تخيّل أن تحاول اكتشاف سر نجاح كاتب مغمور، وتنتهي باكتشاف سبب تسمية كتابٍ لكاتب عملاق والتعرف إلى ماضيه وعلاقته الاستثنائية بكاتب عظيم آخر لم تسمع عنه من قبل.
هذا ما حدث معي عندما استمعت قبل أيامٍ لحلقة من حلقات برنامج Book of the Day [كتاب اليوم] الذي تنشره محطة أن بي آر المعروفة على منصة آبل بودكاست. استضافت الحلقة الكاتبة الصاعدة غابرييل زيفين للحديث معها عن روايتها الأخيرة التي تحمل عنوان Tomorrow, Tomorrow, and Tomorrow –والتي ربّما يمكن أن تترجم إلى “الغد ولا شيء غيره”، أو إلى أي عنوانٍ آخر لا يمتّ للعنوان الأصلي بصلة.
استمتعت بالحلقة واستهواني ما قيل فيها عن الرواية وما يدور فيها عن حياة مبرمجي ألعاب الفيديو، الاختصاص الذي تمنيت إتقانه في صباي، لدرجة أنني أرسلت رسالةً بريديةً إلى أحد عمالقة تطوير الألعاب في مطلع هذا القرن أطلب منهم -بكل سذاجة المراهقة وعنفوانها- أن يرسلوا لي الأسطر البرمجية التي كتبوا بها إحدى ألعابي المفضّلة. وكما فعلت قبل عقدين ونيفٍ من السنين -مع اختلاف الوسائل والأسباب والقدرات- فقد أرسلت رسالةً إلكترونية لناشر الرواية أحاول الحصول على حقوق ترجمتها إلى العربية، قبل أن أعرف بأنها قد ذهبت مسبقاً لناشرٍ ما.
قادني فضولي -الذي يشل حركتي ويعيقني عن المهم من عملي كلما سمعت باسم كاتبٍ جديد- للبحث عن زيفين وما ترجم من مؤلفاتها السابقة، واكتشفت بأن المترجم مهران الغايب قد عنون النسخة العربية من روايتها الأشهر The Storied Life of A.J. Fikry بـ“عناد السعادة: قصة حياة بائع كتب” وهو عنوان يبعد سنواتٍ ضوئية عن العنوان الأصلي. وقبل أن أتخذ حكماً مسبقاً وأحيل الموضوع إلى شرطة الترجمة، فكرت في التعرف أكثر على الكتاب المذكور ومحاولة استشفاف ما دعا المترجم إلى ذلك التغيير، ناسياً الهدف الذي بدأت به هذا البحث.
يعرف كل مغرمٍ بالكتب أو بيبلوفيلي -عطفاً على التسمية الإنجليزية (وهو مصطلح لطيف يختلف عن البيبلومانيا [هوس الكتب] المرضي، وليس له أي علاقة بالبيدوفيليا كفانا الله وإياكم شر أهلها)، بأن أسهل طريقةٍ لاستكشاف كتابٍ مع ضيق الوقت، هي تصفح مقدمته وقراءة فهرسه وإلقاء نظرة على صفحاته في حال توفر الكتاب، أو اللجوء إلى غودريدز، وهو فشلٌ لو تعلمون عظيم.
اكتشفت في تصفحي السريع لرواية “عناد السعادة” أن كل فصل فيها يضم مقدمةً قصيرةً تحمل عنوان عملٍ أدبيٍ ما، ومن هذه العناوين لفت نظري عنوانٌ يقول “عمّ نتكلم حين نتحدث عن الحب؟ ريموند كارفر /١٩٨٠”. لم تستفزني ركاكة الترجمة العربية للعنوان، بقدر ما شد انتباهي تناصّه بلغته الأصلية -في بعض الأحيان يعيد عقلي لا إرادياً النصوص العربية إلى لغتها الأصلية وهو أمر يسلب شيئاً من متعة القراءة- مع عنوان كتاب هاروكي موراكامي الذي صدر مؤخراً بترجمة بثينة الإبراهيم تحت عنوان “ما أتحدث عنه حين أتحدث عن الجري”. ولأنني ما زلت في طور التعرف على زيفين، ولم أسمع بكارفر من قبل، ولم أقرا كتاب موراكامي بعد -لوجود من يفوقه في الأسبقية ولمعرفتي بالحزن الذي سيصيبني عندما أقرأ حديثاً عن الرياضة وأسلوب الحياة الصحي الذي أفتقر إليه- فقد بحثت عن النسخ الإنجليزية من المؤلفات الثلاث وتأكدت فعلاً من وجود التناص واضحاً لا لبس فيه.
وكما يجري الأمر في زمن وفرة المعلومات وسهولة الحصول عليها، لم أحتج إلى الكثير من الوقت لأعرف عن علاقة موراكامي بكارفر ومدى تأثره به. ثم أخذت الأمور تتضح تترى واكتشفت مدى جهلي وأنا لم أسمع بأحد أفضل كتّاب القصة القصيرة في الأدب الأمريكي. شرعت باكتشاف جحر الأرنب الذي دلني عليه مهران الغايب وغابرييل زيفين دون قصد، لأجد أن ترجمة أعمال كارفر إلى اليابانية في الثمانينيات كانت جزءاً من مستهل ماراثون موراكامي الأدبي، وأن موراكامي صعِق بلذة أدب كارفر لدرجة أنه سافر إلى الولايات المتحدة للتعرف إليه عن قرب، وأنه قد خلّد ذلك اللقاء الوحيد في مقال بعنوان Literary Comrades – قد يترجم إلى “رفاق الأدب”، وأنه يقتبس من قصص كارفر في كتاباته احياناً “دون أن يدري” حسب تعبيره، وأن روائيّنا الياباني الأصل قد استأذن من زوجة القاص الأمريكي الراحل لاقتباس عنوان قصة What We Talk About When We Talk About Love في عنوان سيرته الذاتية، وتفاصيل صغيرةٌ مدهشة عن هذا وذاك، لا يجد فيها الشيطان مَكمناً، بل يهيم فيها فازانبيان ومن على شاكلته من عشاق التفاصيل، وأنا منهم.
ضائعاً هناك، تذكرتُ زيفين -وقد عرفت في بحثٍ منفصل بأنها ليست مغمورة وأن لمؤلفاتها حضور ثابت في جوائز الكتب وقوائم الأكثر مبيعاً- وفكرّت: لو كنت قد ترجمتُ لزيفين كتابها الذي تحدثت عنه في ذلك البرنامج، فهل سأتأثر بأدبها كما تأثّر موراكامي بكارفر؟ وتساءلت مع نفسي أيضاً: ألم يحن الوقت للبدء بممارسة الرياضة؟