شكلت الخطابات الثقافية في العالم العربي تأويلات متعددة عن العلاقة مع الغرب وبالذات الخطاب الروائي بوصفة احد التصورات الثقافية، فمنذ (عصفور من الشرق) توفيق الحكيم و(موسم الهجرة الى الشمال) الطيب صالح و(الحي اللاتيني) سهيل ادريس، رسمت هذه النصوص الروائية صور افتراضية (هويات جماعوية) بشأن الغرب وهي جزء من الانفعالات المريعة للحركات القومية واليسارية والاصوليات الدينية، هذه الاعمال الثقافية كتبت في عصر الدولة الوطنية العربية وخطاباتها الثورية، في هذا الفضاء الايديولوجي حددت احكام مسبقة ومستديمة للتعارض الجذري بين الشرق/ الغرب، واسست ثيماتها المركزية وفق علاقات جنسانية افتراضية (ذكورة/ انوثة) ذكورة الشرق/ مقابل/ انوثة الغرب، لم تكشف هذه التصورات الثقافية الاشياء الكامنة في الغرب الكوني، (الميراث الحضاري، الدولة، المؤسساتية، فصل السلطات، سيادة القانون، التعددية السياسية والاجتماعية والفكرية وتنوع الهويات)
مشروع ديوان الشرق والغرب
في أعقاب الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 ولد المشروع الألماني (ديوان الشرق والغرب) الذي يهدف إلى الحوار بين الأدباء الألمان وزملائهم في العالم العربية وإيران وتركيا. أصبح هذا المشروع معروفاً بعد أن تبادل عدد من الكتاب العرب الزيارة مع الكتاب الألمان، وعقدت الندوات في القاهرة وبيروت والرباط وبرلين وميونيخ وشتوتغارت، وكان مشروع (ديوان الشرق – الغرب) المدعوم من قبل معهد غوتة وبرلينر فستثيله وكلية العلوم البرلينية ليعد بناءات العلاقات الحضارية والثقافية، هذا المشروع قائم على جمع اديبين من عالميين مختلفيين (عربي/ الماني) حيث تجري عملية استضافة متبادلة لفترة زمنية، حيث يزور الكاتب العربي بلد الكاتب الالماني ثم يزور الكاتب الالماني بلد الكاتب العربي وتجري نشاطات ادبية ومجتمعية، بهدف اقامت حوار ثقافي بين الكتاب والمثقفين والمفكرين. وقد تم اختيار الكاتب الروائي اللبناني رشيد الضعيف مقابل الكاتب الالماني يواخيم هلفر، بعد انتهاء فترات الاستضافة المتبادلة اصدر رشيد الضعيف كتاباً وهو عبارة عن نص روائي وتقارير وملاحظات أي كتاب متعددة البنيات السردية بعنوان (عودة الالماني الى رشده) في حين كتب يواخيم هلفر كتاب (خطاب مقابل خطاب) تعليقات حول كتاب رشيد الضعيف، هذه التعليقات والملاحظات والنص القصصي تعكس بدوره ذاتية كل منها ومعارفة المسبقة واحكامه ومنظوراته الفكرية والسياسية والانساق الثقافية التي ينطلق منها.
العقل العربي القطيعي
عندما يتصل توماس هارتمان مدير برنامج حوار الشرق/ الغرب بالكاتب الروائي اللبناني رشيد الضعيف وهو استاذ اكاديمي وكاتب تنويري يساري فضلاً عن ذلك انه خريج احد الجامعات الغربية يزوده بمعلومات تفصيلية عن شريكه في الحوار الثقافي، الكاتب الالماني يواخيم هلفر قاص وروائي مسرحي ذو ميول جنسية مثلية، (لكن اللافت أنه أصر هارتمان مدير برنامج حوار الشرق/ الغرب،على إعلامي بأنه مثْليَّ! فقلت له، لما رأيته يصر، إن هذا شيء يخصه ولا دخل لي فيه، فقال: أوكي، ولكنني رأيت أنه من واجبي إخبارك لاكمال معلوماتك عنه) لكونك في نهاية المطاف عربي، (العرب يرفضون القبول بالمثلية كحق من حقوق الانسان) وقد هيمنة هذه الثيمة (الهوية الجنسية البيولوجية) على تفكير الروائي رشيد الضعيف، جاعلاً منها البؤرة المركزية في ملاحظاته واحكامه الشخصية والثقافية لتخليق قطيعة مع الاخر الالماني ووضعه كشخص بشري ومجتمعي وثقافة وحضاره في موضع الشك والتساؤل والعداء المضمر للمثلية الجنسية، حيث لم يعالج الروائي اللبناني في عمله السردي وحواراته الثقافية المعطيات الحضارية للكون الثقافي للمجتمع الالماني ولم يذكر الادب والفكر والفلسفة. وانما تحول المشروع التثاقفي والحواري (الالماني/ العربي) الى نقطة تتمركز حول ظاهرة هلفر المثلي. هذا هو ما فعله رشيد الضعيف في (عودة الألماني إلى رشده). لا شك في أن الكتاب يحاول أن يقترب من موضوع المثلية الجنسية التي ما زالت تمثل نوعاً من التابو في العالم العربية الاسلامي، ويحاول أن يفهم وأن يستكشف ذلك العالم الغريب تماماً على كاتب من بيئة (تحتفل بالذكورة).
