صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

مخاطر ودواعي الديمقراطية في العالم الثالث

صدر لهاردي ميريمان وباتريك كويرك وآش جين كتاب “رعاية الموجة الديمقراطية الرابعة: دليل إرشادي لمواجهة مخاطر التسلط”. يتصدر المقدمة كلمة للسفير ميشيل ماكفل يعرب فيها عن الطبيعة القلقة والغامضة للثورات، ويؤكد أن الثورة لا تأتي من فراغ، وهي حتمية على الدوام، لكنها قد تكون حظوظها مستحيلة. وهذا التناقض يعود للظروف الدولية، فالثورات ليست حدثا محليا. وإذا عدنا بنظرنا للوراء، فقط بحوالي سبعة عشر عاما، سنلاحظ صعود ما يسمى بالتسلط مقابل انحدار وتفكك الديمقراطية وآليات عملها. ولقلب هذه الظروف يمكن التعويل على حركات المقاومة المدنية – ذات الطابع الشعبي (المنظم وليس التيار الذي يتدفق بالشارع بأسلوب غوغائي ينقصه الاتجاه والثقافة). ويمكن لمثل هذه الحركات أن تتبع تكتيك الإضراب والمقاطعة والاحتجاج، بالإضافة لتكتيك أثبت نجاعته تاريخيا وهو عدم التعاون (مثل الصمت وعدم الانصياع والاتكال على أدوات غير مباشرة). ويقسم فريق البحث هذه الإجراءات السلمية إلى ثلاث أقسام. 

أفعال المشاركة (بتشجيع العصيان واتباع أساليب ممنوعة وغير متوقعة كالتظاهرات والاعتصام بالمباني وإقامة الحواجز). وأفعال الإلغاء (وتسمى أحيانا الامتناع عن التعاون) بهدف تعويق كل ما يساعد على تعويم سياسة النظام مثل سحب الإيداعات وحجبها عن المصارف الحكومية وعدم دفع الضرائب، وأخيرا تأسيس مؤسسات بديلة عن الحكومة (مثل حكومة في المنفى وغير ذلك). وبالنتيجة يمكن إقامة شبكة علاقات جديدة وبناء نسيج اجتماعي بديل وإعادة رسم الحدود بين أطراف المجتمع وتعلم مهارات جديدة، مع اكتشاف مصادر مختلفة للحياة. ولذلك يجدر بنا التفريق بين الاحتجاج الذي يأخذ شكل فورة مؤقتة تقاطع الحياة الطبيعية في الشارع لعدة ساعات، والمقاومة المدنية التي تديرها هيئة منظمة تعمل لفترات أطول. 

أول موجة ديمقراطية ظهرت عام 1828 واستمرت حتى 1926 (والكلام لصموئيل هنتنغتون)، وشهدت دعم الحكومات الديمقراطية وانتهت بنهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطوريات.

الموجة الثانية بدأت عام 1945 بعد كسب قوات التحالف للحرب العالمية الثانية، وانتهت عام 1962 بنكسة شهدتها بعض الأنظمة الديمقراطية وعودتها للحكم البوليسي.

الموجة الثالثة محصورة بين 1974 و2006. وبدأت بانتصارثورة البرتغال والتحول الديمقراطي في جنوب أوروبا وأمريكا اللاتينية وأجزاء من إفريقيا ومنطقة المحيط الهادئ، وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991. ولكن قاطعت هذه الموجة نكسات محدودة في النيبال وأوكرانيا وجورجيا وصربيا وذلك خلال التسعينات. 

