكثير منهم يعتبرون أن تمثيل احدى شخصيات شكسبير هو أكثر الأدوار صعوبة والأكثر مكافأة والاكثر متعة.
لقد صنف شكسبير بالأديب العالمي باستمرار كونه يناشد العواطف والأفكار التي تشكل جزءًا من الطبيعة البشرية الأبدية. ويشير إلى حقائق عالمية تتجاوز كلماته العرق والثقافة، كما يتضح من ترجمتها إلى كل لغة على وجه الأرض مما ادى الى استمرار شعبيتها في جميع أنحاء العالم لأكثر من أربعة قرون رغم اننا نفهم اعماله الان بشكل مختلف عن الطريقة التي فعل بها جماهيره الأصليين في الموجة الأولى من الحقبة الجديدة.
كانت اعماله تواكب التطور الاجتماعي الذي كان يحدث من الانتقال من العهد الاقطاعي الى بداية اتساع القطاع التجاري اتسع معه قطاع النقل البحري وما رافقته من تطورات اجتماعية فطرح تساؤلات انسانية مهمة منها: هل هناك مكان للرحمة والتسامح في نظام شره يلهث وراء الربح قبل كل شيء آخر يمثله Shylock؟ هل للأفراد الحق في تفضيل سعادتهم على التقاليد والخلافات العرقية مثلما حاول روميو وجولييت؟ هل الزوجة تنتمي إلى زوج؟ هل الثروة ضامن للسعادة؟ هل يجب أن تسيطر العلاقات المالية على العلاقات العائلية، أم العكس؟ هل نختار مصائرنا أم أنها ثابتة في النجوم؟
لوضعها في جملة واحدة، كان شكسبير يكتب “قيم، الإنسان الجديد”. أو على حد تعبيره في The Tempest، “عالم جديد شجاع لا يضم هؤلاء الناس“.
جمال شريف: كاتب وناقد سينمائي ومسرحي مقيم في كندا، حاصل على ماجستير في تدريس مادة الدراما