في 27 تشرين الأوّل أكتوبر الماضي، في حوالي الساعة التاسعة والنصف صباحًا، عرف ياسر فلاح من زوجته أنّها حامل. بعد ساعتين، أُصيب بعبوة غاز مسيل للدموع في ساقه، ونقله سائق عربة توك-توك سريعًا إلى مستشفى قريب، ثم أُحيل لاحقًا إلى مستشفى آخر، حيث خضع لعمليتين جراحيتين قبل نقله إلى مركز بغداد للتأهيل الطبي لبدء برنامج التأهيل الصحي.
وأنشأت منظّمة أطباء بلا حدود في العام 2017 مركز بغداد للتأهيل الطبي في العاصمة بغداد من أجل توفير التأهيل الطبي والجسدي المبكر للرجال والنساء والأطفال المصابين جراء معارك تحرير الموصل والمناطق المحتلة من قبل تنظيم “داعش”، ولكن بعد انتهاء المعارك، بات يستقبل ضحايا الإصابات غير الناتجة عن أعمال العنف المختلفة، كالناجين من حوادث السير وإصابات العمل وغيرها، بمن فيهم جرحى الاحتجاجات التي انطلقت في الأوّل من تشرين الأوّل أكتوبر الماضي.
وينقل موقع أطباء بلا حدود عن ياسر، قوله “لقد تخرّجت من معهد الفنون الجميلة، ولكن بعد أن تعرّضت للإصابة، فقدت الرغبة في الرسم. أفكّر دائمًا بعائلتي وعملي، فأنا معيلهم الوحيد، ولكنّ إصابتي منعتني من العمل في الأسابيع الثلاثة الأخيرة.”
وُضِع مثبّت خارجي في ساق ياسر اليسرى، وهو يستخدم عكازين للتنقل وزيارة المرضى الآخرين في المركز. ويتسكّع لبضع ساعات على سطح المبنى لتدخين السجائر مع سائر المرضى والإستمتاع بالطقس المشمس. وعلى هذا السطح، تنمو الصداقة بينهم، فيتشاركون آمالهم ومخاوفهم، ويعربون عن مشاعرهم، ويحلمون بالشفاء العاجل حتى يعودوا إلى حياتهم الطبيعية.
ويتردّد صدى المخاوف التي تساور ياسر عند المرضى الآخرين الذين أصيبوا خلال التظاهرات. لقد بدت إصاباتهم مألوفة للطاقم الطبي العراقي المتمرّس الذي يعمل مع أطباء بلا حدود، إلّا أنّ العديد منها كان يضاهي جراح حرب 2017 حدّةً.
أما سيف سلمان فقد أصيب بعبوة غاز مسيل للدموع من مسافة قريبة، فكانت آثار الإصابة مدمّرة. ويروي سيف قصته قائلًا، “كنت واقفًا على جسر الجمهورية عندما أُصبت بعبوة غاز مسيّل للدموع في ساقي. انغرست العبوة في ساقي ولم تنفكّ تبثّ الغاز. فتحت عينيّ ووجدت سائقي عربات التوك-توك وأشخاصًا آخرين يحومون حولي. ثم نقلوني إلى المستشفى”.
بعد عدّة ساعات من العمل، أُطفِئَت عبوة الغاز المسيل للدموع وتم استخراجها من ساقه. ثمّ خضع سيف لعدّة عمليات جراحية في مرافق صحية مختلفة في بغداد، وأتى أخيرًا القرار ببتر ساقه، إذ لم يكن أمام الأطباء أي حلّ بديل.
ويردف ابن الرابعة والعشرين مبتسمًا، “صحيح أنّهم بتروا ساقي، ولكنني لا زلت أحتفظ بيدين وساق، أي ثلاثة أطراف أخرى يمكنني الاستفادة منها. لم أخسر شيئًا. في الواقع، أشعر أنّ وزني أخفّ الآن”.
من المؤكّد أن حسّه الفكاهي سيساعده والمرضى الآخرين على التعافي بشكل أسرع، ولكنّ ذلك ليس سوى غطاء لآلامه ومخاوفه. تنهال الدموع من عيني سيف عندما يتذكر زميله في الصف وصديقه الذي قُتل خلال التظاهرات. “لا أتحمّل النظر إلى صورته، إذ ينتابني شعور بالحزن عندما أتذكره. لم يستحقّ الموت، وأتمنّى لو فارقتُ الحياة بدلًا منه.”
التأهيل المبكر إعادة دمج اجتماعي أفضل
يضمّ مركز بغداد للتأهيل الطبي فريقًا متعدّد الإختصاصات، من أطبّاء متخصصين وممرضات ومعالجين فيزيائيين ومتخصصين في علم النفس وطاقم دعم غير طبّي. ويعمل هؤلاء على معالجة 30 مريضا في قسم المرضى المقيمين، كما يقدّمون الاستشارات في العيادة الخارجية للمرضى المستعدين للعودة إلى المنزل.