وإذا حالف الحظ الموجات السابقة يقف بوجه الموجة الرابعة عاملان. الأول هو تآزر الأنظمة المتسلطة – بتلاقي المصالح وليس بالتنسيق، والثاني هو التأقلم مع الفساد والتخلف. ونجم عن ذلك نقاط ضعف بنيوية منها الفكر الشعبوي، والتقاطب (تشتت الجهود بين المذاهب والأعراق والطوائف)، وخنق تكنولوجيا الاتصالات (بالرقابة الصارمة والتخويف)، والتراكم (بمعنى تسلل حب السيطرة والتسلط بين أفراد المجتمع العاديين)، والديماغوجية. وإنكار القيادات الواعية لهذه المخاطر سمح لها بالتفشي وعلى نطاق وبائي. ولذلك المطلوب من هذه القيادات، ومن يقف معها، التحلي بروح المبادرة، ونشر الثقافة المسؤولة، واتباع استراتيجية علنية، والانضباط والعمل الجماعي المشترك، والتجديد. وهذا يفرض علينا أن نكون عمليين على عدة جبهات بآن واحد حتى تهيئة البيئة الصالحة لاحتضان الوعي والعمل الديمقراطي (المعرفة والممارسة)، على أن يتلازم ذلك مع الموازنة بين المخاطر واحتمالات النجاح. ويفضل أن تكون البداية من المطالبة بالحقوق المدنية لأفراد المجتمع قبل المناداة بتبديل سياسي جوهري. 

ولكن أشد ما يقلق في كلام ميريمان وفريق بحثه هو الدعوة العلنية للاتكال على دعم الغرب والولايات المتحدة لهذه الحركات. وبمثل هذه الرؤية تفقد أي حركة استقلاليتها وترتبط بدولاب سياسة الدول الحاضنة، إن لم يساعد ذلك، على نشر البلبلة والفوضى كما حصل في البلقان وكما يجري حاليا في العراق وسوريا. وصورة الأوضاع في شرق المتوسط في الوقت الراهن بكل أسف، لا تختلف عن النزاع الدولي الذي عصف بالمنطقة بين الحربين العالميتين حتى لو اختلفت الأسماء. وأعتقد أن قوات التحالف الدولي التي تلعب بمصير الأنظمة العربية منذ حرب الخليج الثالثة قد حلت محل قوات الحلفاء التي اقتسمت المنطقة لأكثر من عقدين، ولم تغادرها إلا بعد تقييدها بشروط لجمت الوعي الديمقراطي، ومهدت الطريق للانقلابات وحل الخلافات باللجوء للجيش. واتخذ تبديل النظام في عدة حالات شكل عصاب جماعي ودموي يشبه الانتقام من الأب وقتله ثم التهامه (وهذا الكلام للدكتور حسين سرمك، وقد ورد في كتابه الهام “البطل البريء”، وهو عن الاضطرابات التي اكتسحت العراق بعد ثورة تموز). وإذا كان ميريمان وفريق بحثه يسمح للثورات بتلقي الدعم المباشر من الخارج باسم “الحق بتلقي المعونة” فهو يعطي الحق للسلطات بطلب الدعم المماثل من جهة خارجية. 

ولكن يمكن دائما التعويل على الضغط المتجه من أسفل نحو الأعلى (وتحشيد البنية التحتية إن استعملنا مفردات يمقتها ميريمان وفريق بحثه) حتى يتم دفع حدود الفضاء السياسي بعيدا عن المركز. ويسمي ميريمان وفريقه هذا الإجراء باسم “إلغاء وتآكل الأنظمة الأوتوقراطية”. 

ويضع فريق البحث 3 شروط لتلقي الدعم من الخارج.

الأول أن يكون امتدادا لحركات الاحتجاج ولا أن يحل محلها. 

الثاني أن يكون مرنا بطرق تأييده للعمل الثوري، وأن لا يتبع سياسة صارمة غير قابلة للتعديل، وأن يكون مستعدا لتغيير الهدف النهائي في حال ثبوت عدم جدواه واستفحال خطره.

ثالثا وأخيرا أن يوجد تنسيق بين الجهات الخارجية الداعمة حفاظا على توحيد المحاور في الداخل.

ولا ضرورة للتأكيد أن مثل هذه الشروط غير عملية (وإذا تحققت في ظرف استثنائي مثل حرب الخليج الثانية يستحيل تكرارها بعد عودة الحرب الباردة بين المعسكرين – روسيا من طرف والغرب كله من طرف آخر). 

