أصول كلمة الصيدلة
الصيدلةُ أو الصيدنة، كلمةٌ أعجميةٌ لا أصلَ لها في اللغةِ العربية، وقد وصلتْ إلينا من الهنديّة فتمّ تعريبَها على الهيئةِ التي هي عليها الآن ويبدو أنّ انتقال الجذرِ اللّغوي وصلَ إلينا من خلالِ الفتوحاتِ الإسلامية وإنّ كلمة صيدلاني وصيدلية صارتْ متداولةً في أوائلِ العصر العباسي مع ازدهارِ الحضارةِ الإسلامية، وربّما يكون عيسى الصيدلاني الملقب بأبي قريش هو أوّل من يطلق عليه صيدلاني، لكن شحّ المعلومات حول هذا العالم وحياته وآثاره يجعلنا نتريّث في الحكم على كونه الأسبق في حيازة هذا اللقب إلا أنه يمكن الوثوق بأنّ بداية العصر العباسي كانت أوّل الغيث في ازدهار الطب والصيدلة وفيها نلاحظ زيادة المتخصصين وانتقال العلوم الطبية من السريان الذي كانوا قريبين من الخلفاء والقادة إلى العرب حتّى صارَ لهم باعٌ طويل فيها تذكُرُه صفحات التطور العلمي.
وقد بحثَ العالمُ العربي أبو الريحان البيروني أصلَ هذه الكلمة وبيّنَ إنها مشتقةٌ من لفظةِ الجندلِ الهنديّ وتوسَّع في شرح أصولِها ومصدرِها في كتابِه الذي كانَ عمدةً في وقته والمعنون ” الصيدنة في الطب “علماً بأن هذا الكتاب لا يزالُ مخطوطً ولا أدري لماذا لم يُحقق لغايةِ الآن ولم ينشرْ منه إلاّ القليل على يدِ المستشرق الألماني ماكس مايرهوف مترجماً إلى الألمانية.
وأمّا معنى الصندل الذي ذكرناه فمن ناحية صيدلانية هو شجرٌ له رائحةٌ مميزةٌ وفوائد طبية هامة خصوصاً زيته الذي يستخدمُ في تحسين مرونةِ خلايا الجّلد وتوحيدِ لون البشرةِ؛ وذلك لاحتوائه على موادٍ متعددة مضادة للأكسدة والإلتهابات.و لا تتوقف استخدامات الصندل على العطر والزيت بل ويوجد منه البودرة والصابون الذي يعمل على تقليل حروق الشمس خصوصا إذا علمنا أن إستخدام الصندل كان في بيئةٍ مثل الهند التي تتميز بعض مناطقها بالمناخِ المداريِّ القارّي أو مناخ السافانا الحار.
في أصل جذور الكلمات الطبية والصيدلانية
ولو شِئنا التأمّل في جذورِ الكلماتِ ذاتِ العلاقة بالصيدلة لوجدنا الكثيرَ منها يعودُ الى اصول مختلفة خصوصاً وإنّ الدراسات بشأنها لا تزالُ مستمرة ولا يمكن بأيّ حالٍ الحديث حولَ اختصاصِ حضارةٍ بعينِها بالمطلقِ في ميدان التطور الطبي دون غيرها فكلّ حضارةٍ أنجزتْ ما أنجزته وقدّمت للإنسانية خبرتها التي أسهمتْ كلها في تطور الخبرة المتراكمة لبني البشر.
وعلى سبيلِ المثال، كلمة عُقار ترجعُ في أصولِها إلى العِبرية أو الآرامية ومعناها اصول النبات،أمّا المستشرقُ الألماني وصاحبُ كتابِ تاريخ الأدب العربي وكتاب تاريخ الشعوب الإسلامية كارل بروكلمان كان يرى أَنّ كلمة عُقار موجودة في اللغة الحبشية بمعانٍ مختلفة منها السم والدواء.
و للملاحظة فإنّ القدماء كانوا يعتقدونَ إنّ الدواء والعُقار هما الشيء ذاته أي المادة الشافية لكن في الوقت الحالي تطور فهمنا لمعنيهِما الدقيق حتى حصل تمييز بينهما لدرجة معقولة فأصبحنا نطلق كلمة العقار drug على الدواءِ المستخلص من النبات،أمّا الدواء medicine فهو وصفٌ عام لجميعِ الموادِ الشافية باختلافِ مصادِرها التي يمكنُ إستخلاصها منها.
أّما كلمةُ أقرباذين والتي تعني حديثاً دُستور الأدوية،فهي كلمةّ استخدمها العرب للإشارةِ لمجموعةِ المستحضراتِ والّنسبِ الخاصة بالأدوية والعقاقير و”بيان مركبات تلك العقاقير، والجُرعات التي يمكنُ تناولها منها بأمان، والمعايير التي تحدِّد قوتها ونقاءها”.و هي فارسيةٌ أو يقال أنّها اغريقيةٌ أو سريانيةٌ قديمة.