ستراتيجيات التسمية
بما فيها بناء ستراتيجية تسمية النص السردي والذي اخضعه الرشيد للتغيرات الواقعية في حياة هلفر اليومية، خلال اقامته في بيروت، حيث يلتقي هلفر في بيروت بصحيفة المانية ويحدث نوع من الانسجام والزواج. يوصف رشيد الضعيف هذا الحدث بوصفه عودة الى الرشد من عالم الهوية الجنسية المثلية الى عالم الهوية الجنسية الغيرية فمن خلال النص السردي الروائي والتقريري نكتشف حجم تجذر رشيد الضعيف (الاكاديمي) التنويري، اليساري بالفضاء الفكري التقليدي فضلاً عن احكامه المسبقة والمناهضة للمثلية الجنسية، حيث يمارس النقد اتجاه التصورات الاخلاقية للمجتمعات الغربية من منظور الثقافة العربية. فهو يقدمها مطبوعة بكثير من الفجور ويعدها انهيار للمجتمع بحد ذاتها. اضافة الى ذلك يوصف المثلية الجنسية والتي هي جزء لا يتجزأ من الحريات الفردية والتي تصل الى حد القيم المقدسة في المجتمعات الاوروبية. حيث يتم الفصل بين العام والخاص بوصفها رمزاً للازمة الحضارية لهذه المجتمعات بل ان ذهنية الروائي رشيد متوجسة دائماً من احتمال قيام هلفر بالتودد اليه وهي جزءاً من اسلوب يتربص في المخيلة العامة للمجتمعات والانتلجتسيا العربية وعندما يلتقي رشيد الضعيف بالمفكر المصري نصر حامد ابو زيد في المانيا يخبره انه بدعوة من برنامج ديوان الشرق/ الغرب وحين يسألة عن الكاتب الذي سيعمل معه اجابه بانه (كاتب مثلي) لكنه لم يشأ ان يقول (لوطي) لانها تحمل دلالات سلبية. فاستعمل كلمة (مثلي) الحيادية المستحدثة في اللغة العربية، لكن نصر حامد ابو زيد سمعه يلفظ مثلي لا مثليّ أي بدون الشده على الياء فسأله مستفسراً: مثلك؟ سارع رشيد الضعيف الى النفي والتوضيح كمن داهمه الرجس والدنس. ان هذا الحادث فضلاً عن النص السردي يحمل في ذاته ادانة كاملة لاخلاقيات الحداثة الغربية المتنوعة وهي جزء من الثقافات الذكورية للوعي العربي والتي تقوم بناءاتها، على معادلة ملتبسة.
الرحلة المدنسة
في برلين تبدأ رحلة رشيد الضعيف، التي حولها هو شخصيا من مغامرة معرفية – ثقافية الى اقتحام عالم المثلية، ومحاولة فهم تفضيل رجل لرجل وعزوفه عن الجنس الآخر. يستمع لقصة يواخيم وتعلقه بـ(عشيقه) الذي يكبره بثمان وثلاثين سنة، تعلق مستمر منذ ما يزيد عن عشرين عاماً لم يفترقا خلالها أبداً (يسكنان في بيت واحد وينامان في فراش واحد ويتشاركان كل شيء كرجل وامرأة زوجين، ولم يؤد خلاف بينهما يوماً إلى الطلاق لأنهما في رباط حر أقوى من الرباط القانوني أو المقدس).
ان رشيد الضعيف يحول جسد يواخيم هلفر الى نظام من العلاقات الدالة المنتجة للمعاني السليية حيث لم يستحضر الانساق الفكرية والاقتصادية والفلسفية الحافة بالجسد الانساني (الذكوري/ الانوثي) والعلاقات القائمة بين الفرد/ المجتمع أي الفضاء الجماعي للجسد يقول هلفر: اما واني قد اضحيت الان كشخص وليس ككاتب موضوعاً للتبادل الثقافي فهذا امر لم اتوقعه لكنه لا يضير في طالما يخدم المعرفة رغم ان كلانا ليس الممثل المثالي لمجتمعه في نهاية الامر لا يستطيع ان يقوم أي منا بتمثل وضعيته ثقافية بشكل مطلق.
