مصر البنادق واللحى.. هوية ضائعة لم تحسمها سنوات الصراع

تزدحم الذكريات على مصر مع نهاية كل عام وبداية آخر، ففي مثل هذه الأسابيع فرضت الحماية البريطانية على مصر وانسحبت قوات الحلف الثلاثي من قناة السويس، كما وقعت البلاد اتفاقية تمويل السد العالي مع الاتحاد السوفيتي، لكن تلك الذكريات تحل وسط صراع حول هوية مصر ودورها بالمنطقة بين الإسلاميين والليبراليين والجيش، وتحالفات القاهرة المتقلبة بين الشرق والغرب وتغييرها لوجهتها بشكل دوري.

ففي ديسمبر من عام 1914 فرضت بريطانيا الحماية على مصر، لتتحول البلاد من دولة تتبع السلطنة العثمانية المنضوية في تحالف مع ألمانيا إلى تابعة لبريطانيا والحلفاء، وسط غضب شعبي بسبب فصل البلاد عن الخلافة، وفي ديسمبر عام 1956 انسحبت قوات فرنسا وبريطانيا وإسرائيل من مصر بعد ما عرف بـ\”العدوان الثلاثي\” لتترسخ زعامة مصر العربية والأفريقية بعد تأتيم قناة السويس.

وفي ديسمبر 1958 وقعت مصر اتفاقية بناء السد العالي مع الاتحاد السوفيتي السابق، ليبدأ تحالف استراتيجي استمر لسنوات بين القاهرة وموسكو قبل أن يتولى الرئيس الراحل، أنور السادات السلطة ليفتح خطوط اتصال مع الولايات المتحدة ناقلا القاهرة بعد اتفاق السلام في كامب ديفيد من محور إلى آخر.

وتبدو قضية الهوية في مصر وكأنها مدار جدل دائم، إذ نقلت وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية الرسمية عن رئيس لجنة الخمسين، عمر موسى، بعد تقديمه مسودة الدستور إلى الرئيس المؤقت عدلي منصور، قوله لقناة السومرية العراقية إن \”أهم نص في الدستور المصري الجديد هو إعادة التأكيد على انتماء مصر للأمة العربية.\”

ورغم \”بداهة\” المادة التي يشير إليها موسى إلا أن قضية الهوية منذ عقود مدار صراع في مصر حول تعريفها وطبيعتها، وتنخرط في هذا الصراع بأشكال مختلفة القوى الدينية والعلمانية، وكذلك القوات المسلحة وأبناء الأقليات.

ففي مطلع القرن العشرين، ومع الانفصال عن الدولة العثمانية، كان التركيز من قبل السلطات على الخصوصية المصرية بموازاة نظرية الأمة الأوسع، قبل أن يكون للعائلة المالكة المصرية لفترة من الزمن مشروعها الخاص لإقامة خلافة ترث الدولة العثمانية.

وفي منتصف العقد الرابع من القرن الماضي، قادت مصر مشروع توحيد الدول العربية في إطار جامعة الدول العربية، مستفيدة من مكانتها وقدراتها لتتزعم الهيئة الدولية الجديدة، وتوالى المصريون على رئاسة الجامعة منذ تأسيسها، باستثناء الفترة ما بين 1979 و1990 عندما تولاها التونسي الشاذلي القليبي، بعد توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل وتعليق عضوية القاهرة في الجامعة.

وتسبب تعليق عضوية مصر آنذاك برد قاس من السادات الذي اعتبر أن المصريين هم \”أصل العرب\”، ودعاهم إلى أن ينتموا هم إلى مصر لا أن تنتمي مصر لهم، ورفض في الخطاب نفسه طروحات البعض حول انتماء مصر \”الفرعوني\” البعيد عن العرب.

وقد عادت العلاقات بين مصر والعرب إلى مجاريها بعد ذلك، لكن سياسات السادات لعبت دورا حاسما في تبدل آخر على صعيد الهوية السياسية لمصر، إذ باتت واحدة من أبرز حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، بعد سنوات طويلة أمضتها على علاقة تحالف وطيدة مع الاتحاد السوفيتي، وبفضل اتفاقية السلام حصلت مصر على مساعدات مالية وعسكرية واقتصادية من الولايات المتحدة، كما طردت الخبراء السوفييت من أراضيها.