ولا بد هنا من التمييز بين ما يفيد هذه الثورات وما يلحق بها الضرر. فالإشراف الدولي على الانتخابات (بالمراقبة) وأحيانا نشر قوات دولية في مناطق محددة يبدو مقبولا لكل الفرقاء. ويمكن التذكير هنا بالدوريات الروسية والتركية المشتركة للفصل بين حدود التماس في شمال سوريا. ولكن أي عمل عسكري سرعان ما يحول الثورات لنظام سياسي يحل محل نظام سابق، وهذا يكفي لوأد الشعارات الديمقراطية، والتهاب النزاع بين الفرقاء. ويعترف ميريمان وفريقه بهذه المشكلة حينما يتناولون الدعم الخارجي في المرحلة الخامسة لأي ثورة (يسميها مرحلة ما بعد الانتقال أو التحويل). ويعتقدون أن وحدة المجتمع الجديد ستكون مفتوحة على واحد من عدة احتمالات كلها تصب بالنتيجة في تجزئة الجهود، وتقسيمها، وتجميد التعبئة demobilization 

وبذلك تتهيأ الظروف للتآمر على مستقبل الثورة، وعودة عدوها السابق (كما جرى في سلسلة الانقلابات في سوريا بعد إقصاء حكومة الرئيس القوتلي، وكما جرى أيضا في العراق بعد إعدام الوصي على العرش). وقد فتح باتريك سيل هذه الملفات، وأشار بما لا يدعو للشك، إلى التناحر العلني بين الإنكليز والفرنسيين لدفن أحلام وأطماع الأتراك بالمنطقة، بالإضافة لأمريكا التي اكتفت بدور المتفرج، مع تسريع وتيرة اهتمامها بثروات الخليج العربي. وعلى ما يبدو (كما نفهم من باتريك سيل – وفي مرحلة لاحقة من السياسي اللبناني كريم بقردوني) أن نظام الانتداب السابق اختار أسلوب التنمر، بينما ركزت القوة الأمريكية الصاعدة على أسلوب الانتشار والتوسع الناعم (بتأسيس الجمعيات والنوادي الثقافية واستمالة العسكر). ولا أستطيع أن أجد في كل هذه الأنشطة أي مجال للديمقراطية، بل بالعكس ضمنت خنقها. وبعد أكثر من مائة عام من هذا الدعم (علنا أو من وراء ستار) لا يزال الشرق الأوسط أكبر عدو للتحويل الديمقراطي. 

ويشجع مريمان وفريقه الدول القوية على اتباع سياسة حظر تستهدف المؤسسات والأفراد المعادين للديمقراطية. وقد أثبتت هذه السياسة سوء نواياها، فهي مفصلة فقط لتغيير جزئي في الأنظمة، بمعنى إجبارها على عقد صفقات تخدم أحد الأطراف الأساسية المتورطة بالنزاع الدولي على النفوذ. وهو اتجاه واضح في الملف النووي الإيراني. ولكن كلما اشتد الحظر كلما زادت درجة الإفقار وتوسعت موجات الهجرة. وحتى أن الحل الأخير تنقصه العفوية ويبدو انتقائيا لخدمة سياسة غامضة لا تستطيع أن تعرف من يمولها ويرعاها. وإذا أخذنا مثال الحرب في أوكرانيا لا أرى أن سياسة الدعم اللوجستي لكييف تساعد على إنهاء الحرب، وهي حتى الآن تطيل من أمدها. وإذا استنزفت روسيا فهي تدمر البنية التحتية لعموم أوكرانيا وتؤجل عودة المجتمع المدني ونشاطاته. أما خسارة كييف، وإجبارها على وقف العمل العسكري، يؤهلها للعودة لوضعها السابق كما حصل بعد هزيمة اليابان في حرب 1915 وكما حصل مع الألمان في حرب 1945. بمعنى أنه يساعدها على بناء سياسة مدنية تمهيدا لاستعادة ما فقدته من ذاكرتها. وبكل تأكيد الحروب تؤجل الثورات أو تلغيها وتحجمها. وهي حيلة من بعض الأنظمة لإعادة تجميع الصفوف وملء الفراغ (كما هو حال حكومة رابين في السبعينات وحكومة نتنياهو في الوقت الراهن). ولكن بعد إحلال السلام، ولو أنه حرج وغير دائم ولا مستقر، يمكن لأي مجتمع أن يمر بست مراحل لتفعيل المستقبل الديمقراطي.

أول مرحلة. العصيان المدني الذي يخنق اقتصاد النظام ويرفع من تكاليف دوامه.

الثانية. تحريض النظام على فرض المزيد من الإجراءات القهرية مع بعض التنازلات، وهو ما يقدم بعض المكاسب التي يمكن أن يعول عليها المحتجون لكسب المزيد من الأتباع.

