بدا الوعي السياسي الحداثي العراقي منشقا، ففي الثلاثينات وعلى عكس المروية الحداثية المنتصرة، صعدت الوطنية الحزبية الايديلوجية،على انقاض الوعي الوطني الشامل، فكانت بديلا عن ضائع غير متطابق مع الحقيقة، وناجم عن قصور عناصرها، لا عن نضجها، كما ادعى من عرفوا بالماركسيين على وجه التحديد.
فـ \”الموسمية \” والتقطع في نضال الزعيم الوطني \”جعفر ابو التمن\” وحزبه \”الحزب الوطني العراقي\”، لم يكن كناية عن نقص ذاتي، بل حقيقة موضوعية، ناجمة عن عدم تشكل العراق الحديث، وعدم اكتمال عناصر وحدته الوطنية، ولأن تيار الوطنية الناشئ، كان من بنية تتطابق مع الحقيقة الماثلة كما هي، فلقد سعى بما هو ممكن ومتوفر لقيادة النضال الوطني منذ تاسيسه عام 1922، لكنه عجز عن ان يشكل تيارا واسعا، يشمل العراق بالغالبية من فئاته ومناطقه المتباينة. الى ان وصل مع الثلاثينات ذروة ازمته، فاضطرب مابين ضخامة المطالب الشعبية من ناحية، مقابل قصوره التنظيمي والفكري، وضعف استجابة ادواته، امام زخم واحتدام الصراع المفروض من قبل الاحتلال والنظام الملكي، خاصة المتغيرات العنيفة، الاجتماعية والطبقية التي بدأت تفرض على بنية المجتمع، خلافا لطبيعته وتكوينه التاريخي، خصوصا في مجال العلاقات الزراعية بالذات، ما هيأ للايديلوجيا، وللتصور المفروض على الواقع، قوة عملية اهلته لتصدر العمل الوطني، والتقدم سريعا على التيار الوطني الاول.
وتعتبر الحاجة الواقعية الملحة والدافعة، مع قصور واستحالة تبلورالتعبير الوطني الأشمل، قوة الضرورة التي جعلت \”الحزبية الايديلوجية\” تصبح هي الوطنية السائدة والفاعلة منذ الثلاثينات، ذلك بالإضافة لقوة دفع المناخ العالمي، وحلول الاستقطاب الدولي بين قوتين ومعسكرين دوليين كبيرين، مع ما يزدحم به وضع متناقض من هذا القبيل، من تشوه في مجالات الرؤية المطابقة.
فالاحزاب الماركسية الطبقية، والقومية، والليبرالية الشعبوية، استعاضت بالايديلوجيا والمناخ الدولي المستجد، عن نضج الواقع الوطني، ففرضت تصورات ليس من الحتمي انها موجودة بالفعل في واقع العراق، كما اسست سرديات خاطئة، ورسمت مروية عن التاريخ الحديث، قائمة على اسقاط وفرض الرؤى والتصورات المسبقة، على المعاش والبنيوي والحقيقي.
وفي حين ان البنى التقليدية هي التي استمرت تمارس فعلها في الواقع، افترض هؤلاء ان العراق انتقل الى الراسمالية، بما انه صار مرتبطا بالاقتصاد الراسمالي، والسوق الراسمالية العالمية، ما يعني حتمية قيام \”شعب واحد\”، و\”سوق وطنية واحدة\”، اي قيام مجتمع منسجم بتراتبية طبقية، وهذا كله افتراض ايديلوجي ونظري بحت، لا اساس له في الواقع، ولم يكن المدخل الصالح او المقدمة المنهجية المنطقية، التي يجوز ويمكن استعمالها، لتعريف الواقع وحركته، وآليات الصراع فيه، ومسار تاريخه في الماضي والحاضر.
بهذا كانت تجليات الدولة والسلطة ومتغيراتها، تؤطر ايديلوجيا، سواء بفكرة التحديث والانتقال الى العصر او القومية، بينما هي محكومة في العمق لفعل البنى التقليدية، بالمقابل تتلبس الكتلة الاجتماعية المناهضة او اضطرت لتلبس شكل من التعبير الطبقي او الليبرالي الشعبوي او ارتضته، واقلمت حضورها من خلاله، كي يصبح اطارا مناسبا، يعرّف حركتها تعريفا مستعارا هو الاخر، مستمدا من لغة ومصطلح ومفاهيم صارت طاغية، دون ان ينفي بقاءها محكومه واقعيا الى عوامل موروثة وآليات تقليدية، مع اضطرارها لاتخاذ صيغ تناسب الايقاع الحديث المفروض.
