معركة \”جريبيعات 1910\” بقيادة السعدون: رسم حدود العراق الجنوبية بالسيوف! 2 – 2

بدأت التمهيدات لغزو إقليم المنتفك بزيارة قام بها عبد العزيز بن سعود، إلى الكويت في 26 شباط/ فبراير 1910، وهو بالمناسبة كان قد عاش طفولته فيها بعد أنْ انتصر عليهم آل الرشيد واحتلوا الرياض وطردوا منها آل سعود إلى الكويت، في وقت تزايدت الخلافات بين سعدون المنصور السعدون، شيخ المنتفك، وشيخ الكويت. وكانت خلافاتهما حول مسائل مالية وتجارية.

وآل السعدون هم الأسرة المتنفذة في إقليم المنتفك، وبعض المؤرخين يسمونه \”مملكة المنتفك\” مع عدم وجود ملك أو مملكة معترف بها فيه، من عام 1530م وإلى عام 1918م، وكان لها موقعها القيادي في اتحاد قبائل المنتفك وهو الاتحاد القبلي الضخم الممتد من شمال وشمال شرق الجزيرة العربية وإلى وسط العراق. ترجع أصول الأسرة السعدونية للأشراف \”من المسلمين السُنة\”، وقد كان أجدادها المباشرون أمراء للمدينة المنورة لأكثر من خمسة قرون، من الرابع الهجري وحتى التاسع الهجري، وقد لعبت أسرة السعدون الدور الأبرز في تاريخ العراق ودورا مهما في تاريخ الجزيرة العربية والمنطقة الإقليمية، وقد سقط حكم أسرة السعدون بالمنتفك في الحرب العالمية الأولى، ولكن نفوذهم الاجتماعي ظل قائما مثلما ظلوا يعيشون مندمجين في محيطهم.

نعود إلى تحضيرات ابن سعود والصباح للحملة ضد المنتفك، حيث يخبرنا المؤرخ د. عبد العزيز عبد الغني إبراهيم الذي اعتمدنا على كتابه \”أمراء وغزاة\” بشكل أساسي، يخبرنا بأسماء القبائل التي شاركت في حملة ابن سعود ومبارك على المنتفك وهي: عجمان، مطير، العوازم، بنو هاجر، بنو خالد، آل مرة، عتيبة، قحطان، سبيع الطواطة، وعريبدار الكويت. أما عدد فرسانها كما قدره الوكيل البريطاني في الكويت، فيتراوح  بين 2500 ـ 3000، وهو عدد يقل بألف فارس تقريبا عن فرسان جيش المنتفك، ولكن هؤلاء – فرسان المنتفك – هم من سيحسم المعركة ويشتت شمل الفرسان السعوديين والكويتيين شذر مذر ويجبرون القوات الكويتية التي يقودها جابر بن مبارك الصباح على الهرب من الميدان في بداية المعركة. أمّا راكبو الهجن في الحملة السعودية الكويتية \”فعددهم كذرّات الرمل\” كما سبق واقتبسنا، وهؤلاء لم يكن لهم مقابل في جيش المنتفك ولكن إعصار الفرسان العراقيين هزم الفرسان النجديين والكويتيين ثم بعثر راكبي الهجن فاستسلم الآلاف منهم بعد مقتل المئات. لقد تدفّقت القبائل من شمال الإحساء لتشارك في الحملة السعودية الكويتية طمعاً في المغانم العراقية الثمينة. وقد أصبح عبد العزيز القائد الأعلى لهذه القوة كأمر واقع.

 أما المؤرخ سالف الذكر فيعتقد أن (تعيين عبد العزيز قائداً أعلى لهذه القوة لم يجئ اعتباطاً إذ أنّ أغلب القبائل التي ستسير إلى الحرب هي قبائل نجدية، وعليه فلا يعقل أن تناط قيادة قوة كهذه برجل غيره. ويشير تقرير الوكيل البريطاني في الكويت بأن عبد العزيز قد ثَبَّط هِمَّة مبارك عن الخروج بنفسه مع الحملة مراعاة لسنّه، وحرصاً على صحّته. وأن مبارك قد استجاب لذلك تقديراً منه لعبد العزيز، وثقة منه في حنكته، ومقدرته العسكرية). ونفهم أيضا من تقرير الوكيل البريطاني أن مبارك لم تكن له مثل هذه الثقة في ابنه جابر الذي خرج أيضاً مع الحملة وربما كان قد دفع به إلى تلك الحملة للتخلص منه ولا شيء يردعه عن ذلك فقد سبق له أن قتل أخويه محمد وجراح لينفرد بحكم الإمارة الصغيرة كما أسلفنا. ولربّما تذرّع عبد العزيز بهذه الحجج حتى لا يخرج مبارك مع الحملة في تلك الفترة لأنهم يخشون من امتداد النفوذ البريطاني إلى داخل شبه الجزيرة العربية، ولن يحقّقها له البريطانيون الذين اقتصرت مصالحهم بصفة عامة على السواحل، وبصفة خاصة في هذه الفترة وفي هذه المنطقة على الكويت، التي تمثل النهاية المقترحة لخط حديد برلين بغداد. ولن يحقّق عبد العزيز بن سعود بالطبع، لمبارك رغبته هذه لأنّه حمل رأسه على كفّه وخرج ليرد المنطقة لطاعة السعوديين، ولم يكن مبارك سعودياً. ولن تحقّقها له القبائل التي ما كانت تعرف لذلك الشيخ حقّاً تاريخياً على أراضيها، ولهذا كان التناقض الكبير. ولعلّه من أجل هذا كانت أنظار عبد العزيز تتّجه إلى الإحساء حتى يستغني بها عن الكويت ويجد منفذاً لا ينازعه فيه أحد).

