مصر فيلم أجنبي

عندما أفكر في حال المسئولين خلف الأبواب المغلقة، كان يحلو لي أن أتخيلهم يعصرون رؤوسهم قلقاً وتفكيراً بشأن ردود أفعال الناس علي قراراتهم، أما الآن فلا يسعني إلا أن أتخيلهم مستريحين خلف مكاتبهم، وهم يصدرون الأوامر بزيادة القمع، بلا أي حساب للشعب.

بينما كنت أشاهد الجزء الثاني من فيلم \”Hunger Games\” فوجئت بأوجه التشابه الملحوظ بين نظام خيالي، يتم تقديمه كنظام قمعي بدرجة شبه فكاهية، ونظام بلد تدخل ثورتها التي تم الاحتفاء بها في العالم كرمز لانتصار الشعب، عامها الثالث.

في طريقي إلي السينما، مررت بمظاهرة صغيرة في حي الدقي لا يتعدى عدد المشاركين فيها ثلاثين متظاهر. وقف المتظاهرون على جانب الطريق يهتفون ضد الحكومة الحالية و المؤسسة العسكرية التي تدعمها، و رفعوا أياديهم بالأصابع الأربعة، التي ترمز إلى مساندتهم للرئيس المعزول محمد مرسي.

كانت السيارات تمر بسهولة عبر المظاهرة و لم تكن هناك أية بوادر للعنف.

بعد مروري بجانب المظاهرة، رأيت فرقة من القوة الأمنية يبدو عليها أنها تابعة للعمليات الخاصة تتجه نحو المتظاهرين، و تبدو مستعدة للهجوم. كان رجال الأمن يرتدون السترة الواقية من الرصاص و يحملون أسلحتهم، متجهين بخطوات متوعدة و سيئة التنظيم باتجاه المظاهرة الصغيرة.

لم أكن موجودة لأشهد ما فعلته قوات الشرطة بالمتظاهرين. لا أعرف إذا كانت قوات الشرطة قد اقتحمت الجمع الصغير و وألقت القبض على كل من فيه، قبل أن يتمكنوا من الهرب أم لا، ولكنني أعرف أنه إذا كان هذا هو ما حدث، لكان عملًا قانونيًا، و هذه الحقيقة مهينة.

إذا كان قد تم حبس كل فرد من هؤلاء المتظاهرين لمجرد رفعه أربعة أصابع، هذا الرمز الذي يتم تصويره باعتباره خطرًا يهدد على الدولة، لما اضطرت وزارة الداخلية لتقديم أي تفسير.

ينص قانون التجمع السلمي الجديد الذي تم التصديق عليه في نوفمبر على أن التظاهر السلمي أو حتي مجرد \”مناقشة أو تبادل الآراء حول موضوع ذي طابع عام\” في مجموعة مكونة من أكثر من عشرة أشخاص بدون إخطار وزارة الداخلية يعتبر عملاً إجرامياً. ويلزم القانون المتظاهرين بالحصول على موافقة الأجهزة الأمنية قبل التجمع.

لم يعد المتحدث باسم وزارة الداخلية مضطرًا للظهور على جميع القنوات الفضائية ليبرر الهجوم على المتظاهرين. لم يعد مضطرًا للادعاء بأن المتظاهرين كانوا مسلحين، اعتدوا على مباني، أو هم من ألقوا أول حجر. الآن، أصبح بمقدور الأجهزة الأمنية أن تعلن أنها هجمت و قبضت على متظاهريين سلميين بسبب تظاهرهم بدون تصريح، وسيكون هذا حق مكفول لها بقوة القانون.

ويعكس هذا القانون إدراك الدولة الآن أن بمقدورها فعل ما يحلو لها بدون عواقب، حتى لو ارتكبت القتل.

كيف عدنا إلى تلك النقطة بهذه السرعة بعد ثورة كان الدافع الأساسي لها هو بطش الشرطة؟ كيف يعقل أن نعود بهذه السرعة إلى هذه الدرجة من تقييد حرية التعبير؟

بينما تتحدث الأغلبية عن مخاوف بشأن \”هيبة الدولة\” و \”قداسة القوات المسلحة،\” لا يدرك البعض أنهم يتخلون عن هيبتهم الشخصية، هيبة الشعب التي ضحى منه المئات بحياتهم لاسترجاعها منذ ٢٠١١.