في الواقع، يبدأ العمل حين يزول مفعول البنج لدى المرضى. وتتم إحالة المريض إلى مركز بغداد للتأهيل الطبي من قِبل شبكة من الأطباء في مستشفيات بغداد، أو من قِبل فريق أطباء بلا حدود الذي يتجوّل بين المستشفيات في المدينة بحثًا عن مرضى يحتاجون إلى التأهيل الطبي والرعاية بعد العمليات الجراحية.
وفي هذا الإطار، يقول مدير الأنشطة الطبية في مركز بغداد للتأهيل الطبي، الدكتور أوس خلف: “يساهم التأهيل الطبي المبكر بشكل كبير في الحدّ من التداعيات الطبية القصيرة الأمد والنتائج الجسدية والنفسية المترتبة عن الإصابات”.
ويرى الدكتور أوس أنّ عدم تلقى الرعاية اللازمة بعد العمليات الجراحية قد يؤدي إلى حصول تخثر دموي والتهاب. ويساهم الطاقم الطبي في المركز في “إعادة دمج المرضى في مجتمعاتهم كأفراد نشطين، لا يشكّلون عبئًا على الآخرين”، وذلك عن طريق الحد من آثار الإصابات وتسريع عملية الشفاء.
ومثلما يركّز الطاقم الطبي في المركز على التأهيل الجسدي، يولي أهمية كبيرة أيضًا للدعم النفسي باعتباره من المقومات الأساسية لنجاح عملية التأهيل. في جلسات الصحة النفسية المتعددة، يسعى المتخصصون في علم النفس والمرشدون إلى معالجة حالات الإكتئاب والقلق لدى المرضى والتعامل مع ذكرياتهم الأليمة ومساعدتهم على التأقلم مع واقعهم الجديد.
وحتّى يوم أمس، عاد 75 في المئة من مرضى أطباء بلا حدود في مركز بغداد للتأهيل الطبي إلى منازلهم بعد تحسّن حالتهم الصحية والنفسية.
تأثير العنف الطويل الأمد على المجتمع
كان سائق عربة التوك-توك كاظم ضيغم وشقيقه معيلَي العائلة، شأنهما شأن الكثير من ضحايا الأحداث العنيفة الأخيرة في العراق. يبلغ كاظم من العمر اليوم 16 عاماًـ وقد بدأ هو وأخوه العمل في سنّ مبكرة مثل سائر أترابهم، بسبب الظروف الإقتصادية القاسية نفسها التي دفعتهم إلى الإحتجاج.
بعد ظهر يوم الأحد 27 تشرين الأوّل أكتوبر الماضي، بعدما ركن كاظم عربة التوك-توك الخاصة به بالقرب من جسر الجمهورية وحاول عبور الشارع، اصطدمت عبوة الغاز المسيل للدموع بساقه.
ويستذكر كاظم الحادثة قائلًا، “كانت العبوة قوية جدًا، لدرجة أنّها أصابت الشخص الواقف أمامي، ثم أصابت ساقي وأصابت الشاب الواقف خلفي. حاولت النهوض وبدأت بالزحف، ثمّ حملني أحد الشبان إلى عربة توك-توك. ونقلني السائق إلى مستشفى جراحة الجملة العصبية التعليمي، ثم تمت إحالتي إلى مستشفى الكندي.”
وبعد الخضوع لعملية جراحية طارئة ووضع مثبّت خارجي لدعم العظام المكسورة، أحال الطبيب الجرّاح كاظم إلى مركز بغداد للتأهيل الطبي. وقال كاظم إنّ الطاقم الطبي هناك “أعاد الحياة” إلى ساقه بفضل المعالجة الفيزيائية العاجلة.
على الرغم من تحسن حالته، بدأ كاظم يشعر بأنه “محروم من كل شيء”، كما أنّه شعر بالمرارة لعدم قدرته على رؤية أصدقائه كثيرًا أو مغادرة المنزل. وهو يتوق إلى حياة طبيعية، إلى تناول العشاء مع أصدقائه في الهواء الطلق وإلى ركوب عربة التوك-توك والتجول في المدينة. ينحدر كاظم من حي فقير في الجزء الشرقي من العاصمة العراقية، وهو يشعر بلهفة شديدة للعودة إلى العمل ومساعدة أخيه الأكبر في إعالة أسرته.
ويختم كاظم قائلًا، “نحن مسؤولان عن إعالة عائلتنا. ونحن نسند بعضنا البعض، فإذا سقط أحدنا، يسقط الآخر.”