عن وقائع هذه المعركة الضارية والعجيبة، يكتب د. عبد العزيز عبد الغني إبراهيم وعذرا لطول الاقتباس لأهميته الفائقة (تكاملت هذه القوات في الجهرة، وخرجت الجموع في 13 آذار/مارس 1910م تزحف إلى أرض المنتفق، والتقت بقوات السعدون في يوم 16 مارس بين الرحيمية والوقبا والضريبيات، في منطقة تسمّى \”جريبيعات الطوال\”. هاجمت القوات المشتركة قوات السعدون عند الفجر، وتراجعت المنتفق دون خسارة تذكر واستجمعت قواها، وأغارت فجأة على الجناح الأيمن المشكّل من \”عربيدار\” الكويت وبدو مطير. ولم يكن أمام جابر بن مبارك إلا أن ينسحب من أرض المعركة تاركا ابن سعود وجماعاته تناوش قوات المنتفك الضاربة. وقام عبد العزيز وأخوته ومن معهم من العجمان خاصة بمحاولات يائسة حتى لا تكون الهزيمة ساحقة. تقول المصادر البريطانية أن عبد العزيز قد تراجع بجماعاته تراجعا تكتيكيا مدروسا، وقاوم بثبات، ولكنه لم يستطع أن يستخلص النصر من براثن الهزيمة، فقد فرّت جماعات الكويت ومجموعات أخرى من البدو. ولم تكن قوة السعدون ضعيفة فقد كانت المنتفق كلّها وراءه، كما شاركته جماعات من الظفير، وعاضدته قبيلة شمّر بخمسمائة من فرسانها في المعمعة. كما اشترك معه الكثير من القبائل والعشائر العراقية الجنوبية مثل زايد، وسميت، والصفا، والمجاريد، وبني مالك والشريفات، وبني حسين، والفضول، والخزاعل، وبني يهشم، وبني لام، وبني خاقان وبني سعيد، وكثير غير هؤلاء من عشائر العراق العثماني. ويقول الوكيل البريطاني ـ نقلاً عن أحد شيوخ العجمان الذين فرّوا من المعركة طلباً للنجاة ـ بأنّه كان للسعدون 4000 فارس كانوا أكبر أثراً وأكثر قوة ونفراً من فوارس ابن الصباح وابن سعود. وشهد العجمي بأن هذه الحملة الكويتية السعودية كان يمكن أن تصل إلى الإبادة والدمار الشامل لولا وجود عبد العزيز وتمرّسه في الحرب، ولولا تهاون القوات المنتفكية في قتل الأسرى، فقد طلب سعدون المنصور السعدون من مقاتليه أن يجرّدوا الأسرى السعوديين والكويتيين من السلاح والعدة ويتركوهم إلى حال سبيلهم أمراء وغزاة ص/ 229). أما السعوديون والكويتيون فقد أطلقوا اسم \”هدية\” على هذه المعركة، في إشارة كاذبة منهم إلى أنهم تركوا أسلحتهم وكامل عدتهم بل وحتى ملابس بعضهم، بعد أن استسلموا لمقاتلي المنتفك، معتبرين ما أرغموا على تركه في ميدان المعركة \”هدية\” لا غنيمة حرب لهاربين مذعورين من ميدان المعركة!

بهذا تكون قوات المنتفك بقيادة سعدون المنصور السعدون قد رسمت وبشكل نهائي وبالسيوف والبنادق والدماء الحدود الجنوبية للعراق، ورسخت عراقية الجزء المحاذي للعراق من إقليم نجد وأنهت إلى الأبد التهديد السعودي الذي سيتحول لاحقا إلى غارات إجرامية يشنها فرسانهم على عدد من مدن الفرات الأوسط، شمالي المنتفك، فيقتلون المدنيين بهمجية وينهبون ما تقع عليه أيديهم خصوصا من مدن العتبات المقدسة ويهربون بتلك المنهوبات إلى الصحراء الشاسعة وستكون لنا قريبا وقفة مسهبة عند وقفة عز وتضامن عراقية وقفها علماء الدين المسلمين السنة بتاريخ 5 نيسان / أيار سنة 1922 تضامنا منهم مع مواطنيهم المسلمين الشيعة الذين ارتكبت بحقهم العصابات الوهابية مجزرة آنذاك في كربلاء فقتلت أكثر 150 شخصا بينهم أطفال ونساء من زوار العتبات المقدسة، فزارت وفودهم مدينة النجف حاملة فتوى جماعية أصدرها علماء الدين السُنة في بغداد تقضي بوجوب مقاتلة الوهابيين المعتدين الذين كانوا يقومون بتلك الغارات الإجرامية في بدايات القرن الماضي.  

* كاتب عراقي

إقرأ أيضا