في أحداث الفيلم، يحاول النظام القضاء على بدايات ثورة ناشئة. بينما ـشاهد على الشاشة أفراد القوات الأمنية التي تخبيء وجهها خلف زي أبيض يغطيها من الرأس للقدم و هي تنتزع رجل مسن من وسط الجموع بسبب رفعه لعلامة الثورة – ثلاثة اصابع – أثناء حدث عام، و تقتله علي الفور، ذكرني هذا المشهد بمنظر القوة الأمنية و هي تتجه نحو المتظاهرين في الدقي.

بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع المتظاهرين المؤيدين لمرسي، تبقى حقيقة واحدة: بعد ثورة الشعب في ٢٠١١، من غير المقبول أن نخسر الحق الثمين الذي انتزعناه في التجمع و التظاهر.

يسبب قانون التجمع السلمي الجديد لي شخصياً احساس بالاختناق و الإهانة. كيف انتقلنا من لحظة الانتصار و الفخر الثوري التي عايشناها منذ ثلاثة سنوات إلي فقدان الحق في مناقشة السياسة في الشارع في مجموعة من إحدى عشر شخصًا؟

من الممكن اعتبار أنه لم يحدث أي تحسن يذكر منذ ٢٥ يناير في مجال القضاء على فساد الدولة أو استرجاع حقوق الشعب، و لكن هناك انجاز قد تم تحقيقه. في ٢٠١١، أدركت الدولة أن قوتها لها حدود، بل شعرت بالخوف.

مدركةً لأول مرة ما يستطيع الشعب فعله عندما يبلغ به الغضب مداه، أصبحت الحكومة، أفعالاً و أقوالاً، تعكس احترامًا غير مسبوقًا للشعب.

وبالرغم من التفافها على مطالب الثورة، إلا أن الحكومة كانت تحاول باستمرار تفادي أي تصرف قد يثير الشعب ويدفعه للخروج إلى الشوارع ثانيةً.

وبغض النظر عن أفعال الدولة، إلا إنها حافظت باستمرار علي وهم التوجه نحو مصر أكثر حريةً و ديمقراطية. ويبدو أن الدولة أدركت الآن أنها لم تعد بحاجة للمحافظة على هذا الوهم بعد الآن.

باستثناء عدد صغير ظل يعود إلى الشوارع، لاحظت الدولة أن أغلبية الشعب – الكتلة الحرجة التي جعلت ما حدث في ٢٠١١ ممكناً- لا تلتفت للحياد المستمر عن طريق الثورة. وازداد ارتياح السلطات عندما نزلت أعداد غفيرة إلى الشوارع في يوليو، استجابةً لطلب الفريق عبد الفتاح السيسي لمنحه \”تفويضًا شعبيًا لمحاربة العنف و الإرهاب\”، مما كان بمثابة إذنًا واضحًا من الشعب لاستخدام العنف ضد المتظاهرين من أنصار الإخوان المسلمين دون حساب.

بعد أن زاد هذا الإذن من جرأتها، هاجمت قوات الأمن اعتصامين مطالبين بعودة محمد مرسي بعنف غاشم أدي الي سقوط أكثر من ٦٠٠ قتيل في يوم واحد، وتحول يوم ١٤ أغسطس إلى أحد أكثر الأيام دمويةً في الثورة المصرية.

عندما فشل حتى هذا الحدث في إثارة الشعب، اطمأنت الدولة و أطلقت يدها تماماً.

بعد أن كانت وزارة الداخلية و غيرها من المسئولين يتحدثون عن تحقيق مطالب الثورة و إجراء الإصلاحات بمؤسسات الدولة، أصبحوا الآن يتفاخرون بقمعهم لمن يتم منحهم لقب \”خطر على الأمن القومي\”. تعهدت القوات الأمنية باستعادة الأمن بيد من حديد.

في أحداث الفيلم، يتناقش الرئيس مع مصمم الألعاب عن قلقه من أن القوة التي اكتسبها رابحو ألعاب الجوع في السنوات الماضية قد أصبحت تشكل خطرًا عليهم و قد تمكنهم من قيادة الشعب إلى طريق الثورة. يتوصل الرئيس لحل و هو الزج بالمنتصرين في لعبة جديدة، لا ينجو منها إلا واحد، لكي يثبت للجميع أنه لا أحد محصن ضد بطش النظام.

