المراقبة، نوعاً ما، هي لبّ الأدب. فالكاتب مراقِب حساس جداً، للواقع وللوجوه ولردود الأفعال، وقادر على الانتباه والتعبير عما لا ننتبه إليه، وبالتالي ما لا نستطيع التعبير عنه. وإذن فلا جديد في هذا. أما الجديد فهو أن تتحول عملية المراقبة إلى داخل النص فيما يشبه مسرحية داخل مسرحية، أو بما يحوّل النص السردي إلى مرآة عاكسة للتغيرات في العلاقة بين الذات والآخر. بين الكاتب والقرّاء، وبين الإنسان والمعنى.
ويبدو أن محمود عبد الوهاب كان حساساً جداً لمراقبة الناس يلتقطها ويتأثر بها. فهو بالمقابل، وقبل ذلك، يراقبهم وبطريقة هوسية جعلت منه كائناً خفيفاً جداً وشفافاً لا يكاد يمر دون أن يُلاحظ، وفي ذات الوقت لا يكاد من يلاحظه يرى شيئاً من حقيقته أو طبيعته بل العكس، إنه يرى من خلاله ما يريد أن يرى عن المدينة أو عن الناس وعن المصير، ولا يراه هو.
وهي رحلة شاقة، كما أتصور، الانتقال الى هذا الكائن الذي ربما لم يكن يريده عبد الوهاب أي الكائن الشفاف الكثيف في وقت واحد.
ولكنها طبيعة الأشياء يبدأ الإنسان صاعداً وينتهي نازلاً أو منحدراً إلى الصمت والسكون والوحدة والموت.
ويبدأ صاعداً مرتفعاً عن الجميع مراقباً لفكرة في نفسه أو معنى. حريصاً على كسرها لإعادة النظر في الذات، ومن خلال الشعور بالثقة في قدراتها وتفوقها، إعادة النظر في الحياة وتقيمها وتوصيفها في سرد يظهر الذات متفوقة وناجحة وقوية بأداة طالما قوي بها هزيلو البنية وضامرو العضلات، أعني الكتابة. وذلك كله في القطار الصاعد إلى بغداد (1953). فالراوي الذي يذهب إلى بغداد للدراسة يودع في محطة قطار البصرة أمه وصديقه (عودة) عريض الكف. ضخم ملامح الوجه. كثيف الشارب أصفره من التدخين. القلق على مصير صديقه الطالب اليافع؛ كيف سيواجه بضعفه وخجله مدينة كبغداد ويعيش فيها. والراوي يشرع منذ لحظة انطلاق القطار وصعوده إلى بغداد بالصعود إلى هيأته وقدرته الجديدة منطلقاً من رهان داخلي وتحدٍ لفكرة (عودة) عنه. إنه لا يراقب الوجوه المتعبة والباكية والنائمة والمتألمة والكئيبة في القطار ويحكي عنها كما يظهر. ولكنه يراقب (عودة) ويثبت له أنه أقوى مما يتصور. فهو يمتلك ما هو أهم من العضلات والمكر. إنه يمتلك الوعي، ويمتلك السرد. وهو يتماهى مع إحساسه الجديد. فيشعر أنه قوي البنية، وواثق الخطو، ومنتصر لا محالة على أية عقبة ستواجهه.
وإذا كان عبد الوهاب قد بدأ صاعداً ومراقِباً، فها هو ينتهي عابراً استثنائياً (1993) صامتاً ومراقَباً. تراقبه امرأة يمرّ بها، فلا ترى فيه أكثر من رجل يثير في النفس الخوف من النهاية. فهي تسأل زوجها حين ترى العابر الصامت: وهل نشيخ نحن أيضاً؟ فيقول لها الرجل دون أن يهتم بالمرمى البعيد للسؤال: ليس أمام الإنسان سوى الموت مبكراً أو الانتظار حتى يشيخ. ولكنها لم تكن تنتظر إجابة من هذا النوع. إنها فقط كانت تخشى الوحدة والعزلة والصمت الذي يحيط بهذا الكهل الذي مرّ بها فجعلها تفكر في مصيره وتخاف على نفسها منه.
أشك في أن عبد الوهاب كان يسعى إلى أن يكون استثنائياً، أو أنه كان يود أن يُمدح بانه استثنائي. فالاستثنائي إنسان مثير للشفقة ومحبِط لمن يراقبه. ومن خلال سيرته كان يريد أن يكون أليفاً ومألوفاً وقريباً من النفس. وكان حذراً من الاختلاف ومن الجنوح. فهو عقلاني مهندم ومرتب ونظيف وهادئ وظريف وقريب من النفس، ولم يكن يريد أن يطّلع الآخرون على ما ينطوي عليه، وهو المثقف والكاتب الكبير، من خيبة المسعى.
ولكنه سردياً كان مثل شيخ همنكواي يشعر بالأسى لعودته خائباً. لقد كان واهماً، وليس صاعداً، حين كان مراقِباً ومتيقظاً. وصار فيما بعد متألماً لأن الآخرين، ودون أن يريد بالتأكيد لهم ذلك فهو خلافاً لهمنكواي مشفِق عليهم من اكتشافه، قد يدركون عبث السعي الإنساني وبؤسه من خلال مراقبته.