الثالثة. تعويم الصدوع والشقوق الموجودة مسبقا، ولكن التي يجري التكتم عليها. وذلك يسرع من هجرة رؤوس الأموال ويحرم النظام من قدراته. 

الرابعة. انسحاب شريحة من المؤيدين للنظام وعلى وجه الخصوص شريحة المتسلقين الذين يرعون مصالحهم فقط دون أي تماسك عضوي مع المؤسسة.

الخامسة. تآكل السلطة من الداخل وانسحاب جزء من قاعدتها وبالأخص من لا يفضل التضحية ويختار السلامة. 

السادسة والأخيرة. وبعد سقوط الحكومات الأوتوقراطية تبقى تحديات لا بد من معالجتها مثل البيروقراطية والمدسوسين على الثورة والفساد وبقايا النظام المنهار.

وتبين الإحصاءات أن الاحتجاجات السلمية أثبتت فعاليتها بالمقارنة مع العمل العسكري والدموي. فقد حالف النجاح الاحتجاجات السلمية التي اندلعت بين 1900 و2006 بنسبة 58% مقابل فشل 35% منها فقط. بينما نجحت الاحتجاجات الدموية بنسبة 7% فقط مع فشل 5% منها أيضا. 

ولكن في حال انحراف وتراجع الديمقراطية في أي نظام لا يمكن الاتكال على نشاط المؤسسات. وأثبتت التجارب أن الأمل يبقى معقودا في نشاط المجتمع المدني لأن عمره أطول ويكون جزئيا أبعد عن يد السلطة، كما حصل في الانتقال غير الديمقراطي في شمال مقدونيا عام 2014 – 2016، وسلوفاكيا 2017، وجنوب كوريا 2017، وسيريلانكا 2022، والإكوادور بين 215 – 2017، وأرمينيا عام 2018. 

ولدعم رابع موجة ديمقراطية يقترح فريق البحث استهداف أعمدة النظام الأتوقراطي وهي الأمن والقضاء والجهاز البيروقراطي، ثم المصارف الحكومية ونقابات العمال، وبعد ذلك يأتي دور إضعاف الإعلام وكسب ما أمكن من رموزه، ثم المعاهد الدينية والثقافية، وأخيرا الكتل غير الحكومية كالميليشيات. وربما أذكّر هنا باختيار البابا يوحنا بولص للجلوس على عرش الفاتيكان، خلال انتفاضة نقابة التضامن في الثمانينات في بولونيا. ولا أعتقد أن منح جائزة نوبل لشولوخوف وباسترناك من الاتحاد السوفياتي، ولمو يان من الصين الشعبية، ومؤخرا لهان كانغ من جنوب كوريا ، أمر بعيد عن سياسة الردع الغربي للثقافة الشرقية. وإذا لم تخدم الجائزة لا قراء هؤلاء الكتاب ولا شعوب تلك المنطقة فهي تؤشر على أولوية الثقافة والدين في الغرب وتجنيدها في معركته مع العقل الشرقي وحضارته الجريحة. وبكل تأكيد اقتصاد السوق ظاهرة إيديولوجية ولها آلة للتفكير، وإن كانت مغلفة بشعارات تبدو أنها لا مبالية وعبثية. كما أنها تروج للمبادرة الفردية وللقدرات الاستثنائية الخارقة، وتبث الذعر والخوف من العمل الجماعي. وتدخل في هذا السياق سياسة إسرائيل في الضرب على الرأس – أو اغتيال القيادات، مع أنهم مجرد أسماء وصور لما يقول عنه هيغل الروح التاريخية وصعود الجوهر. 

وما يذكر لمريمان وفريقه التشديد على حجب الدعم عن أي إجراء غير سلمي، وتأييد كل حركة سلمية تعبئ المجتمع المدني، وتعتبر أنه الضمانة الوحيدة لإجراء التغيير السياسي المنتظر.

*صدر الكتاب عن هيئة الأطلنطي – أتلانتيك كاونسيل للشؤون الإستراتيجية والأمنية، بالتعاون مع المركز الدولي لدراسة النزاعات غير الدموية. واشنطن 2023. (94 ص). 

إقرأ أيضا