المثلية ما تزال في تصور الروائي العربي رشيد الضعيف تتكون من الدنس والقذارة. يركز الروائي هنا على تبعات غياب المرأة عن المكان والتي تمثل النظافة والاهتمام والطهر، كانت زيارته لمنزل يواخيم الذي يعيش فيه مع (عشيقه). مصحوبة بـ قلق وارتياب مبعثه ان (رجلين يقيمان معاً هما الوسخ والاهمال وغياب المرأة) ولكن عند وصوله الى البيت ( يواخيم وعشيقه ) وجد منزلهما، كثير الضوء بواجهة عريضة زجاجية تطل على السماء فوق سطوح الاحياء الشرقية من برلين. كل قطعة اثاث فيه مشتراة لذاتها ومنتقاة لأنها المناسبة، كأنها صنعت لهذا المكان، يعترف الضعيف أنه لم ير مثل هذا البيت من قبل، (لا شك ان الخوف من أثر الرجس والدنس في أنفسنا أعمق مما نتصور) هكذا يعترف.
وهنا نكتشف من خلال النص السردي الثقافي الروائي ان المجتمعات العربية والافراد الاجتماعيين والعقل العربي يفتقد للتمايز الوظيفي بين ماهو بيولوجي وماهو اجتماعي، حيث يتم تحويل البيولوجي الذكوري (الطبيعي) الى امتيازات هوياتية ودينية وهيمنة وتسلط لتكريس دونية الاخر (المرأة، الاوربي، الغرباء، المثليين ) والسبب يعود الى غياب البناءات العقلانية الفكرية في العقل العربي انه يقوم على ثنائية مانوية متشددة بالتمركز حول الهوية الجنسية اما انوثة مطلقة واما ذكورة مطلقة، حيث يوضح رشيد الضعيف هو الذين يقول انه يمارسون وبشكل دائم إعادة النظر في قناعات الجماعة بل وفي قناعاته الشخصية ايضاً إلا أن (كثيراً من مفاهيم الجماعة تتسلل إليَّ وتفعل فعلها فيَّ بدون أن يكون ليقظتي أثر عليها ) يذكر انه أحس بفرح كبير أول مرة جاء ابنه فيها مع رفيقة له واختلى بها في غرفته.. (تأكدت من رجولته قد اكتملت ) فقد كان رشيد الضعيف يخاف على ابنه خوفاً بسبب أمرين: أن يدمن المخدرات وأن يصير مثلياً.
بنيات عقلية
البنية العقلية البيطرياركية والثقافة العربية بشكل عام تمنع رشيد الضعيف من اعادة انتاج الادوار والهويات الجنسية حيث يرى (ان الفراش هو المكان الذي يقوم عليه الصراع الفعلي بين الشرق والغرب وهو احد الجبهات المفتوحة) ويعيد الثيمات المركزية في السرديات الروائية للدولة القومية العربية. يعترف رشيد الضعيف أنه (من بيئة تحتفل بالذكورة وتحتفي بها، ويحلو لها أن تفخر بها كلما سنحت مناسبة. والأب عندنا يكنى باسم ابنه البكر، والابن البكر على اسم جده) تبرز هذه النقطة كموضوع نقاش بين رشيد الضعيف ويواخيم. الأول يرى ان المجتمع الذي يشرع الزواج المثليَّ هو مجتمع يعاني من ازمة علاقته بنفسه! يجيب الاخر مشيراً إلى أن هناك في كل مجتمع نسبة اثنين إلى أربعة في المئة من المثليين فماذا يُفعل بهم؟ ليرد الاول: ان تشريع الزواج المثلَّي شيء يختلف عن حق المثلَّي في تحقيق ذاته.
خطاب مقابل خطاب
حسب متطلبات البرنامج على يواخيم هلفر الاقامة في بيروت لمدة ثلاثة اسابيع بالتبادل، في بداية انخراط هلفر بالمجتمع البيروتي عرف الطريق إلى علب الليل التي يلتقي فيها المثليون، والمعاناة التي يلاقونها في لبنان ووصولهم إلى حدود اليأس ما يدفعهم إلى الانتحار، يؤكد على أن احترام حقوق الآخرين هو أن توافق على ما لا تحب وما لاتتمناه. ولهذا الأمر والمعني مثلَّي، فضلا عن ذلك كان ظهور هلفر في المجتمع البيروتي يتسبب في بعض الاشكاليات له من جهة ولرشيد الضعيف من جهة أخرى. فالأول يواخيم، سيأتي إلى مجتمع مازال القانون فيه يسمح بسجن المثليين، والثاني، رشيد الضعيف، وعلى الرغم من كونه استاذاً جامعياً وكاتباً حديثاً إلا أنه في نهاية المطاف ينتمي إلى بيئة كان النقاد العرب القدماء فيها يصفون الشعراء الكبار المبدعين بالفحول (والمثلية عندنا عمل مُشين معيب يجب قمعه، وجرم يُحاسب عليه القانون. والمثليون يُسمَّون شاذين. والممارسة المثلية هي إتيان بخلاف الطبيعة).
Yusef196161@yahoo.com