من المؤكد أن مناقشة مماثلة قد حدثت في مكانٍ ما في مصر قبل أن تقتحم قوات الشرطة منزل الناشط علاء عبد الفتاح منذ بضعة أسابيع. عبد الفتاح هو الناشط الذي يحوز اعتقاله علي القدر الأكبر من الاهتمام المحلي و العالمي. لكن قوات الشرطة لم تلق بالاً لردود الفعل المتوقعة عندما اعتدوا عليه و على زوجته بالضرب في منزلهم، ثم استمروا في حبس عبد الفتاح و إحالته للتحقيق الجنائي بتهمة خرق قانون التجمع الجديد بالإضافة لتهم أخرى.

هذا الحدث مثير للقلق – ليس لأن عبد الفتاح أكثر أهميةً من الآلاف الآخرين الذين تم اعتقالهم منذ شهر يوليو – و لكن لأن تصرف قوات الأمن يظهر مدى انعدام الخوف عند الدولة. لقد وصلت درجة الراحة و الاطمئنان عند الدولة المصرية للانتقال من مرحلة عدم الاهتمام باخفاء تصرفاتها غير الديمقراطية، إلى مرحلة التباهي بهذه الأفعال و إبرازها عن قصد لإرسال رسالة إلى الجميع بأن الدولة قد عادت لوضعها القديم، و أقوى من ذي قبل.

إن وجود نظام مطمئن لوضعه إلى هذه الدرجة، كان أحد ركائن الفساد الفج الذي وصل إليه نظام مبارك قبل رحيله.

فقبل يناير ٢٠١١ ببضعة أشهر، أشرف مبارك على آخر انتخابات برلمانية في عصره. في الانتخابات السابقة، كان الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم في ذاك الوقت يبرم الاتفاقات مع الإخوان المسلمين و بعض من منافسيه الآخرين ليسمح لهم بالفوز ببضعة مقاعد بهدف إضفاء وهم النزاهة و المنافسة الشريفة على الانتخابات.

و لكن في ٢٠١٠، تخلى الحزب الحاكم عن حذره و استبعد كل منافسيه تقريباً، فائزًا بأغلبية غير مسبوقة في البرلمان من خلال عملية تزوير فجة. كان التزوير علنياً و طائشًا، و تم التخلي عن كل الإجراءات التجميلية التي كانت تتبع عادة.

أما الدولة الآن، فتحقق نفس هذا المستوى من الوقاحة بإجراءات مثل القبض العشوائي، استخدام العنف، و الأحكام القضائية على المتظاهرين المبالغ في قسوتها إلي حد مناف للعقل. يزيد علي هذا إصدار قانون يضع قيودًا تعسفية على حق التجمع السلمي، وهو الحق الذي كان مقدسًا منذ ثلاث سنوات حتى من قبل الحكومة نفسها.

كل تصرف للحكومة و كل كلمة يتفوه بها مسؤولوها يقطر احساساً بأنها لا تقهر، و كأنها تعرف أنها فكت شفرة الشعب و أنه أصبح الآن لعبة بين يديها. إن الحديث عن المخاطر التي تحاوط الجيش يكفل لها القبض على المتظاهرين، و ذكر كلمة الإرهاب في كل بيان يعطيها ما يكفي من التبرير لقتل بعض الأشخاص، واعطاء أي شخص أو أي شيء لقب \”خطر على بناء الدولة\” يجعله ضحية مثالية للقمع.

عندما أفكر في حال المسئولين خلف الأبواب المغلقة، كان يحلو لي أن أتخيلهم يعصرون رؤوسهم قلقاً و تفكيراً بشأن ردود أفعال الناس علي قراراتهم، أما الآن فلا يسعني إلا أن أتخيلهم مستريحين خلف مكاتبهم، و هم يصدرون الأوامر بزيادة القمع، بلا أي حساب للشعب.

أفكر في حال المسئولين خلف الأبواب المغلقة، كان يحلو لي أن أتخيلهم يعصرون رؤوسهم قلقاً وتفكيراً بشأن ردود أفعال الناس علي قراراتهم، أما الآن فلا يسعني إلا أن أتخيلهم مستريحين خلف مكاتبهم، و هم يصدرون الأوامر بزيادة القمع، بلا أي حساب للشعب.

أن تتمكن الحكومة من انتهاك حقوق الناس بهذه الدرجة من الارتياح و بلا أدنى خوف هو بمثابة بصق على قبور الذين ماتوا من أجل الكرامة.

* كاتبة مصرية
**المصدر: MadaMasr

إقرأ أيضا