وفي مجمل الاحوال، لم تظهر اية نزعة اصيلة، تتبنى كشف الآليات الفعلية للتاريخ، ولا برزت طاقة فكرية استثنائية، تناقض الهيمنة الايديلوجية ،وتقلل سطوتها الكاسحة.
ويعود هذا الاستعصاء الى التعقيد الاستثنائي الذي يميّز البنية الوطنية العراقية تاريخيا، وهو ما سنعود لتناول بعض جوانبه، بعد ان نواصل الحديث عن السيرورة التي اقتضتها فترة هيمنة الايديلوجيا، وهو ما استغرق تاريخ العراق خلال القرن الماضي، مع انها انقسمت الى فترتين، الاولى وتشمل الفترة من الثلاثينات الى الستينات، والثانية، هي فترة هزيمة الحداثة الايديلوجية، المرافقة لهيمنة الدكتاتورية المتلبسة لباس القومية العربية، فنهاية الفترة الايديلوجية، اعقبتها برهة من الفراغ، ما تزال مستمرة الى الوقت الحاضر، ومع ان هذه الفترة ترافقت مع متغيرات عاليمة استثنائية معاكسة كليا لتلك التي سادت في ثلاثينات القرن الماضي، الا انها لم تفرز اي انقلاب له دلالة فاصلة في مجال بلورة المنظور الوطني اللاحق على فترة الهيمنة الايديلوجية الحزبية، ومع ان الساحة الرئيسية لمثل هذا التبلور، انتقلت من داخل العراق الى خارجه، بظل السطوة المحكمة للدكتاتورية في الداخل، الا ان التبلورات في الخارج، وفي اوساط \”المعارضة\” المهزومة، والمتراجعة عن قلب الفعل التاريخي، لم تبلغ مستوى يؤهلها للتاثير في البنية الفكرية والسياسية العامة، فظلت متبقيات الفترة الحزبية، المتراجعة، حية ومسيطرة بفعل الاعتياد وقوة الفراغ.
ويبدو ان التبلور الوطني الجديد، لم يكن ليصبح حقيقة، من دون عوامل: منها سيرورات ما بعد انهيار الدكتاتورية عبر الغزو الأجنبي، وما عرفه العراق من شبح ادعاء \” الديمقراطية\” الكسيحة بقيادة القوى المنتهية الصلاحية تاريخيا، فما عرفه العراق منذ 2003 الى 2014 هو مسيرة حية وملموسة، وفحص عملي وتاريخي بالتجربة الحية، لطبيعة هذه القوى التي ورثت الدكتاتورية، لتقيم نمط حكم كارثي. وهذه التجربة وما تتمخض عنه، صارت تشكل الان، المناخ المناسب والضروري لانتعاش فكرة ومفهوم الوطنية الجديدة، المتجاوزة للوطنية الحزبية الايديلوجية المنهارة، اما على صعيد الادوات، فالامر يحتاج الى تظهير تاريخ، لم يعد قصيرا من الانشقاق داخل \”المعارضة\” قبل الغزو الامريكي وبعده، اي احياء سردية يسعى الحاكمون في ظل الاحتلال من اقطاب \”العملية السياسية الطائفية\”، ومعهم الاحتلال طبعا، الى طمسها كليا، ويبقى العنصر الحاسم الثالث، وهو البناء التصوري النظري للوطنية العراقية.
فمن دون المنجز الاخير، تظل الظاهرة الوطنية الجديدة، والتي نمت بالاصل في تضاعيف المعارضة الحزبية المندحرة، بلا تميز واضح، فالانطلاق من قواعد بديهية مثل \”رفض الاستعانة بالاجنبي لتغيير النظام\”، لا يكفي لجعل هذه القوة الصاعدة، مختلفة او تنتمي الى عالم اخر، اذ من السهل احالتها حتى الى النظام الدكتاتوري، واتهامها بتاييد بقائه، حتى وان اصرت هذه على تاكيد مطالبتها بـ\”التغيير\” في حينه، انما \”من دون حرب\”، ما يعني ان الولادة الجديدة تظل والحالة هذه مشكوكا فيها، وقابلة للطمس والتشويه، اذا لم تضف لها رؤية بديلة، نابعة من جوهر آليات التاريخ الوطني، وكيف تجلى عبر القرون واليوم، بخلاف ماقررته او تصورته \”الايديلوجيات\” المقحمة على الواقع، والمزورة لحقائقه ومعطياته، واهم من هذا لالياته الثابت منها والمتغير.
يتبع
* كاتب وسياسي عراقي