الصيدلة والنبات
إنّ جذرِ كلمة الصيدلة اللغوي الذي اوضحناه آنفاً ينبّئنا أصلا بمدى الإرتباط الوثيق بين المهنةِ هذه والاستخدامِ الطبي للنبات،لاسيّما وإنّ الكثير من المواد الفعالة للأدوية في الوقت الحاضر مشتقّة من النباتِ ويوجدُ فرعٌ كاملٌ يتخصص فيه الصيدلي لدراسةِ مثل هذه المواد الفعّالة ذاتِ العلاقةِ الطبيّة ويسمى هذا الفرعُ بعلمِ العقاقير pharmacognosy.
ويبدو أنّ بدايةِ النّشاط المتعلقِ بالصيدلةِ عموما كانَ مع بدايات ظهورِ الزراعة وقد تطوّر هذا النشاط مع تطوّرِها، لاسيّما إذا علمنا إنّ المتخصصين الأوائل كانوا يسمّون بالعشّابين “Herbalista” وهؤلاء كانوا يعتمدون جمع الاعشاب النافعة طبيا ونقعها أو خلطها لشفاء الجروح ومعالجة الأمراض وقد نقلوا خبراتهم القائمة على التجربة المباشرة لأقوامهم وشعوبهم تدريجياً.
لكن علينا الانتباه إلى أن فكرة التجربةِ هذه قد شابها جهل البشر وطفولةِ عقولهم،إذ كان فنُّ المداواة والشفاء يختلطُ بالسحر والشعوذة والخرافات فمثلا كان يُعتقدُ في الأزمنة السحيقة أنّ بعضَ النباتاتِ الطبيّة فيها روح إلهية شافية وأنّ الآلهة هي التي علّمت البشر فن التداوي هذا وأوحتْ لهم بمكنونِ هذا النبات وذاكَ دونَ غيره.
لكن ومع تطوّر الخبرةِ الإنسانيةِ وبزوغ فجر الحضارة في وادي الرافدين ومصر والحضارة الإغريقية واليونانية والحضارة الإسلامية لاحقاً تطوّرتِ المعارف عموماً ومنها علم التداوي وصار هذا العلم محطَ أنظار الكثير من النوابغ فطوّروه وأرسوا قواعده وأساساته.
دور العرب والمسلمين في تطور الصيدلة
لم يكن الدور الذي لعبَه المسلمونَ في تطوّر الطبّ والصيدلة على حدٍّ سواء قليلاً، بل على العكس كانتِ المساهمة الإسلامية بارزةً وعظيمةً ولو عرفنا أنّ أوّل بيمارستان نظامي قد بُني في بغداد وإنّ أَوّل المدارس المختصة في علم المداواة قد بُذرتْ بذورها هناك وأنّ الكثير ظن العلماء المسلمين قد شاركوا- بجلاء- بتطور هائل في ميدان معرفة الأدوية وطرق جمعها ونسبها وجرعاتها وأفنوا في سبيل لذلك جُلّ أعمارهم.. أقول لو عرفنا كلَّ ذلك لوصلنا لاستنتاج مفادُه أنّ المساهمة الإسلامية كانت عظيمة وهذه المساهمة لم تكن لتحصلَ لولا الظروف الملائمة السياسيةُ منها والإقتصادية والإجتماعية.
ومن جملةِ الإسهاماتِ الدقيقة للعلماءِ المسلمين والعرب في الصيدلة هي اهتمامهم بالمعايير الصيدلانية التي تسمى الآن “دستور الأدوية”و لهم في ذلك مؤلفات ضخمة خصوصا علماء الأندلس ومنهم على سبيل المثال إبو البيان بن المدوّر الذي وصفه إبن أبي اصيبعة في كتابه “عيون الأنباء في معرفة الأطباء” بأنه ” أقدر أهل زمانه من الأطباء على تركيب الأدوية ومعرفة مقاديرها وأوزانها على ما ينبغي”و هو صاحبُ كتاب الأقرباذين الذي احتوى 607 من العقاقير وما يتعلق بها.و من المشاهيرِ الذين اهتموا بكتابة مثل هذه التفاصيلِ الخاصّةِ بنسبِ الأدوية العالم الأندلسي إبن البيطار وإبن زهر وداوود الانطاكي وابن عباس المجوسي وابن وافد وغيرهم الكثير.
ولعمري إنّ هذا الكم الهائلِ من المتخصصينَ في علمِ المداواةِ من أطباءَ وصيادلة يشيرُ بشكلٍ لا لبسَ فيه لمدى إهتمام الخلفاء الخاص بهذا المجال وعملِهم على إنشاء قوانين خاصة لممارسةِ كُلّ مهنة وإنشاء البيمارستانات والعطاء الجزل للعلماءِ الذي كانَ يحفّزهم ويبعثُ فيهم روح التطوّر المستمر إذ إنّ هذه الإعطيات تشبه اليوم المنح التي تقدّمها الجامعات الأوروبية لباحثيها.