وفي سياق متصل بالصراع على الهوية الخارجية لمصر برز صراع آخر داخل البلاد بين القوى الإسلامية والعسكريين، إذ سعت المؤسسة العسكرية إلى الحفاظ على هوية \”وطنية\” في مصر، مستخدمة الايديولوجيا الاشتراكية في فترات حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، والانفتاح الليبرالي في فترة حكم السادات، وذلك بمواجهة الدعاة إلى هوية \”إسلامية\” تعتمد على الأيديولوجيا الدينية.

وكانت جماعة \”الإخوان المسلمين\” ومعها \”الجماعة الإسلامية\” على رأس القوى المنادية بالهوية \”الإسلامية\” بمواجهة ما تعتبره \”علمانية\” اشتراكية أو ليبرالية، وذلك رغم انتماء غالبية المصريين إلى الإسلام، لتكتسب \”الهوية الإسلامية\” بذلك بعدا سياسيا يرتبط بـ\”تحكيم الشرع\” في أمور الدولة.

وبرز الحديث مجددا عن هوية الدولة بعد تنحي الرئيس حسني مبارك وصعود التيار الإسلامي وتولي الرئيس محمد مرسي الحكم، فنددت القوى الليبرالية والعلمانية بمواد في الدستور وصفت بـ\”مواد الهوية\” وبتحديد الشريعة مصدرا للتشريع، وانضمت إليهم القوى القبطية التي اعتبرت أن الدولة دخلت في مرحلة \”أسلمة\” تمثل تهديدا لها.

ومثلت قضية \”الهوية\” واحدة من أهم نقاط الخلاف طوال السنة التي تولت فيها جماعة الإخوان المسلمين السلطة، وزاد من عمق الأزمة والانقسام حولها حالة التخبط التي عاشتها السياسة الداخلية والخارجية لمصر والتجاذب الحاد حول المواقف التي يجب على لقاهرة أن تتخذها من دول الجوار ومن القضايا الإقليمية بحكم وزنها الدولي، بالترافق مع فتور في العلاقات بينها وبين معظم الدول الخليجية المتوجسة من حكم \”الإخوان.\”

ومع عزل الرئيس محمد مرسي عادت قضية الهوية من جديد لتطرح في مصر من خلال النقاش على الدستور وتعديلاته، فبرزت مرة أخرى الخلافات حول \”مدنية\” الدولة و\”دينها الرسمي\” وكذلك حول اعتبار الشريعة مصدرا للتشريع، وهوية الجهة التي تتولى تفسير المقصود بالشريعة، ووقف الأزهر إلى جانب الكنيسة في القضية بمواجهة التيار السلفي المتمثل في حزب النور، والذي خسر المواجهة في نهاية المطاف.

ولكن الخسارة الأكبر بالنسبة للحياة السياسية المصرية، كما يراها البعض، تتمثل في عودة النقاش الداخلي إلى المربع الأول الذي كان عنده منذ أكثر من ستة عقود بين جيش \”وطني\” يرى نفسه المدافع الأكبر عن \”الدولة وقيمها\” بمواجهة تيار ديني \”إسلامي\” يحمّل ما يصفها بـ\”الدولة العميقة\” مسؤولية إفشال حكمه القصير.

أما على الصعيد الخارجي، فقد شكلت فترة ما بعد مرسي فرصة لمصر من أجل استعادة الروابط مع موسكو، التي برزت كصديق محتمل بعد \”الجفاء\” في العلاقات مع الولايات المتحدة، كما عادت الحرارة إلى خط العلاقات بين القاهرة والعواصم الخليجية، وخاصة الرياض وأبوظبي، مقابل برودة واضحة مع الدوحة.

ومع توجه المصريين نحو استحقاقات انتخابية ودستورية عديدة خلال الفترة المقبلة يرى البعض أن الاصطفاف السياسي الراهن بحاجة إلى الخروج من ثنائية \”الوطني\” و\”الإسلامي\” بمعناها السلبي، أي الذي يفترض أن الآخر \”خائن ومتخلف\” أو \”كافر مرتد\”، وكذلك الخروج من الرهانات على البحث عن حليف دولي قوي إلى البحث عن سياسة خارجية سلمية يمكن أن تحفظ لمصر مكانتها ومواقفها دون الحاجة للارتباط بمحاور.

** كاتب عربي مقيم في دبي.
** المصدر: شبكة CNN

إقرأ أيضا